طقوس حزن دمشقية

تَفَّرَّسَتْ وجههِ جيداً، فهذا الوجه لا بُدَّ تعرفه، ولكنَّ أضواء صالة الانتظار في مطارات الغربة، قد أعطتْ السوريين هويةً جديدةً بوجوههم وملامحهم الخائفة، وهو يجلس بجانب سيدةٍ عجوز متكئةٍ بكلتي يديها على عكازها، وهو يحتضن حقيبته بين ركبتيه وصدره ويضمها كأم…
…
: “أذكرُ جيداً تلك الشامة الكبيرة التي تتوسط خده، رغم إهماله حلاقة ذقنه، إلَّا أنها مازالت ظاهرةً لبياض وجهه سابقاً… ولشحوبه الآن، يفتح عينيه وهو ينظرُ حوله مُرتبكاً، وهالة سوداء تشيع التعب والأرق حولهما، أتذكر كيف كانت عيناه تتسعان كمجرة كُلَّما ضحكَ ونحن نستمع إلى شعر (أحمد) الهازئ دوماً بالموت؛ (أحمد) الشاعر الذي استشهد بعد عدة أشهرٍ برصاص قناصٍ في حي كفر سوسة.
أجل أذكرُ تلك الابتسامة، آهٍ.. لو يتوقف قليلاً عن الخوف والارتباك، ويبتسم لأتأكدَ من أنهُ هوَ ذات الشخصِ الذي أحببتهُ في مظاهرةٍ (طيارة) في ساحة عرنوس، حين اقتحم عناصر الأمن الشارع المزدحم أصلاً وقت المساء.. اقتحموا كل شيء، بكل همجية العصر الذي نتوه الآن بين أمواجه المتلاطمة بقسوة.
لم أكن خائفةً، وإنما ارتفاع أدرنالين الثورة في دمي، كان يقودني للركض والهتاف والهرب والضحك، ولكني أمامه تصنعتُ الخوف ليَمُدَّ يديهِ أمامي مثل نسرٍ، فاتحاً لي طريقاً بين زحامٍ تهرب عناصره في كل الاتجاهات، أتذكر بأني تخللت بعينيّ شعر يديهِ، وغرقتُ فيه وانسلَّتْ روحي لتقبِّلَ تلك السواعد، التي تظهر قبل انطواء كُم قميصه “المُقَلَّمْ” بالأزرق السماوي، ومن فرط رغبتي بالاختلاء بخياله، لم أعرف كيف افترقتُ عن صديقاتي، و تبعتُ يديهِ إلى زقاقٍ ضيِّقٍ يتفرعُ من أقصى ساحة عرنوس، وعنصران من الأمن -رغم أنهما بلباسٍ مدنيٍّ إلَّا أنَّ هالة النظام والطغاة الخبيثة تكسوهما وتجعلنا نميزهم عن الأشخاص العاديين- كانا يلاحقاننا، وفجأةً فُتِحَ بابٌ أمامنا ودخلنا.
كنت وقتها سأذهب معه، وأتبع تلك الشامة، حتى لو كان إلى الجحيم.
استقبلنا الدكتور عبد الرحيم، وقادنا إلى الطابق العلوي، حيث كان عدد من الشباب والصبايا وامرأةٌ ذات شعرٍ أبيض مختبئين مثلنا، هناك رأيت (أحمد) لأول مرةٍ، وكان يضحك كعادته، ذلك الشهيدُ الأسمر لم يتوقف عن الضحك، حتى عندما اخترقت رصاصةُ القنَّاصِ رأسهُ الجميلَ بشعرهِ الناعمِ، المنسدل فوق عينيه، كان يسخرُ من الطلقة وهي تخترق الهواء لتقتل حلمه، ليسيل دمهُ فوق لافتةٍ، مكتوب عليها بالأحمر (أوقفوا القتلَ، نريد أن نبني سوريا لكل السوريين)، مرمية على الأرضِ، بعد هروب حاملها وكل مَنْ كان حول (أحمد) لحظة أصابته الرصاصة.
تلك اللافتة التي قَتَلَتْهُ واكتملَ أحمرها بدمِ رأسهِ الأسمر الجميل.
بعثتُ الرسائلَ التطمينية لأمي المنتظرة انتهاء المظاهرة، وهي ترتعدُ خوفاً، مثل كل الأمهاتِ اللواتي لم يمنعنَ أولادهنَّ من اغتنامِ الفرصة، ليحققوا أحلاماً هُنَّ عجزنَ عن خوضها، الأمهات اللواتي يحملْنَ وعي المرحلة.
لم أكن خائفةً، وإنما ارتفاع أدرنالين الثورة في دمي، كان يقودني للركض والهتاف والهرب والضحك، ولكني أمامه تصنعتُ الخوف ليَمُدَّ يديهِ أمامي مثل نسرٍ، فاتحاً لي طريقاً بين زحامٍ تهرب عناصره في كل الاتجاهات،
أردتُ البقاءَ في مكانٍ واحدٍ معه، يجمعنا حلمٌ، ثورة، وحبّ عابر، ربما يتركنا في منتصف الطريقِ، ويتركني ثابتةً عند شامتهِ، متمسِّكة بضحكتهِ، مثلما تَمَسَّكْتُ بدمشق لخمسة أعوامٍ، ورفضتُ الرحيلَ عنها، إلَّا عندما خسرتُ أهلي وحاولتُ الحفاظ على ابني الذي أتى في وقتٍ لا يصلح فيهِ الإنجابُ وتربية الأولاد، لا يصلحُ فيه سوى الموتِ لمليون سبب؛ خمسةُ أعوامٍ، لم أختر فيها بملء إرادتي شيئاً، إلا ما في تلك الليلة التي جمعتنا عند الدكتور عبد الرحيم، حتى زواجي، كان بناءً على وهم الأزمة، وسكني المؤقت في بيتٍ يتوسطُ الأزمة، وزوجي يصبحُ من لصوصِ وهمِ الأزمة، ويتحولُ تدريجياً إلى خائنٍ للثورةِ، ودراكولا أطفال الغوطة، وتُعَلَّقُ مشنقتهُ، على هيكلِ بناءٍ هَنْدَسَتْهُ قذائفُ الدبَّابَاتِ على طريق حرستا.
نصفُ نائمينِ، رحلنا عند الفجر من منزل الدكتور عبد الرحيم، لم أمانع رغبتي في أن تجرفني في صباحٍ دمشقيٍّ كولادة الكون، بمحاذاة شامتهِ، ونحن نجوبُ أرصفةً بياسمينها، وصوت فيروز، وتلاوة القرآن التي نسمعها متقطعةً في طريقنا من نوافذ (السرافيس) التي تعبرنا بعيون سائقيها الذين يتصيدون الركَّاب، من على الأرصفة، وهم يشيرون لنا بالصعود، ونحن نردُّ بابتسامتنا، وبأننا نخترع اللحظة الآن، ولا نريدُ من يوصلنا إلى أيِّ مكانٍ، فنحن وصلنا منذُ التقتْ أعيننا أولَ مرَّةٍ في زحامٍ أحسسنا فيه بأننا الوحيدان في هذا الكون.. التقت أيدينا صدفةً، أو بقصدٍ، فدلفنا بسيارة تكسي، إلى كهفهِ البعيد المختبئ في عشوائياتِ حيِّ التضامن.
كم أعشق الزحام، زحام الناس، زحام الأبنية، زحام الفوضى، يخبئني أنا وحبيبي بعيداً عن العيونِ المتلصصةِ، يخبئني في المدينة التي تعشقُ الحُبَّ والأحاديث، الأحاديث العابرة بمجاهيلَ كثيرة، المدينة التي تتجدَّدُ فيها الحياة، وتتكاثر الفضائح والعشق والياسمين بشراهة.
في كهفهِ، ببساطةِ الأثاثِ والنافذة الوحيدة التي تُطِلُّ على جدارٍ قائمٍ على عجلٍ، وأصوات نساءٍ وأطفالٍ تأتي من بعيدٍ، كلُّ شيءٍ كان يشعلُ دمي تجاهه، ويختصرُ الكلمات التي حاولنا أن نداري بها رغباتنا؛ وعندما عجز عن الكلام، أنزلَ “الجيتار” المثبت بمسمارٍ على الحائط، حولتهُ خربشاتٌ قديمةٌ إلى وجه كهلٍ (يدخِّنُ) قهر دهرٍ بأكملهِ، ويرفعُ نخبَ موتهِ كأساً عالياً، ويُصِيبُ قلبي بأغنيةٍ لفيروز.. /أنا لحبيبي، وحبيبي إلي.. يا عصفورة بيضا.. لا بقا تسألي/..
ألا يكفيك غرقي في شامتكَ، وابتسامتكَ اللطيفة، حتى النشوةِ، لتطربني بصوتك الملائكي؟!..
تلكَ التي تسكنني، تلك المجنونة، التي عشقتْ كلَّ شيءٍ فيهِ بشغفٍ، أزاحتني منْ مكان جلوسي على أريكةٍ مهترئة أطرافها، لأقفَ أمامهُ وأسرقَ قبلةً محمومةً، عمرها بعمري، قهرها بقهري، من شفتيه العريضتين، الشهيتين للموت والحياة معاً.
ساعةٌ كاملة، هي عمرنا الآن، كتبناها بفوضى سجادةٍ كانت مُمَدَّدةً بسويةٍ على أرضيةِ كهفهِ الإسمنتية، وهي الآن منكمشة من الوسطِ، ومقلوبة أطرافها، ووسادتان وقَّعْنا عليهما بِعِطْرِنا وعَرَقِنَا، والسجادةُ تشبهُ فَمَاً يضحكُ بلا أسنان، هذا ما تخيلناهُ ونحنُ نعيدُ ارتداء ملابسنا، ونضحك، نضحك، نضحكْ.. آهٍ كم ضحكنا ..
ثلاثة لقاءاتٍ في هذا الكهفِ المنعزلِ، لنا وفينا، ثلاثة لقاءاتٍ، وثلاثة أعمارٍ، وثلاث ورداتٍ للحُبِّ، الذي غرقَ في زنزانةِ النظامِ قبل اللقاءِ الرابعِ، واختفى في سراديب الأمن والاعتقال.
غابَ عني كلَّ هذه السنوات، وغَيَّبَوا عن قلبي وحياتي حُبَّهُ وعشقهُ وشامته.
انتظرتهُ طويلاً، ولم يظهر.. بكيتُ، ولم يظهر.. تَمُرُّ صوره أمامي، فأغيبُ في مساماتِ وجههِ ويديهِ من جديدٍ، ولا يظهر، لم يظهر إلى الآن، وأنا رُكامُ مدينة، أنا قلبكِ المقتولُ يا دمشقُ، مرمية في مطاراتِ اللجوءِ، وقد وجدتُ حبيبي، لن أتركه يضيع مني مرة أخرى”.
صحتْ مِنْ حُلمها على صوتِ ولدها، وهو يصرخ، ويُخبرها بأنَّ جدتهُ الجديدة، تريدُ إطعامه قطعة بسكويت، ولكن حين نظرتْ، لم تجده في مكانهِ، وحقيبتهُ مرميةٌ على الأرضِ مثل جُثَّةٍ.
تسأل العجوز عنهُ، فتجيبها بأنَّ اثنين من أمن المطار، اقتادوهُ بقسوةٍ، وأنها لا تعرفهُ من قبل، وتُكْمِلُ العجوز : “يبدو أنَّ وراءهُ أمرٌ خطير، لأنهُ ظَلَّ خائفاً، مُتَلفِّتاً طيلة وقت جلوسه بجانبي”
واستأنفت بالجملة التي أغرقت خديّ العاشقة الهائمة على نفسها، في بحرٍ من الذكرياتِ والغصَّاتِ، وأختامِ اللجوءِ بالدموع وهي تسحب ابنها من يدهِ، مغادرةً صالة الانتظار، بدون وجهةٍ محددةٍ :
“رُبَّمَا، كانَ إرهابياً…”.