باقي نصف كيلو متر

ستموت في الحرب يا أخي، إذا قضيت فيها فترة كافية
أرنست همنغواي
“يجب أن نخرج من هنا”
قلت لزوجتي هذا وأنا أعلم أنني أشكل خطراً كبيراً على عائلتي فأمس جاءني تحذير من أحد الأصدقاء أنه قد تم حجز مخرج أفلام وثائقية بريطاني على الحدود اللبنانية السورية كنت قد شاركت معه بحديث مصور عن الثورة السورية.
أعطيت كل المبلغ النقدي الذي تبقى معي لزوجتي حتى تخرج مع بناتي الأربع من مدينة دمشق وتتجه إلى ذويها في مدينة اللاذقية، و بقيت في شوارع دمشق أنتظر المجهول القادم.
حدث هذا في الشهر العاشر من عام 2012، أي بعد عام ونصف تقريباً من قيام أعظم ثورة في القرن الواحد والعشرين ضد مافيا نظام الأسد التي قررت إبادة الشعب السوري برعاية دول عربية وعالمية.
لم أعلم أين أذهب فلم يعد عندي مأوى، أصدقاء الأمس انقلبوا علي، الأقرباء يتجنبون التكلم والتواصل معي، بقيت أمشي في شوارع دمشق بدون وجهة معينة وأصوات القصف على القابون وجوبر ومدن الغوطة الشرقية والغربية لا تهدأ، وصلت إلى حي ركن الدين الدمشقي مساءً، وهناك ندهني مرتزق مسلح على أحد حواجز تلك المنطقة، اقتربت منه وطلب مني بطاقتي الشخصية وبعد أن محّصها ونظر لي نظرات كراهية سألني: “أنت من الزبداني؟” فقلت له: “نعم قيدي الزبداني ومولود في مدينة دمشق”، ففام بجري إلى غرفة بجانب الحاجز فيها أربعة مرتزقة آخرين، وبعد دقائق كنت بين أقدامهم أتلقى الرفسات واللكمات إلى أن تأكدوا من أنني غير مطلوب (أي ليس بعد) وغادرت تلك الغرفة بدون آدميتي، تركت فيها آخري الذي كان يظن أنه على قيد البشرية وله حقوق في هذا العالم ومشيت مرة أخرى وأنا فاقد الاتجاهات حتى وصلت إلى ساحة الشهداء (المرجة) التي أصبحت أزقتها مفارش للنازحين القادمين من المناطق التي تدور فيها الاشتباكات المسلحة، جلست بينهم وأنا أنظر إليهم كأني أتفرج على ألبوم مليء بالصور المرعبة، هناك أم تبحث عن كرتونة لتجعل منها سريراً لأولادها، هناك أب يحرس أحلام عائلته النائمة على الطريق ويمشط لحيته بأصابعه كأنه يتوعد العالم بأنه لم يمت بعد، هناك أطفال ما يزالون مستيقظين لا يعلمون لماذا انتقل مسكنهم من بيت دافىء إلى شارع بلاطه بارد وصلب، هناك صبية تعد أصابعها، يومها تذكرت مسرحية لـ جان بول سارتر يقول في مطلعها: “بنفس الحجارة نستطيع أن نشيد للحرية قبراً، أو نشيد لها معبداً.
بقيت في شوارع دمشق وحدائقها متجنباً الحواجز نهاراً، وأقضي الليل في أزقة المرجة بين النازحين، أحلم ليلاً كما يحلمون… ربما، ومن كثرة العجز أجمح في أحلامي لدرجة أتخيل فيها الوافدين من بيوتهم سمعوا للتو بموت الطاغية وسقوط عصابته فيقومون بعمل احتفالية في هذه الشوارع التي لن تكون حقيرة بعد الآن، وأبقى أتخيل وأنسج أحلاماً لها طابع الأفلام الهندية حتى أستسلم للنوم قبل الصباح، وفي أحد المرات مررت من جانب سينما الدنيا، فخطرت لي فكرة الدخول إلى السينما التي لم أعد أدخلها منذ أيام المراهقة وكل أملي أن أنعم ببعض الراحة والنوم في عتمة السينما، حين قطعت تذكرة ودخلت انصدمت من الرائحة الكريهة التي تنبعث من العتمة، وبعد ان اعتادت عيني على رؤية مافي العتمة اندهشت برؤية الجثث البشرية المكدسة على مقاعد وأرضية السينما، الجميع نيام ولا أحد يهتم للفيلم المعروض ولا حتى للمناظر المثيرة فيه، الكل نيام وكأن النوم أصبح رفاهية، لم أستطع التأقلم مع الروائح وأكوام النائمين الذين فقدوا بيوتهم ووجدوا فرصة للنوم في أرخص فندق وهو دار سينما الدنيا، يا لها من مفارقة حتى باسم السينما (الدنيا).
هناك صبية تعد أصابعها، يومها تذكرت مسرحية لـ جان بول سارتر يقول في مطلعها: “بنفس الحجارة نستطيع أن نشيد للحرية قبراً، أو نشيد لها معبداً.
مر شهر تقريباً وأنا على هذا الحال، أنتظر دورية تعتقلني، أنتظر موتاً يلتقطني في طريقه، وخصوصاً بعد أن سدت كل الطرقات وبعد أن علمت أن عائلتي ليست بخير أيضاً، في ذلك الصباح شيء ما أيقظني وشعرت أن الهواء لم يعد فيه أوكسجين، وبعد أقل من دقيقة كنت بين غير المصدق وبين المذهول من قوة صوت الانفجار الذي كان يبعد عني حوالي 50 متراً، وفجأة اختلط الحابل بالنابل؛ أصوات الصراخ والهروب من النازحين مع دخان الانفجار الذي هرولت باتجاهه، وأول منظر راعني بينما الدخان ينقشع جثة طفل هامدة في منتصف الشارع وفي هذه اللحظة دخل شبيحة الأسد إلى المكان وبدأوا يطلقون النار بالهواء ويشتمون الجميع فتراجعت وخرجت من المنطقة كلها. يومها دخلت إلى مقهى (إنترنت) يديره أصدقاء لي، وبقيت فيه شهراً آخر أنام على كرسي بلاستيكي وأنا أحلم كل يوم بوسادة ناعمة وفراش أوسع من ذمة هذا العالم.
خلال المدة التي قضيتها مختبئاً داخل المقهى، بقيت على تواصل مع ناشط من منطقة جوبر التي أصبحت تحت سيطرة فصائل الجيش الحر، وعرض عليّ الدخول إلى جوبر وأنه سيقوم بتأمين الطريق لي حتى أتخلص من اعتقال أو موت كان سيبدو محققاً لو بقيت في مكاني أكثر من ذلك، فقد كنت، وحالي حال الكثيرين في دمشق، محاصراً لا انفكاك له ولا حبل سيمد له ولا عين توثق معاناته وموته اليومي.
بعد عرض سيناريو وخطة دخولي إلى جوبر أكثر من مرة، حان موعد التنفيذ، خرجت متجهاً إلى منطقة جوبر مشياً على الأقدام عابراً شوارع دمشق التي عشت فيها 38 عاماً من الأمل والبكاء والدراسة والعمل والحب، كان عبوراً يشبه تقطيع الشرايين، دخلت إلى حي المزرعة الدمشقي الذي ولدت فيه وقمت بتوديع سراب طفولتي هناك، وأكملت مسيري ومشاعر متناقضة بين الخوف والمجهول والشجاعة تنتابني، الآن بقي خمسمائة متر تقريباً وسأدخل مكاناً قد لا أخرج منه أبداً، لكنه لن يكون أسوأ من الفترة التي قضيتها داخل شوارع دمشق، وفجأة توقفت و تذكرت أربع وردات جميلات، تذكرت ابتسامات بناتي الأربع، و كل ما يعنينه لي، تذكرت أنهن كل حياتي التي عشتها وسأعيشها، على بعد خمسمئة متر هناك من ينتظرني، وعلى بعد خمسمئة كيلومتر هناك من ينتظرني أيضاً، فاخترت المسافة الأبعد واستدرت وعدت ماشياً على الأقدام إلى مقهى “الإنترنت”، وإلى النوم على كرسي بلاستيكي، وبدأت خطة جديدة للخروج من مدينة دمشق، ولم أكن أعلم أنني سأخرج إلى موت آخر.