ذاكرة حدثذاكرة مكان

قاب حيين أو أدنى

رغم مرور السنين وتوالي الخريف عليَّ ما زالت تلك الليالي المشؤومة تزورني كلما دق الموت في الثورة، ست سنوات مضت وما زلت أنهش نفسي كلما تذكرتها، تضطرب دقات قلبي، وأحس أن الموت يترنح على بابي وهو يناديني لا تغلق الأبواب فأنا مالك مفاتيح أرواحكم الآن،

ست عجاف مرت وها هي وجوههم تغزو منامي رغم أني لا أعرف أكثرهم، ليلة مجزرة الجورة والقصور في ديرالزور من عاشها ليس كمن رآها، ومن رآها ليس كمن سمع بها، وأنا رأيتها لحظة بلحظة.

قبل ليلة من المجزرة كنت في منزلي في حي الحميدية الواقع وسط المدينة، وكانت الأخبار تتوالى علينا كزخ المطر، فهناك حملة عسكرية للحرس الجمهوري آتية باتجاهنا، ما يؤكده ازدياد وتيرة القصف بدرجة كبيرة حتى أصبحت المدينة كطبل عرس كبير. قوات النظام جن جنونها وهي تحاول كسر شوكة الأحياء المحررة على مدى أربعة أشهر ولكن بلا جدوى، فكل يوم يمر تزداد المدينة صلابة وتتشقق شرنقة العسكر أكثر ويحس النظام أن المدينة خرجت من تحت عباءته أكثر، خاصة بعد وفاة الشبيح “علي خزام” -الذي قال إنه لن يرتاح إلا بعد احتلال المحافظة كلها وصولاً للبوكمال- على أيدي المرابطين في الأحياء المحررة، ما دفع النظام لاستقدام تعزيزات جديدة من قوات الحرس الجمهوري المعروفة بإجرامها في باب عمرو ودرعا البلد.

عندما وصلت قوات الحرس الجمهوري مداخل المدينة، بدأ الناس المتواجدون في الأحياء المحررة يرسمون سيناريوهاتهم، فمنهم من ذهب باتجاه الأحياء التي تقع تحت سيطرة النظام (الجورة والقصور)، ومنهم من حاول الهروب باتجاه الريف القريب، والكثير -وأنا منهم- كنا ننتظر دخول قوات النظام بأي وقت وقتلنا أو اقتيادنا للمعتقلات، كان السيناريو الوحيد الذي رسمته هو عدم ترك حيي، ولا الحرية التي عشتها خلال الأشهر الماضية، قررت البقاء والاستمتاع بآخر أنفاسي وأنفاسها، وتقاسم ما بقي من دقات قلبي مع جدران منزلي الذي ودعته، قبلت صور والديّ وأخوتي، فهذه آخر ليلة لي مع عطورهم وذكرياتهم، وغداً سيمر الطغاة فوق جسدي ليدنسوا  كل ما هو طاهر في حياتي.

خيم الليل، وهدأ القصف الهمجي على أحياء المدينة، حملت حقيبتي وأخذتني قدماي المثقلة بالتاريخ عبر أزقة الحي للمشفى الميداني الذي قررت قضاء آخر ليلة في حياتي به، وقفت وسط حارتي لأرى نفسي طفلاً يلعب في كل زاوية من هذا المكان، بدأ أصدقائي يفتحون أبواب المنازل ويخرجون فرحين، تذكرتهم جميعاً، أسماءهم، ألقابهم، وحتى طريقتهم بالضحك، عادت ذكرياتي كلها بلحظة، وحتى البيوت المدمرة عادت كما كانت، لم أرد ترك الحارة، فهرعت ألملم البيوت وأخبئها في جيبي كقطع حلوى، وأجمع الأطفال حولي لآخذهم بعيداً عن الموت الذي ينتظرهم، وقررت حينها ألا أترك للمجرمين ما تبقى مني، فجمعت الدير كلها وحولتها لـ”موليّا” وأخذت أرددها بصوت عالٍ، أعلى حتى من صوت القذائف والموت معاً.

صباح الـ 25 من أيلول 2012 بدأت الحملة دخول المدينة، توقعت وقتها أن تتركز القوات في الأحياء التي يسيطر عليها النظام ثم تبدأ باتجاه الأحياء المحررة، ولكن هذا لم يحدث، إذ بدأت الحملة من تلك الأحياء، أذكر وقتها أصدقائي في المكاتب الإعلامية وهم يستقطبون الأخبار من تلك الأحياء بدهشة، فالقوات بدأت بمداهمة البيوت وكأنها لم تكن تحت سيطرتهم أساساً، وبتصفية كل من يلقونهم في طريقهم في ظل قطع تام للكهرباء وحظر للتجول، كانت النوايا واضحة، ديرالزور عدوة بالكامل والجميع مستهدف ،وما الحملة إلا حملة انتقام واسعة النطاق.


أربعة أيام وحيّان فقط، هما من أبقوني حيّاً، لأعد الأسماء والأرواح والقصص، أربع وحيّان حولوني من خبر ورقم ضمن النشرات لموثق لأكبر مجزرة يرتكبها النظام في مدينتي، أربع وحيّان تكفلوا برسم ملامحي باللون الأسود ورسم المدينة بالحداد للأبد.

كانت الأحياء المحررة تقف على قدم واحدة، كتائب الجيش الحر ذات السلاح المتوسط والخفيف مرابطة على أطراف تلك الأحياء تنتظر الهجوم، والمشافي الميدانية على أهبة الاستعداد بطواقمها غير المؤهلة أصلاً لهجوم واسع، والإعلاميون كذلك كانوا ينتظرون نقل الحدث، لكن الهجوم لم يحدث والترقب تحول لغضب جامح في المساء عند وصول أولى دفعات الشباب الهاربين من المجزرة للأحياء المحررة، ليخبرونا بما حدث.

“هربت من البيت، وتركت أبي وأمي هناك، ركضت من ذاك الحي إلى هنا قبل أن يدخلوا إليه ويقتلوني أمام أعينهم، كما قتلوا ابن خالتي في حي الجورة، لن أموت على أيدي هؤلاء السفلة، سأحمل السلاح وأقاتل، هنا سأموت بكامل أناقتي وكرامتي”. قالها صديقي أحمد بعد أن فرَّ من حي القصور قاصداً الأحياء المحررة، ولم يكن أحمد لوحده يحمل هذا الغضب، الجميع حمله معه، كان وحش من الغضب في صدر كل واحد منا. مضت الليلة الأولى من المجزرة والوحش يتغذى على خوفنا ليتحول في الصباح كل واحد فينا لوحشٍ بحد ذاته مستعد للموت غير آبهٍ به.

في اليوم التالي كانت الأحياء المحررة تغلي على صفيح ساخن، بدأت أسماء الشهداء تطوف الأزقة، كل منا فقد عزيزاً، وارى الثرى جزءاً من ذاكرته واستبدلها بالسواد، حتى ابن عمي الذي تخرّج  جديداً من جامعته، ذبح بدم بارد وبقيت جثته في الشارع حتى مطلع اليوم الرابع من المجزرة، بدى الكل مشككاً غير مصدق، لا يجب أن تكون هذه النهاية، رأيت الجميع ينوح بصمت، الخريف ثقيل على الأشجار، وكذلك خريف الموت كان ثقيلاً على مدينتي، خاصة على صدر العشريني، الذي لم أعرف اسمه حتى اللحظة، وهو جالس في المشفى الميداني يترقب خبراً من حيّه الذي زاره الموت مبكراً، علّ الآتي يطمئنه على أهله هناك، حتى أثقله خبر مقتل أبيه وأخيه،  فجهش بالبكاء بغضب عارم، فأبكى الجميع بما فيهم الموتى أنفسهم.

وعلى مدار اليوميين التاليين كانت الأخبار تتسارع بسرعة دقات قلوبنا، دخلت الحملة الهمجية كل من أحياء الجورة والوادي والقصور، وأصبحت مراكز التوثيق تعمل على مدار الساعة لتوثيق عشرات بل مئات أسماء من قضوا بهذه المجزرة، عائلات بأكملها تم محوها عن الوجود بدم بارد، ومع كل مجموعة من الأسماء الجديدة تأتي، أجد نفسي لا شعورياً أبحث بخوف بينهم عن اسم أعرفه، آملاً أن يخيب ظني، وفي كل مرة لا يخيب هذا الظن اللئيم وأجد من تنفر دموعي لأجله، لألقى حولي الكثير ممن ينعون أقاربهم وأصدقاءهم حتى غطى المدينة بيت عزاء ممتد من نهرها لجبلها.

 ومع بداية اليوم الرابع للحملة، بدأت أولى المواجهات بين قوات الحرس الجمهوري وكتائب الجيش الحر، للسيطرة على حي الجبيلة والأحياء المجاورة له، ظننت كما ظنَّ الكثير أن النظام سيدخل متبختراً، وأننا سنكسر كما يكسر الزجاج، ولكن عبء الذين ذبحهم الجلاد على منبر الحرية في تلك المجزرة أكبر من ألا يفجر ألف بركان غضب في داخل كل منا، ليغرق الخوف والوجل فينا، وتصبح دموعنا الثكلى رصاصاً من جحيم يصب خلال اليوم الرابع من الحملة على قوات الطاغية، لتوقف تقدمهم وعلى جميع الجبهات ولتصمد عين الزور وتكسر مخرز الطاغوت.

أربعة أيام وحيّان فقط، هما من أبقوني حيّاً، لأعد الأسماء والأرواح والقصص، أربع وحيّان حولوني من خبر ورقم ضمن النشرات لموثق لأكبر مجزرة يرتكبها النظام في مدينتي، أربع وحيّان تكفلوا برسم ملامحي باللون الأسود ورسم المدينة بالحداد للأبد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × واحد =

زر الذهاب إلى الأعلى