رسالة سرد

في الحروب و الخسارات الكبرى يروي التاريخ أن البشر يُطحنون كما كل شيء، وعندما تنتهي الحرب لا يبقى منهم ما يدل على أنّهم كانوا يوما يملكون أحلاماً وماضياً دمرته الحرب وربما لا يبقى دليل على أنهم كانوا أصلاً.

تُدمر الأمكنة ويموت الأشخاص والناجون من الموت يموتون بقهر الحنين إلى ماضٍ لن يعود.

حدث أن خسر الفلسطينيون أرضهم يوماً إثر حرب، ولكنهم كانوا من البساطة أنّهم أملوا بالعودة إلى تلك الارض في أيام قليلة لذلك لم يعطوا بالاً لصيانة ذاكرتهم مع ذلك المكان، و كلما كان الغياب يمتد أكثر كلما غاب الماضي أكثر في تفاصيل الخيال وتغيرت معالمه عما يرويه من بقي حياً ممن خرج من هناك قبل سبعين عاماً ولم يعد أو بعبارة أدق لم يتمكن من العودة، أما تلك الأرض فلم يبق منها ما يدل عليها سوى الحلم بها، وحديث من بقي حياً سواء الحقيقي منه أو الخيالي بمعظمه.

استقر الفلسطينيون خارج أرضهم وبنوا بيوت أخرى ونهضوا من جديد، لكنهم كانوا بلا ذاكرة حقيقية لتلك الأرض بحجم الحلم الكبير عنها، لقد دمّر الغزاة كل شيء في حين آثرت الضحية الصمت.

رحيل كبير لم يسبق أن حصل مثله في التاريخ الحديث للمنطقة مرّ بهدوء، دون حتى أي مزقة ورق شخصية لأيٍ من الضحايا الهاربين حفاةً من الموت، حكايا الأباء بقيت في ضمير الأبناء عن وطنٍ مفقود طالما وصف وصفاً لا يختلف كثيرا عن الحلم بالجنة المفقودة ، أما المأساة بمجملها فقد ألقي عليها الستار وكأنها لم تكن أصلاً، كل المآسي التي حصلت: أطفال ماتت ودفنت في الطريق، نساء ولدت أطفالا ضاعوا وقت الهروب على عجل، أثرياء تحولوا لمتسولين في غمضة عين و المجتمع الريفي بكامله تحول في لحظة ولادة قيصرية للعيش على هامش مدن اللجوء، باختصار مجزرة صامتة حصلت، تواطئ أصحابها على السكوت عنها ربما بدافع الأمل و ربما بتأثير آلية دفاعية طوروها لصيانة الكرامة من ذلٍ أصاب هؤلاء الهاربين فآثروا الصمت.

يجادل الأبناء أن هؤلاء اللاجئون استطاعوا النهوض من جديد ومع الصحة التي يحملها هذا الافتراض إلا انه ليس سوى تبرير لفقدان القدرة على توثيق الذاكرة في ذلك الوقت وفقدان الرغبة أيضاً.

لكن الواقع الآن مختلف، لقد دُمر كل شيء تقريباً، حصل هذا في رقعة جغرافية كبيرة و ربما سيستمر هذا الخراب الى فترة لا يستطيع أشدّ المتفائلين توقع تاريخ قريب لنهايته، و المنافي هذه المرة بعيدة جداً ومن رحل هناك لم يبق هو هو كما كان في تلك الارض، الآباء هذه المرة يدفعون ابنائهم ليكونوا أبناء تلك العوالم الجديدة بعد أن كانوا سابقا ينهونهم عن مجرد الحلم بالمغادرة، بعضهم يقول حسناً نحن فقط نتعلم لغتها ونبحث عن عمل لاكتساب قوت يومنا ونسعى لاكتساب جنسيتها فقط كي ننجو من حياة اللايقين، وبعضهم يقول لم يبق هناك ما نفكر بالرجوع إليه أو حتى التفكير بذلك، ربما يحصل هؤلاء الابناء على فرصة جديدة للأمل، ربما هذا صحيح،

لكن الاكيد أن هذا الأمل خارج المكان سيجبّ ما قبله من حياة أولى في طريق تحققه، الأمل هنا عندما يتحقق يكون الأشخاص قد تغيروا تماماً.

لذلك جاءت الفكرة

سنكتب كل شيء، بالكلمات سنعيد تشييد ما دمرته الحرب و سنجعل الذاكرة سلاحاً لنا وعلينا، يمنع التفاصيل من التحول لقبضة رمل متسربة ببطءٍ من خيالنا و يمنع خيالنا من المبالغة في خيارات الأمل البعيد و الأهم من كل هذا أننا سنرفض التحول إلى مجرد أرقام في مطحنة التاريخ، نحن بشر ولهذا سندافع عن حكاياتنا قبل أي شيء، كان لنا تاريخٌ كما كل البشر، وقصص و أحباء و أحلام و حكايا أمهات سمعناها و نسمعها قبل النوم، سنكتب عن الذين لم يحالفهم الحظ بالنجاة كي تظل ذكراهم ماثلة بيننا و ربما كي ننجو من سموم القهر المخبوءة في أعماقننا بأننا لازلنا أحياء.

لم يبق إلا تلك الذاكرة اللعينة، المحشوة بالهزائم و الدموع وبالديناميت أيضاً

لم يبق شيء لنقاوم به أو عنه سوى هذه الذاكرة الشقية، المتعالية عن حاجة الضحية إلى البكاء و الفائضة أيضاً عن قدرة الأشرار على الإنصات.

لم يبق غيرها من سلاح

فلنستعمله إذا

لنحاول كتابة تاريخنا معاً

لنجرب أن نكون تلك الضحية التي كتبت تاريخها قبل أن تموت، لنجرب أن نكون الضحية التي حرمت قاتلها نشوة النصر، و قالت كلمتها ولو بعد فوات الأوان

هل فات الأوان ؟

سنقاوم حتى آخر قطرة من الحياة

سنقاوم ولو بالذاكرة

لنكتب تاريخنا، شهادتنا الفردية، الروايات الحية لمن لا يستطيعون الكلام. آلامنا، خيباتنا، عشقنا هل جربنا أن نكتب ذاكرة العشق يوماًّ!

هل جربنا أن نكتب ذاكرة الأحلام التي لم تتحقق أو تحققت!

ذاكرة المكان، ذاكرة الرحيل، ذاكرة الموت، ذاكرة الحصار، البحر، المنفى، محاولات الاستقرار، استكشاف المكان الجديد، صدمة اللغة الجديدة، النجاح، الحنين للمكان الأول، الفقد…..

كلّ شيء… كلّ شيء

باختصار لنكتب كلّ شيء، لنجمع معاً لمام الذاكرة الفردية للأفراد لحظة تقاطعها مع المصير العام للجماعة، لنحاول معاً تسجيل نقطة التقاء الخاص بالعام في الذاكرة الشخصية للضحية.

هذه الضحية التي حتّى و هي في لحظة احتضارها، ترفض أن تموت

هل هذا ما يسمونه الأمل !!

ربما

لنحاول معاً

لنسرد ذاكرتنا التي يحاولون تزويرها حتّى ونحن أحياء، لنجمع حبات الضوء المتناثرة هنا وهناك

علّنا نصنع بها فتات نور

لنكتب حكايتنا….لا سبيل أخر كي نستمر

زر الذهاب إلى الأعلى