سردابُ البول
انتابني خجلٌ مرير، وأنا ألتفتُ إلى الطفل
الذي يودّع والدته ليذهب نحو المدرسةِ القريبة من البيت، مدرسةٌ بنيت على شكل سجنٍ
محكم الإغلاق، إنني أرى المدرسة بوضوح، الأسوارُ عاليةٌ جداً، وبنظرةٍ أوليَّة
ستستنتج أنّ هناك نسقين كاملين من الإسمنت المسلَّح (لا أعي تماماً لِم أضيف نعتُ
المسلّح على الإسمنت!)؛ النسقانِ شيَّدا مؤخَّراً، هذان النسقان هما ما أضفى مسحة
السجنِ على شكل المدرسة. أقولُ لنفسي: “حينُ كنتُ صغيراً كانَ الجدار أعلى
بكثير”، ابتسمتُ للغباءِ الذي اعتورني فجأةً: “أجل لأنني كنتُ صغيراً
وقتذاك!. وكفى…
في الظهرِ، وعند نهاية الدوام الرسمي يخرجُ الأطفالُ متسخي الثياب، وكأنّهم عائدونَ من معركة؛ كنتُ أعتقد أنّني كبرتُ، ذقني الطويلة، حقيبة حاسوبي الشخصيّ التي تشبه حقيبة المطهّرين في هذا البلد القديم!، اعتقدتُ أنّي كَبرتُ، أرى الأطفالَ فلا أتذكّر سوى ذاتي الوَهِنة من المدارس. يقولُ المدرّس القديم لصديقته المعلّمة الجديدة: “سوف يتجّه إلى العدَم” ويصمُت، تكادُ الوجوهُ التي أراها الآن تتشابه، كلا، مهلاً، إنّها وجوهٌ متطابقة مع تلك التي خبرتها منذ سنواتِ طفولتي، تتطابقُ بشكلٍ مريب، ليست لديّ الخبرةُ الكافية لأقول عنها وجوهٌ لطيفة أو شيئاً غير ذلك، تختلطُ الأمور عليّ، يهطلُ مطرٌ غزيرٌ في بعضِ الأيَّام، السماءُ تغسلُ الوجوهَ الكريهة ولكنّها سرعانَ ما تعودُ إلى غبارها البدائي الذي ولِد معهم، لا سبيل للخلاصِ من هذا الغبارِ القديم، يركضُ الأطفالُ نحو العدَم، أقرّ لنفسي استناداً لكلام المدرّس قبل قليل.
**
كانت أمي دائماً تقول: خذ هذه الكعكة… لا نقودَ تكفي لشراء الموز؛ خذ هذه النقود واشتر بها ما تشاء، أقبضُ على الورقة النقدية من فئة الخمس ليرات وأحتضنها براحة يدي خوفاً من ضياعها أو هروبها، كما يهرب كلُّ شيء منّي الآن. أخافُ أن تُتلَف الورقةُ بين راحة يدي الناعمة، أمضي إلى عَدَمي وحيداً.
أكتبُ في هذه اللحظة، كمن يكتب رسالةَ تداع لطبيبه النفسيّ، أخطّ ما يمكنُ لأي أحدٍ غيري أن يخطَّه، أحدهم عاشَ مثلي في هذا البلدِ اللاجئ، الأمر في بالغ السهولة، لا شيء رائع في هذه الكتابة، سوى أنّها تهديني الابتسامةَ المريرة، أحاول استجداء عواطف الأحرف، أن تساعدني قليلاً كي تخرجَ من سجنها وتجلس على سريري وتربت على كتفي، أن تقضي على القلق الذي يكادُ أن يخنقني، سوى أنّي أفشلُ المرّة تلوَ الأخرى، أعيد الترتيب، ترتيبَ الأسرّة التي مرّت أمام عيني، أتذكّر الشراشف النظيفةَ والمتّسخةِ على النسق التذكريّ ذاته، جنباً إلى جنب، تتعقّد ممرّات المدرسَةِ التي رأيتُ لها شبيهاً في أفلامٍ وثائقيَّة تحدّثت عن سجون العائلةِ الحاكمة!، أقارِنُ بينَ الأحجار المُستخدَمة في البناء، الطلاءُ هو ذاتهُ في المبنيَيَن، الأعينُ المتربِّصةُ بالأجسادِ النحيلَةَ مجنزَرَةَ الأقدامْ، تمشي أو تكادُ تمشي بالهدوءِ ذاته الذي يمشي بهِ الظلمُ في أروقة هذا البلدْ.
**
سجنٌ عسكريّ:
بلباسٍ صيفيّ ونحنُ في أواخر شهر شباط/فبراير من سنة 2010، دفعني الجنديّ مقيّدَ اليدين إلى داخلٍ معتِم، كانت السيّارة المسيَّجةُ التي نقلتني رفقةَ مجموعة شبّان من الحسكة إلى دير الزور كحديقة حيوانٍ متنقّلة معتمة هي كذلك، لكن كان ثمّة بصيصُ نورٍ يأتينا من طاقةٍ في الأعلى، خيطُ نورٍ يشبهُ ذاك الذي نراهُ في الحلم، يأمرني الجنديّ المغتبِط أن أخلع ثيابي كاملةً، أفعلُ ذلك، أخجلُ كفتاةٍ مراهقةٍ، حين يأمُرني الجنديّ ذاته أن أخلع كلّ شيء، أن أصبح… “كما ولدتكَ أمّك ذاتَ يوم!”؛ ينهرني بصوتٍ خلتهُ صوتَ الآذانِ فجراً وهو يرعِبُ النوَّم في الأحياءِ الصغيرة!، قرفِص ثم انهض، لم أفهم هذه الحركة، إذ لم يحدّثني أحدٌ عنها سابقاً، أدركتُ فيما بعد أن بعض المساجين يضعونَ شفراتِ حلاقة في مؤخراتهم كي ينتحروا أو ربمّا ليصطادوا مساجينَ آخرين داخل الزنزانة، صُعقتُ، كيف لسجينٍ أن يقتلَ آخر وبشفرةٍ مستخرجَةٍ من مؤخِّرَة، (كنتُ أقولُ ربمّا الحركة ليست سوى اختراع ذهن الجنديّ)، الحركةُ تلك إفراغٌ من الأخلاق، تُفرِغُ الإنسان من محتواه الأخلاقي، هكذا أخبرت نفسي وأنا أرفع ثيابي التي على الأرض وكأنّني اغتُصبتُ للتوّ. أُدفَع بقوّةٍ نحو الممرّ، ما أكثرَ الممرّاتَ وما أقساها داخل هذه المباني الحجريَّة، ممرّات، ممرّاتٌ تفضي إلى أُخرى دون انقطاعٍ أو ملل، المهندسون في هذا البلد فاقوا جميع التصورّات وهم “يهندسونَ” الممرَّات، شيءٌ ما يشبهُ الصِراط في التفسير الدينيّ!، بتُّ أكرهُ الممرَّات في المباني كلّها.
المهجع رقم (6)
لم أفعل شيئاً، جلستُ وسط رائحةٍ كريهةٍ لا أعي تماماً مدى قدرة العقل البشريّ على أن يتحمّلها، همهماتٌ خفيضة، همهماتٌ تساؤليَّة عن النزيل الجديد، هل أنت عسكريٌّ أم مدنيّ؟ ثم يبدأ الضحكُ من الجهات الأربعة، ضحكٌ خلتهُ يأتي من مكانٍ ما تحت الأرض، تحتي تماماً. ينادي السجّان: “من منكم النزيلُ الجديد؟”… لا صوت، يعيدُ السجّان استفساره: أنهضُ بتثاقلٍ وأجيبُ كذلك: “أنا”… ، يتفرّسني كمن سوف يبتلعني بعد هنيهةٍ، “اجلس في مكانك ولا تتحرّك!” يقولُ، أفعلُ ذلك، ويبدأُ الضحك على منوال البدايةِ ذاتها.
التعرّف على مكانٍ مظلمٍ صعبٌ للغاية، أمرٌ مربِك، إذ إن الوجوه نفسها حينَ تخرجُ للضوء يوماً ما سوف تختلط عليك، لن تعرفها لكن ستشعرُ بها حتماً، ستشعرُ بيأسها، شريطة أن تمتلكَ قلباً يقِظاً، قلباً بإمكانه أن يتذكّر بسهولة أمتار الإسمنت “المسلَّح” المفروشِ على أرضيَّةِ المهجع.
يأمرني الجنديّ المغتبِط أن أخلع ثيابي كاملةً، أفعلُ ذلك، أخجلُ كفتاةٍ مراهقةٍ، حين يأمُرني الجنديّ ذاته أن أخلع كلّ شيء، أن أصبح… “كما ولدتكَ أمّك ذاتَ يوم!”؛ ينهرني بصوتٍ خلتهُ صوتَ الآذانِ فجراً وهو يرعِبُ النوَّم في الأحياءِ الصغيرة!، قرفِص ثم انهض، لم أفهم هذه الحركة، إذ لم يحدّثني أحدٌ عنها سابقاً، أدركتُ فيما بعد أن بعض المساجين يضعونَ شفراتِ حلاقة في مؤخراتهم كي ينتحروا
مُخدَّراً من شدّة التجوال بسياراتٍ مثقلَةٍ بالحديدِ والجنازير، نهضتُ أتجوَّلُ في المهجع، ثمّة ممرٌ طويل يفضي إلى ساحةٍ صغيرةٍ ضمن السجن، ومن ثمّ تفرّعاتٌ لمهاجعَ عدّة مخصَّصةٌ لجرائمَ شتّى تختلفُ باختلافِ القوانين المرسومة؛ في المهجع الأوّل على يمين القضبان الكبيرةِ التي سدّت الزنزانة، مهجعٌ لمن ارتكبَ جرائم وهو عسكريّ، ومن ثمّ مهجعٌ آخر للفارّينَ من الخدمةِ الإلزاميَّة، ومهجعٌ آخرُ للمدنيين الذين أُدينوا بجرائمَ عسكريَّة، هكذا شرح لي شابٌّ من دير الزور، كان قد أُلقيَ القبضُ عليه لأنّه نسيَ حمل دفتر خدمة العلم الذي يُعطى مختوماً بأختام زرقاء ومكتوب على الختم بالأزرق الباهت (سُرِّحَ)، هذه المفردةُ التي تعادلُ مفردةَ (الجنّة) لدى المؤمنين المخلصين في العالم الآخر. شرحَ الشابُّ كذلكَ أن ثمّة معتقلين جلبهم (جامع جامع) آنذاك لأنّهم ذوو شعورٍ طويلةٍ ويمشونَ في شوارعِ المدينة، وهذا ما كان يكرهه (جامع) يوماً ما، بما أنّني مخدَّر، ولجتُ مهجعاً آخرَ غير المخصص لمن هم مثلي (متخلفون عن الالتحاق بخدمةِ العلَم)، استندتُ على الحائط، لم أستبِن الوجوهَ لشدّة العتمَة، كنتُ أقولُ في نفسي: “لا يهمّ إن كنتُ سأميَّز الوجوه أم لا، لا حاجة لي بذلك، فالموجودون ها هنا، لن أراهم ثانيةً، وحتّى إن رأيتهم ذات مرَّةً خارج هذا المربَّع لن أتعرّف عليهم وإن تعرّفتُ فسوف أفرُّ منهم!” شيءٌ ما كذكرى مرضٍ خبيث يودُّ المرءُ لو يبتر الجزءَ المخصَّص له في الذاكرةِ إلى الأبد.
بغلاظةٍ شديدة، دُقَّ على باب المهجع، “اخرجوا” هتفَ بنا صوتٌ جهوريّ قادمٌ من مكانٍ مجهول، خرجنا كآلاتٍ تنفَّذُ على الفور الأوامر، بضغطةِ زرٍّ أو أمرٍ صوتيّ!، قال الصوت ذاته مرَّةً أخرى: “اخلعوا ثيابكم عدا السراويل الداخلية”، خلعنا دونَ تذمُّر، كانت أرضيَّة السجنِ مبلَّلةً بالمياه، بدأ السوطُ يجلدُ ونسقط أرضاً الواحدَ تلوَ الآخر، وحينَ السقوط يفرحُ السجّانُ لأنّه سوف يشفي غليله “هذا ما كان يلوحُ على وجهه بكلِّ جلاءٍ”، غليلهُ من ماذا؟ لا أعرفُ حتّى اللحظة حقيقةً.
سردابُ البول:
وصلتُ إلى ثكنةٍ طويلة!، أجل، كانت ثكنةً طويلةً فعلاً، كل ممرّ في تلك الثكنة كان فيه ما يكفي من الطول ليغمر العالمَ بأكمله بشكلٍ طوليّ، كنّا نحنُ الجنود الجدد مُساقينَ بسلاسلَ موحَّدة تربطنا جميعاً بعضنا ببعض، كي لا يفكِّرَ أحدُنا بالهرب، ندخلُ المراحيضَ ثلاث مرّات في اليوم عقِب كلِّ وجبةِ طعام، نأكل معاً ونحن مقيّدونَ في ساحةِ الثكنة، نُمنَعُ من التدخين ونغدو تسليةَ الجنودِ القدماء، استغربتُ هذا التصنيف، جنودٌ جدد، جنودٌ قدماء، لم أعِ الأمر.
في ليلةٍ ما، استيقظتُ على ألمٍ في مثانتي، أريدُ أن أتبوَّل، لكن من يجرؤ على أن يوقِظ الجنديّ الموكَلة إليه حراستنا داخل المهجع الطويل لكي يفتح لي الباب وينتظرني حتّى أفرغ مثانتي في الخارج، لن يفعلَ بكل تأكيد، وربمّا لن يكتفي بأنّه لن يفعل ذلك بإيماءةٍ من رأسه، بل ستتطوّر الأمور وتصلُ حدّ أن يخرجَني من المهجع وأغدو تسليته إلى مطلعِ الفجر، أبصرتهُ نائماً، يشخرُ بكلّ ارتياح وكأنّه ينام في منزل أمّه الريفيّ، وحولهُ الأنفاسُ القبيحة للعساكر من مختلف المدن السوريَة، أبصرتُ إلى جانبه علبةً بلاستيكيَّة يستخدمها الجنديّ “القديم” لشرب الماء، بخفَّةٍ عجيبة حملتُ العلبة الفارغة وابتعدتُ قليلاً عنه، ثمّ أدخلتُ رأس قضيبي وبدأ الارتياح يعلو ملامحي، بكلِّ هدوءٍ كذلكَ أعدتُ العلبة إلى الطاولةِ الصغيرةِ أمام الجنديّ “القديم” النائم.
*الصورة من رسومات السجن في مصر مأخوذة من موقع عرب 48