ذاكرة لجوء

يا بيتي يا بويتاتي home sweet home

 

حسناً   بعد قرابة العامين أو أقل بقليلّ في ألمانيا، أصبحت أستطيع القول أنّ ما أحبّه في هذه البلاد هو الاستقرار

أسمعهم صباحاً وهم يتوجّهون لأعمالهم وكأنّهم يقولون ” حيّ على العمل وحيّ على الحياة” و أصبحت أيضاً أستطيع القول أن ما أكرهه هنا أنّني لا أملك مساحة ً كافيةً في بيتي لأعلّق عليها ملصقات وصور وكتابات. الآن و بعد رحلتي الطويلة في بيوت متعددة أقول بثقة:

 أريد بيتاً أكبر، لم أعد أطيق البيوت المحطات

جميلةٌ غرفتي الصغيرة في “بوخم”، هي ليست بهذا الحدّ من السوء و لم أكن أمتلك الوقت الكافي لأفكّر في صغر مساحتها أو قلّة ارتفاع سقفها إلّا حديثاً، كان كلّ تفكيري يرتكز على قصاصة شعر لمحمود درويش بجانب نافذتها الكبيرة  كتب عليها :

“متى تنتهي الحرب؟

 حين نلتقي!

 ومتى نلتقي؟

 حين تنتهي الحرب!”

ماذا كان يقصد حينها! وهل كان تفسيره أنّ الحرب تنتهي مع الحب صحيحاً.. نحن التقينا! هل انتهت الحرب بالفعل !؟

سألنا بعضنا عدّة مرّات:

هل انتهت الحرب بالفعل؟ و فرضاً و لأننا كنّا الأكثر حظاًّ بالهروب منها، لماذا لم تنتهي بداخلنا  تماماً! أمازالت الأخبار السيئة الواردة من الداخل لها نفس الوقع علينا ؟ أم أنّها إن لم تكن كانت بحجم مجزرة أو جريمة قتل بشعة فلن نبالي!   

كثيرة هي الأسئلة في أوقات الاسترخاء، كالسؤال لماذا نحن شعب كئيب بالوراثة وكيف سنبدأ بتغيير هذا المفهوم وهل سنحسّ يوماً بالاستقرار؟

فكّرت كثيراً وكثيراً و خرجت بحلٍّ جيّد:

كي أشعر بالاستقرار يجب عليّ أن أبدأ البحث عن بيتٍ جديدٍ أكبر أستطيع به على الأقلّ إخراج كامل أغراضي من الحقيبة

 وبالفعل ، توالت مواعيد رؤيتي للشقق السكنية، هذه جميلة لكنّها ليست بالسعر المعقول و هذه لا تمتلك شرفةً أو حتى شباكاَ كالذي لديّ الآن وهذه صغيرةٌ  لكن بمطبخ كبير يسهّل عليّ تعلّم طبخات جديدة

و إحداها كانت كبيرة جداً لكنّها لا تمتلك ذلك الحائط الذي أبحث عنه، أمّا عن البقيّة فبعضهم لم أشاهده لأنّي لم أفهم تماماً عمّ كان يتكلّم صاحب المنزل وماذا كان يعني –الألمان هنا يتكلّمون بسرعة كبيرة – وبعضهم رفضني قبل الموعد.

بكلّ الأحوال أشعر بحريّة كبيرة لأني لن أختار إلا ما سيعجبني هذه المرّة ولأني تعلّمت ركوب الدراجة بحرفية أكبر خلال  رحلة البحث عن بيت  لمدة ساعة أو ساعتين أحيانا، كما أنّي استكشفت مناطق جديدة وطرقاً كنت أجهلها في هذه المدينة.

و من ثمّ تحوّلت هذه الفكرة إلى هاجسٍ بالغت به، فإن لم أحصل على موعد في يوم ما فإن نهاري لن يكون كاملاً بما يكفي، وبات جميع من حولي يسألني:

 هل وجدتم شقة تناسبكم ؟

لا لم نجد ولكننا نبحث ونبحث

أصبحت الشقة الجديدة سؤالاً مؤرقاً بدلاً من أن تكون حلّا للشعور بالاستقرار!  بعد قليلٍ من الوقت وكثيرٍ من الغرف والبيوت والشبابيك و الأبواب لم نعثر على ضالتنا و لكن حصل شيء ما في رمضان الفائت توقفت عنده كثيراً

فقد باتت تصل الناس أخبار عن بيوتهم  المهجورة في “مخيم اليرموك”، أخبار مرفقة دائماً بالصور والفيديوهات المحشوة بالدموع والحسرة.

بيوت تحت الأنقاض وبيوت واقفة من غير سكّان وبيوت ميّتة،  أناس معدودون و جيش من “العفّيشة ” في وضح النهار و المخيم بكامله كان كتلة ركامٍ و رمادٍ أسود، أغلب البيوت قد دمرت تماماً وسائر البيوت الصامدة قد سُرقت ، و عن بيتنا فلم أملك مقاومة فضولي الذي دفعني إلى  فتح الفيديو الذي أرسله صديق أبي لبيتنا.

تمّ تحميل الفيديو سريعاً و بدأت أرى البيت من زاوية غرفة الضيوف، مازال البيت واقفاً، شبّاك الغرفة الذي تغنيّت به ليلاً نهاراً رأيته بعد ست سنين، مكتبة أبي، الصالون، غرفة أبي وأمّي، ثم غرفة حمودة و أشرف، ما كلّ هذا السواد والفوضى! ولكن لم يرتفع الأدرينالين في دمي،  لم أشعر بشيء!

هل فقدت الشعور بالحزن أم أنها “التمسحة” أم لأن مصيبة غيرنا كانت أكبر!!  لكنّ الفيديو انقلب يميناً فجأة ودخل عدسة الهاتف غرفتي

سريري على حاله مقابل الباب تحت الشباك الكبير، أذكر أنّي مرّةً خبأت تحت السرير  علبة “ماسكارا” جديدة كي لا تستعيرها إحدى أخواتي ولم يتسن لي أخذها ، لربّما سارق البيت رماها أو ربما أخذها لزوجته.

مازالت مكتبتنا تمتلك  مجموعة مجلة ” بلسم” الشهريّة، ديوان جبران خليل جبران لازال في مكانه ولم تزل أسرّة أخوتي بجانب سريري، حتّى الآية القرآنية التي علّقتها أمي لنقرأها صباحاً كي تبارك نهارنا مازالت معلقة على خزانتي.

صور “تامر حسني” “ريان” على الحائط، صورة لاعبَيّ المفضّلين في المراهقة “لويس فيجو” و”ديفيد بيكهام” مازالتا، يا إلهي كم تغيّرت أذواقنا و آراؤنا في الرياضة و الموسيقا والأغاني  ورغم ذلك لم نفكر بإزالة هذه الصور!

أعادني هذا التسجيل إلى المنتصف، منتصف أني أقيم في بلدٍ جديدٍ وأستمتع بكل الصعوبة وبكل الجمال فيه وأشقّ طريقي بنفسي ، ومنتصف أنّي لاجئةٌ حفيدة لاجئ هرب من فلسطين إلى سوريا ثمّ لجأ أحد أولاده إلى لبنان حتى غادروا جميعاً على دفعات متتالية إلى أوروبا، هذا الشعور عاد إليّ قويّاً ثابتاً  بعد عامين لكنّه الآن اختلط  بفكرة  أنّي مازلت قادرة على البحث عن عالمي النهائي.

حسناً، سأبقى أبحث عن بيت جديد، وسأحب هذه الغرفة الصغيرة، وسأبكي حين أرى غرفتي في سوريا، و سأفتقد لغرفتي في لبنان، و إذا وجدت بيتاُ يناسبني أكثر  سأسكنه، وإذا مللت سأتركه، ربما سأسافر إلى بلد آخر، لا مانع، لا يهم  

طالما سأخلق في كلّ البيوت صوراً ومحطّات

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 × 1 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى