للحكايات بقيّة

أراجيح العيد تلوح بفرح العصافير المبكّرة، وتفوح بهرج ومرج الأطفال المتزنرين بالفرح منذ تفتّح النور.
في الساحة الكبيرة الممتدة وسط المدينة، نداءات باعة الحلوى والمفرقعات وغزل البنات وألعاب العيد وألوانه، تجذب انتباه المتفرجين على الألعاب المتنوعة، السيارات الكهربائية، القلابة، الكراسي الدائرة، الفراشة الطائرة، لعبة السفينة المتأرجحة هناك على أنغام أغنية “يا حاج محمد.. يو يو…” تصدح بها الحناجر.. تخرج النقود من الجيوب لتُنثر هنا وهناك، على لعبة أو قطعة حلوى أو غزلة، أو مفرقعات يعلو انفجارها بين الحين والآخر…
الأطفال من الجنسين، سبقوا أصحاب الألعاب المنصوبة، مبكرين بثيابهم الجديدة، مستغلين نهار الصيف الطويل، يتبادلون التهنئات والحلوى واللعب مع أقرانهم.
لكنّ مفرقعة الجنون الإنساني كانت فوق التخيّل والتبصير.. دراجة نارية تشظّت وسط الساحة براكبيها المفخخين بأحزمة ناسفة.. هربت العصافير التي لم تمت، وتحوّل الهرج والمرج إلى أنينٍ يملأ الساحة الكبيرة. الأشلاء اختلطت بالأراجيح المحطمة، وغطّى السواد أرجاء المكان الذي بدأ يطغى الأحمر على سواده.. لحظات، اكتظّت الساحة بالمسعفين والقادمين من أربع جهات المدينة الوادعة، يحملون الجرحى والمصابين لإسعافهم.. لتنفجر المفرقعة الثانية، دراجة أخرى دخلت الساحة من طرف آخر براكبيها، صابغة الأرض والجدران والحطام بقطع اللحم والدم.
لماذا الدم رخيصٌ مقابل كبسولة هذيانٍ تصنع من صاحبها مهلوساً حالماً بحور العين والخمر والغلمان؟! ما جرم أطفال خرجوا ببهجة الصباح العابق بروائح الورد والياسمين، وباعة متجوّلين يسترزقون قوت عيالهم، حالمين بربطة خبز طازج يحملونها للبطون الجائعة؟! عدة دراجات وسيارات مفخخة، ألقي القبض عليها في أطراف متفرقة من المدينة، قبل وصولها إلى أهدافها، انفجر بعضها بمن فيها، واحتُجز بعضها قبل تفجيرها.
في الطرف البعيد من ساحة الجريمة، ومن معبر ثالث، يرمي شابٌ وسيمٌ بنفسه على الدراجة العابرة باتجاه التجمّع الكبير، ليتحوّل إلى كتلة من اللهب مع الوحشين المهلوسين المزنّرين بالديناميت، بعد أن حرفها عن مسارها لتدخل دكان ألعاب جانبيّ. وعلى مدخل الإسعاف في المشفى الذي بدأ يضيق بضيوفه، بعد أقل من ساعة على جريمة الساحة، يرتمي ممرضٌ نبيه على جثة وحش مصاب بين المُسعَفين، يحاول تفجير حزامه الناسف بالأحياء والمصابين والأموات، ويوقف جريمته بقبضة حديدية على يديه، ليعفي الدماء المراقة من الاحتراق.
الوجوه المرعوبة أو الحزينة، تتلامح فوقها حالة من الدهشة وعدم التصديق، بصباح العيد الذي تحوّل إلى جحيم، دون سابق إنذار أو تحذير أو توقّع. الصدمة تبرق في العيون أطيافاً قزحية، كأنها نجوم الظهر، والذهول أخذ بالعقول وعطّل الحواس. أما الكوادر الطبية والتمريضية التي كانت غير مناوبة وفي استراحتها، فقد تقاطرت إلى المشفى، منذ سماع صوت الانفجارات الأولى المتزامنة التي هزّت المدينة، ودون أن يطلب أحد منها الحضور، وكأنها أحسّت بالحاجة الملحة لتواجدها. طوابير المتبرعين بالدم تتزايد كل لحظة، وتنتظر دورها البعيد لتساهم في التخفيف من آثار الجريمة.
هناك في الشرق، على تخوم البادية، تتزامن الأحداث مع جريمة المدينة، وتسبقها بقليل. تتسلل الوحوش البشرية الداعشية فجراً إلى القرى المتاخمة، وتنادي أصحاب البيوت بأسمائهم، مستعطفة كرم المضيف بجرعة ماء أو حليب للأطفال، ليكون عقاب المعزّب المضياف الذي لبى النداء وفتح باب بيته مرحّباً، طعنةً غادرةً في الصدر، وذبحاً لأطفاله النيام في فراشهم كما تذبح الخراف. اقتيدت النساء وبعض الأطفال رهائن ودروعاً بشرية، للتهديد بذبحهم، والهيمنة على القرى واحتلالها، لتكون نقطة انطلاق لدخول المحافظة كلها.
البعيدون عن سوريتهم، وأنا واحدٌ منهم، يناسبهم استذكار ذاكرتهم وسردياتها، وتوثيق حكاياتها بألوان شتّى، حتى وإن كانت في صورٍ غائمة وأخبار وفيديوهات مقتطعة منقولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.. لأنّ الاستذكار شرط استمرارهم، أو ربما المعنى الوحيد لوجودهم في المهجر،
لكنّ نخوة من لم تطلهم يد الغدر، وفزيع القرى المجاورة للقرى المغدورة، فاقت تصوّر الوحوش المهلوسة، الذين قابلوا الجموع الهادرة بالرشاشات والقناصات، غير أن وقفة الكرامة والحقّ والتصدي للمعتدي، انتصرت على السلاح الأميركي والروسي والإيراني، وزحفت الجموع في القرى جميعها، وكأنها على اتفاق وتنسيق مسبق، بالحدث والتصدي له، ليفرّ الغازي محتمياً برهائنه العزل، قبل ظهيرة نهار المذبحة، شرقاً باتجاه جحوره التي طلع منها، مخلّفاً وراءه مئات القتلى والمذبوحين والجرحى، في مجزرة غادرة يندى لها جبين الإنسانية خجلاً.
القريبون من الحدث، المبتلون بضغوطه وهمومه، حاصدو نتائجه حزناً وفقداً وجوعاً، يستهويهم استحضار الذاكرة، ذاكرة التوثيق والأرشفة “لن ننسى”، يؤوّلون ويحللون ما يحدث كلٌّ حسب زاوية الرؤية: لماذا قُطعت الكهرباء تلك الليلة- على غير المعتاد- عن القرى المذبوحة؟ لماذا سُحب السلاح منها قبل أيام؟ لماذا أُفرغت الفجوة بين القرى والحماد من الجيش منذ أيام؟ هل نقل الدواعش من الحجر الأسود ومخيم اليرموك، قبل أشهرٍ، إلى الحماد عملٌ مبيّت؟ هل معرفة الدواعش أسماء أصحاب البيوت المغدورة مقرونٌ بخيانة من داخل البيت؟ هل للمرتزقة مهربي المازوت والبنزين والطحين ومتاجري السلاح يدٌ في اللعبة؟ من له مصلحة أكثر من غيره في التخريب والقتل الدائر في البلاد على مدى سنوات عجاف أخرجت الغث في النفوس إلى السطح؟
البعيدون عن سوريتهم، وأنا واحدٌ منهم، يناسبهم استذكار ذاكرتهم وسردياتها، وتوثيق حكاياتها بألوان شتّى، حتى وإن كانت في صورٍ غائمة وأخبار وفيديوهات مقتطعة منقولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.. لأنّ الاستذكار شرط استمرارهم، أو ربما المعنى الوحيد لوجودهم في المهجر، ولأن الاستذكار وجهٌ من وجوه حفظ الكرامة المفتقدة، لانتصار أو هزيمة لم يشاركوا فيهما ولا تتعلق نتائج إحداهما بهم، أو لعله تعبيرٌ عن تمسّكهم بوطنٍ يسكنهم ويشاركهم غربتهم، ولهم الحلم بأن يسكنوه يوماً.
ويبقى واجب علينا أن نوثق ذاكرتنا، لنا ولمن بعدنا، وحقّ علينا أن ندوّن حيوات الذين عاشوا على هامش الحدث، وهم جزءٌ أساسيّ فيه، وأن نعطي للمفقود غير المدوّن، بقصصه وأحداثه، حقّه في حضور الذاكرة والتوثيق.
قرأت لإحدى الكاتبات السوريات ” في مقالها “قلق الذاكرة والأرشيف” تقول:
«في المعركة الجديدة التي نستورد فيها بخفة القيم والمعاني للذواكر، يبرز سوقٌ للذاكرة والأرشيف، اكتشف فيه المهزومون أن قيمتهم الجديدة عند الآخر المؤرِّخ هي بقدر ما يمتلكون من آثار وأراشيف لذاكرتنا، سوقٌ تباع فيه الذاكرة حرفياً بالتيترات والميغات والصور لمُسوِّقين ومُنتجين، صاحب الرأسمال الجديد فيه هو من تذكَّرَ أن يُسجّلَ أو أن يُصوّرَ من اللحظات الأولى، صاحب الرأسمال فيه هو من كان في «قلب الحدث» يعوِّضُ في إحداثياته الجديدة خساراته الثورية في قلب الحدث، باستحواذه على أرشيف يبيعه مادياً أو رمزياً. والخاسر فيه هو من عاش الحدث على الهامش مهما تلوّعت روحه، الخاسر فيه هو الأرشيف الغائب الذي لم يلتفت أحد إلى تدوينه، ومن يستطيع أن يؤكد لنا أن ما غاب هو أقلّ أهمية مما دوِّن؟ على عمل الذاكرة الأصيل في حالتنا أن يكرِّمَ المفقود غير المُدَوَّن وحيوات الذين عاشوا على هامش الحدث، ولكن كيف؟ كيف يمكن أن نضفي معاني وأخلاقيات على عملية حفظ الذاكرة نفسها وليس فقط على مضمونها؟».
الصورة للفنان اللبناني ألفرد طرزي