ذاكرة لجوء

خيمة عن خيمة تفرق

16-12-2012

هذا التاريخ تحديدا قد يبدو رقماً عادياً كبقية ارقام السنة يعلو صفحة المذكّرة اليومية في تاريخ اي شخص  لكنه لم يكن كذلك في تاريخ فتاة  فلسطينية في بداية صِباها مع تاريخ ويوم لم يكن في الحسبان

يوم قد يبدو اعتياديا لأي عابر سبيل يقيم خارج تلك البقعة التي تحتل جزءاً من جنوبيّ العاصمة دمشق

المُسماة “بمخيم اليرموك”

ذلك التاريخ الذي كان بمثابة بداية جديدة لحياة ما يقارب ال 300 ألف شخص ورحلة جديدة نحو اللجوء

و بالرغم من أنني وُلدت في دمشق كما ابي وامي ، وبالرغم ايضا من انني غالبا لم أرى في دمشق اي نظرة عنصرية قد تفرق بيني وبين أي مواطن سوريّ ، إلا أن شعور الغربة وُلد معي ،كما أنني لم أكن أتوقع بأن مصيري سيكون خارج المخيم الذي عهدت عيناي أن تراه بحجم وطن ، أو إن صح التعبير كوطن مؤقت كأقل تقدير أو كمواساة يقبلها القلب والعقل قليلا!

لقد خرجنا , خرجنا من “مخيم اليرموك” بعد أن قُصف وكان باعتقادنا ان ذلك الخروج لن يدوم سوى بضعة أيام!

 

حيّ الزاهرة (تشتت العائلة) :

قُسّمنا إلى قسمين لاستحالة الخروج بمجموعة كبيرة في تلك الليلة الماطرة بالقذائف

استطاع قسم من عائلتي الخروج في تلك الليلة من المخيم على الرغم من ارتعاشنا رعباً بسبب القذائف والقناص الذي تعلو بندقيته الشقق السكنية المرتفعة ،الذي جعلني اجلس في وسط الطريق كطفلة صغيرة باكيةً أريد أمي التي بقيت في المنزل مع إخوتي الصغار وأختي الكبيرة ، بعد محاولات عِدة ملأها الرعب في تجنب القذائف والرصاص استطعنا الخروج من المخيم إلى منزل العم “أبو منير” لنبيت عنده تلك الليلة السوداء ريثما يهدأ الوضع و بانتظار ان يأتي القسم الثاني من عائلتي لنذهب سوياً إلى لبنان البلد المجاور وحيث والدي .

كانت اصوات القذائف والرصاص التي تعلو من اتجاه المخيم توحي لنا “بيوم القيامة” حيث الرعب والاندهاش على وجوه الجميع ، اذكر حتى الآن صوت ذلك الأب المحقون بالدموع الذي يبحث عن ابنته حنين في وسط زحام الناس الهاربة من المخيم

لا ادري كم من حنين قد فُقدت في ذاك اليوم..

 

القسم الثاني من عائلتي لم يستطع اللحاق بنا ، و بعد أن قضينا ليلة كابوسية اشبه بالجحيم بعيداً عن باقي عائلتي ، كان القصف قد هدأ ، و حينها تمكن القسم الأخر من عائلتي باللحاق بنا في صباح اليوم التالي

عندها التقينا بعضنا عند “دوار البطيخة” لم نصدق ان احداً لم يصبه مكروه وأن الجميع خرج من تلك الليلة الدامية بخير

على الاقل جسدياً ..

رحلتنا إلى لبنان :

أمضينا والمئات ليلة كاملة على المصنع اللبناني بانتظار “تأشيرات الدخول”

كانت الصدمة هي العامل المشترك الوحيد بين صغير وكبير  ،كيف حدث هذا بين ليلة وضحاها ! كيف يمكن لمخيم يقطنه ما يقارب 300 ألف -اضافة لعائلات كثيرة قد لجأت إليه بعد الثورة وتأزم الوضع في المناطق المجاورة- أن يصبح مدينة أشباح خالية من سكانها

إلى الآن لا يوجد جواب لهذا السؤال ..

كان عمري خمسة عشر عاماً عندما بدأ هذا التغير الجذري في حياتي او ربما هذه النقلة الاجبارية في حياتي

من طالبة ثانوية مراهقة جلّ ما يهمها آخر صيحات الموضة والخروجات مع اصدقائها إلى فتاة جُرّدت من أبسط أحلامها

لم أستطع إكمال دراستي في اول سنتين من وجودي في لبنان وذلك بسبب جنسيتي “الفلسطينية” وصعوبات أخرى !

لكنني لم استطع الجلوس مكتفة اليدين دون دراسة أو عمل لذلك تطوعت رغم صغر سني في احدى المؤسسات والتي كانت تسمى right to play  لدعم نفسية الأطفال تلك المؤسسة التي كانت بداية جميلة تحمل بعض الرفاهية وربما بعض المسؤلية في مسيرتي الأولى في لبنان

 

وفي ذاك الحين كنت أصغر متطوعة في تلك المؤسسة ، المضحك المبكي في الموضوع هو : كيف يمكن لفتاة قد خرجت لتوّها من الحرب أن تدعم نفسية طفل ايضاً في نفس وضعها !

ولكن كانت تلك نقطة التحول في حياتي ، حيث استطعت تحويل كل تلك المشاعر السلبية التي تراكمت داخلي بسبب الحرب إلى مشاعر حب وطاقة وأفكار ايجابية نقلتها بنجاح الى الأطفال !

استمر عملي مع مؤسسة right to play ما يقارب الأربع سنوات ” فترة وجودي في لبنان”

إلى جانب الكثير من الأعمال التي قمت بإنجازها كالعمل في مكتبة غسان كنفاني وتدريس اللغة الانجليزية وانهائي لدراسة الثانوية العامة في مدرسة للائتلاف السوري بعد عناء طويل

توصل أبي لقرار السفر لما يسمى ببلاد المهجر وذلك بعدما ساء الوضع اكثر في لبنان بالنسبة للفلسطينيين وخصوصاً اننا لسنا فلسطينين فقط بل “فلسطينين سوريين”وهذا كان يزيد العبء الى اعباء وهم اللجوء إلى هميّن، ايضا كما كان يجب علينا جميعاً  اكمال تعليمنا الجامعي ولكن لم يكن لدينا القدرة على ذلك لنفس السبب الا وهو جنسيتنا الفلسطينية .

 

وبهذا كانت قد انتهت محطتنا في لبنان لتنتقل إلى هولندا ولينتقل معنا مسلسل اللجوء الذي لطالما اصبح اعتياديا بالنسبة لي، لم اشعر بأي فرق او اي شعور بالغربة عندما انتقلت للعيش في هولندا

لا أعرف إلى متى سوف يبقى هذا الوضع يطاردنا

او ما هي المحطة الاخيرة في حياتي كلاجئة بقدر ما أعرف صعوبة تلك اللغة المحلية ” اللغة الهولندية” وصعوبة إكمال الدراسة في اوروبا خصيصاً أن شهادتي لم يُعترف بها !

امور شائكة ومعقدة كانت تطارد تفكيري في كل لحظة

ولكن بعد عناء طويل ومدة قصيرة استطعت أن انتهي من المستوى الجامعي المطلوب للغة والنجاح بامتحان القبول الجامعي

رغم ذلك الانجاز لم اشعر بشيء يُذكر ، ربما بسبب التراكمات التي لطالما انكرتها امام الجميع وتظاهرت باللامبالاة بالوضع الراهن وأنه يمكنني تخطي هذا كله

وبسبب مقولتي الشهيرة “يجب أن نعتاد كفلسطينيين على أمر اللجوء وصعوبة تحقيق ما يجده الآخرين سهلاً ” التي لطالما واسيت بها كل متذمر من اللجوء المتكرر واقنعته بها كمان اقنعت نفسي

والتي قد تجاوزت بسببها الكثير من الازمات النفسية التي طاردتني اشباحها بعد تلك الليلة المشؤومة

الساعة الآن الرابعة والنصف فجراً ، أجلس في غرفتي في هولندا وعلى فراشي الذي أتمنى يوما أن يكون ثابتاً كما فراش الآخرين !

اتذكر كل تلك الاحداث بعد مرور اكثر من خمس سنوات عليها ، كما وكأن ذاكرتي لازلت تعاهدني بأنها لن تنسى ابداً مخيم بحجم وطن

ابتسم واتساءل : هل الله خلقنا بهذا الجبروت لكي نتحمل كل الاحداث والحروب والنكبات التي مررنا بها أم أنه جبروت اكستبناه مع الوقت وبفعل طبيعة الحياة التي فُرضت علينا!

هل هذه المحطة الاخيرة في حياتي اللجوئية أم أن هناك محطة أخرى !

في حياة أخرى ، هل سيكتب علينا كفلسطينيين التنقل الدائم ام أننا سنحظى بقليل من الاستقرار !

تلك الاسئلة تشبه لحد ما سؤال كيف بدأ الخلق !

لا جواب محدد لها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

12 + 10 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى