حاشية على متن ثدييك
حين تلقيتُ تلسكوبي الأول – والأخير- كهدية، صوّبته نحو الأرض. فتسلل قطيع من الديناصورات إلى علبة السكر في المطبخ، وكان تأمل ثدييك أكثر إثارة من قراءة مجلد كامل لفتجنشتاين، وأصعب.
حين يراهما، يمزق الرسام لوحاته: لو عرفتُهما من قبل ما رسمتُ غيرهما.
حين يراهما، يعثر الأركيولوجي على طريقه وسط أحقابه الجيولوجية.
حين يراهما، يلمس الأسير حريته بكفين عاريتين.
حين يراهما، يثمر الكاكاو ويستعيد الملحد إيمانه.
حين أراهما، أهرع نحوك سنجابا يعدو في حقل أخضر.
لكن جاليليو جاليليه كان أبعد نظرا وأثرا مني، فكان من الطبيعي أن يفرد له بريخت مسرحية كاملة دون أي ذكر لي. مقتبسا التصميم البدائي نفسه الذي ابتكره هانز ليبرشي في أمستردام، اكتشف جاليليو ثلاثة أقمار تدور حول المشتري، ما دفعه – وأشياء أخرى- إلى اعتناق نظرية كوبرنيكوس: إذ ألا يفترض أن الأرض في مركز الكون وكل شيء يدور حولها؟ وكاد يقضي حرقا بتهمة الهرطقة.
أما أهم إنجازات المقراب – قبل مولد تلسكوب هَبِل الفضائي- فتم عام 1839 على يد (وعين) جاريبالدي بطل الوحدة الإيطالية. وكان حينها ثائرا في البرازيل مكلفا بمراقبة الشواطئ بالتلسكوب، حين وقعت عدساته المكبرة على أنيتا ريبراس، الفتاة التي سلبته لبه من أول نظرة، وأصبحت زوجته بعد أن اختطفها، في قصة ليس محلها هنا.
شيء ما يجعلني أجزم ألا أحد ممن سبق ذكره، بمن فيهم حسن الذكر هَبِل، قد رأى ما رأيت. ففي معاركي المشهودة مع الجن فقدتُ سني القاطعة العلوية اليسرى، وأصبت بخلع في الكتف الأيمن مع كسر في عظم العضد، إضافة إلى أنف مشوه، ونوبتي اختلاج أفضتا إلى إغماء. لكنْ لا شيء دفعني إلى إنكار إنكاري: ظلتُ مصرّاً أنني أقع ضحية خدعة مُحكمة في كل مرة، أو أنني أحلم، أو أشاهد تصوير فلم، أو أصبت بذهان، أو أن أحدهم دس لي دواء مهلوسا (مفعول المهلوسات مذهل، بعضهم مازال يعزو الثورات العربية إليها)، أو حتى أنني ألفق هذه القصص لمآرب أخرى.. المهم أنني ضقت ذرعا بهذه الحكاية، وأردت وضع حد لها، فأخبرت صديقا مقربا بما يحدث معي، فلم يخفِ شماتته. ولأن الغريق يتشبث بقشة، والنفس أمارة بالسوء، فقد وافقته على اصطحابي إلى شيخ عالم بالدين ممن فائض النور الذي تشعه وجوههم كفيل بطرد الشياطين وأسراب الخفافيش، وإنارة الحجر الأسود.
بعد أداء بعض الشعائر الكلامية والحركية – هؤلاء القوم لديهم فهمٌ معمقٌ للنصوص الدينية- دار حوار بين العالم والجان الذي يتلبسني، تبين في إثره أن عفريتة من الجن قد وقعت في غرامي ولم تعد تطيق فكاكا. حتى أنها أنشدت فيّ حينها قصيدة نثر سمعها كل الحضور إلّاي، وقد ذكر لي صديقي فيما بعد مطلعها:
“كلما فكرتُ فيك
اكتنز صدري حليبا”
لم تُجدِ كل التمائم والضرب – الأخير هو ما قصدته بالشعائر الحركية – لكن العالم المحنك عرض على العفريتة صورة شاب وسيم من الجن، فقبلَتِ البدء بمواعدته، وغادرتني. يفترض إذن أني شفيت، لكني خرجت من الجلسة كمن يتخبطني الشيطان من المس، موقنا أن جنيا قد تلبسني الآن بالفعل.
بدأت المشاكل بيننا حين رفضت عرضهم بالتخلي عن نشر أفكاري المناهضة لوجودهم مقابل أن أصبح أميرا للقاعدة في بلاد العجائب. ولم يكن رفضي تعاليا على مبدأ المفاوضات (أو التنازلات) المقدس، بل لأن العودة إلى الحقبة الطالبانية – وهي تسبق مباشرة العصر الجوراسي وفق ما توافر لدي حينذاك من مراجع في الجيولوجيا- لم تكن مما يعنيني. ولا بد من الإقرار ببراعتهم وغبائي، فقد ازدادت عروضهم إغواء وإغراء. مازلت أذكر مثلا كيف عرض علي مسحل بن أثاثة – الجني نفسه الذي لقن الأعشى ميمون معلقته في وداع هريرة- ديوان شعر كاملا لا ينقصه سوى وضع اسمي عليه لكنني ازددت عنادا، أحيانا طمعا بالمزيد، فتحول وعدهم إلى وعيد، وأشهد أنهم كانوا عند كلمتهم، وأهلها. صرتُ كلما أسلمت جسدي للنوم ممنيا نفسي بليلة إباحية طويلة توجب علي الغسل صباح اليوم التالي؛ تسللوا إلى لاوعيي. الجبناء! صنوف التعذيب والرعب التي مارسوها فيّ وعلي جعلتني أنكر ما أقرّ، وأقرّ ما أنكر. سَلي من يشاطرني الغرفة كم مرة استيقظَ فزِعا ليوقظني من فزعي.
صدّتْ هريرة عنا ما تُكلِّمنا…
خلتك قائلة: ما تخبرني به لا يرقى حتى إلى ما تسميه “نصف الحقيقة”، متى ستتوقف عن الكذب؟
لكنك تقولين:
– كما أنت دوما: واضح في غموضه، غامض في وضوحه، كآية في سورة الكهف.
أقول:
– كما أنت دوما: ثدياك المزهوان المنتصبان كأنهما في عرض عسكري، لهما ينحني الكرادلة.
تقولين:
– كلما فكرتُ فيك اكتنز صدري حليبا.
أقول:
– لهذا جئت إليك بكل حذافيري.