ذاكرة حدث

أرجوحة الكبار


صديقتي الجامعية “هيلانة” تروي، وأنا ادوّن ما ترويه “هيلانة”. أنطلقُ من “ساحة السير” وسط مدينة “السويداء” باتجاه حيّ “الملعب البلدي”، مسافة ميلين، قطعتها على الأقدام رغم الحرّ والشمس الساطعة،

لنجلس “هيلانة” وأنا، على شرفة منزلها الشمالية الظليلة، القهوة أمامنا، وأمامنا ساعات لرواية اختفاء ابنة جيرانهم “حسناء”، ابنة “أبو تيسير”.

لم تكن “هيلانة” تعلم أنها المرّة الأخيرة التي ترى فيها “حسناء”، ذات السبعة عشر عاماً، الناعمة الملامح، بعودها الرقيق، الشقراء بعيون شهلاء، التي تبدو أصغر من عمرها بسنتين أو أكثر.

«عند ظهيرة ذلك اليوم من الصيف الماضي- تسرد “هيلانة”- كانت “حسناء” تسرع بما يشبه الهرولة، إلى جانب ذلك الشاب المربوع ذي الصلعة الخفيفة، وهو يوسّع من خطواته باتجاه “ساحة السير”، وهي لا تكاد تلحق به. لفتت انتباهي حالة الخوف والتشتت والذهول التي كانت تعتريها. لم تكن ترى أحداً حولها، ولم تلمحني وأنا ألوّح لها بيدي.

عند المساء، كان هناك من يسأل عنها من أقاربها، في كل بيوت الحارة. رغم أنني لم أشكّ للحظةٍ أنه حصل لها مكروهاً، إلا أنني حدّثت أخي “غسان”، في سهرتنا أمام التلفزيون، بأنني رأيتها بين “الحسبة” و”ساحة السير” عند الظهيرة، وكانت في وضع مأخوذ تماماً، برفقة الشاب الأصلع، الذي نشتري من عنده الخضار والفاكهة في الحسبة معظم الأحيان.

– “محمود”؟ قال “غسان”.

فوافقته: نعم أظنّه “محمود”.

في اليوم الثاني، انتشرت بعد الظهر إشاعة اختطافها من جهة مجهولة، أو اختفائها رغم البحث عنها عند جميع المعارف والأقارب، والمستشفيات وأقسام الشرطة والأفرع الأمنية…. حاول أخي الاتصال بعمّها المهندس “حسام” الذي يعرفه، ليسأله عمّا حدث، وليخبره بأنني رأيتها برفقة بائع الخضار يوم اختفائها… لكن لم يوفّق. فاتفقنا على أن نذهب إليه صبيحة اليوم التالي، يوم الجمعة، ونخبره بما حصل منذ أيام ثلاث، عندما شاهدتها مع “محمود” ظهراً».

صباح يوم السبت، ألقت عائلة “حسناء” القبض على “محمود” وعلى اثنين من رفاقه، اعترف بأنهما ساعداه على اختطافها. والعائلة الكبيرة، لها ثقلها في موازين العائلية والقبَلية في محافظة “السويداء”.

الفيديو المصوّر، الذي بثّه موقع فيسبوكي من طرف العائلة، يعترف فيه “محمود” ورفيقاه، أمام حشد من أهل الفتاة بفعلتهم، وأنهم اختطفوا “حسناء”، وقاموا بتسليمها ل”عدنان” رئيس جمعية الحديقة الخيرية، ليلة اختطافها.

“محمود”، اعترف أنه استدرج “حسناء” لحظة مرورها أمام الحسبة:

«تحرّكتُ بسرعة واستوقفتها تاركاً مهمة البيع ل”نسيم” الشريك الأول في العملية، والذي كان يتتبّع البنت وتحركاتها منذ أيام، ويخبرني عن مكانها: ألستِ أنت “حسناء” ابنة “أبو تيسير”؟ بالتأكيد أنت ذاهبة للاطمئنان على أبيك.. أنا صديقه “محمود” الذي سأتبرّع له بالدم.

فوجئتْ بكلامي وعلاها الاصفرار، وكادت تصاب بالإغماء: أبي؟ ما به؟ وأين هو؟

تيقّنتُ أنها وقعت بالمصيدة: هناك في مخبر “الفجر”، أنا ذاهب إليه الآن، لكن وضعه جيد لا تخافي…

قطعنا المسافة القصيرة، إلى الطرف البعيد من ساحة السير، لا أكاد ألحق بها، ولا نلتفت إلى شيء.

كنت أتصنّع اللهفة، وأحدثها عن وضع أبيها الذي يحتاج لنقل الدم، وأطمئنها أنني سأتبرع له بدمي، وألهيها بالكلام.

دخلنا المختبر، الذي كنت قد اتفقت مع صاحبته، الدكتورة “ميس” قبل أيّام، على تخدير الفتاة لحظة وصولنا إليها، مقابل مليون ليرة وضعتها بحوزتها سلفاً.

كان “معتز” شريكنا الثالث في العملية، قد وقف بسيارته العمومي أمام المختبر، قبل وصولنا، كما كان التخطيط المتّفق عليه.


جثثهم كجثث الكلاب النافقة مرميّة قرب القنطرة الأثرية “المشنقة” في المدينة، وإلى جانبهم لوحة كرتونية كبيرة تحمل أسماءهم، وكُتب تحتها: «هذا مصير من يخون الأرض والعرض ويعتدي على حرمات الناس… آل المخطوفة».

بعد لحظات خرجت، والفتاة المخدّرة على يديّ، وضعتها في سيارة “معتز”، وكأنني أسعف مريضة.

انطلقنا بها بسرعة بضعة كيلومترات، إلى مستودع الأدوية التابع للمختبر، والموجود بجانب المستشفى الوطني، حتى يظنّ من يرانا أننا نسعفها إلى المستشفى، حسب الخطّة الموضوعة من قبل “عدنان”.

كنت أحمل نسخة من مفتاح باب المستودع، أدخلنا الفتاة وأقفلت الباب، ونظرت من النافذة الصغيرة الجانبية، لأطمئن إلى أن كل شيءٍ طبيعي، ولا أحد يتبعنا.

اتصل “معتز” من هاتفه بـ “عدنان”، الذي دفع لنا سبعة ملايين ليرة لإتمام هذه العملية، مليون ليرة للطبيبة المخدرة، ومليونين لكل واحد منّا.

أخبره “معتز” أن الفتاة صارت في المستودع، وهي مقيّدة ومكمّمة، وتصحو من البنج في الساعة الثانية بعد منتصف الليل تقريباً، حسب قول الدكتورة “ميس”. فأجابه: اتركوها واقفلوا الباب خلفكم، وانصرفوا وانتبهوا لا أحد يشوفكم، انتهت مهمتكم.

بعد يومين تصحو المدينة على جريمة مختلفة اللون والطعم. الشبان الثلاثة الخاطفون- أحدهم عنصر في الأمن- وُجدوا مقتولين رمياً بالرصاص. جثثهم كجثث الكلاب النافقة مرميّة قرب القنطرة الأثرية “المشنقة” في المدينة، وإلى جانبهم لوحة كرتونية كبيرة تحمل أسماءهم، وكُتب تحتها: «هذا مصير من يخون الأرض والعرض ويعتدي على حرمات الناس… آل المخطوفة».

بعد أسبوع، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي، بخبر إلقاء القبض على “عدنان”. ليس الأمن من قبض عليه بالتهمة الموجهة له، بل آل المخطوفة اقتادوه حيّاً يُرزق إلى معتقلهم.

اعترف “عدنان” في فيديو مصوّر آخر، أنه نقل الفتاة مخدّرة من المستودع.. أبقاها يومين في الفيلا التي أورثها له العميد رئيس فرع الأمن العسكري في المحافظة، وهي من الأملاك التي صادرها الأمن، وتعود ملكيتها للمعارض “فيصل القاسم”.. ثم جاء سائق العميد ليلاً وأخذها.

واعترف أيضاً أن ثمن عملية الخطف هذه، كان 15 مليون ليرة دفعها له العميد سلفاً، ودفع هو 7 ملايين منها مقدماً للخاطفين الثلاثة وطبيبة التخدير، التي اتفقوا معها على إتمام العملية.

أصابع الاتهام تتجه إلى العميد من كل صوبٍ. نُشر الفيديو على موقع فيسبوكي مساءً، وسمع به القاصي والداني. وكان النهار عصيباً. الكل مستنفر بصمت مريب، ولا أحد يمكنه تكهّن الآتي.

“جبهة النصرة” المتمركزة في “اللجاة”، على الحدود الغربية الشمالية للمحافظة، أصدرت مناشير تهديدية صبيحة اليوم التالي، تتحدّث عن معركة الحسم مع الكفار المؤيّدين للنظام، والذين لم يهبّوا إلى نصرة الثورة، وأطلقت دعوة إلى كل القبائل وأبناء العشائر البدوية: «اتركوا الخلافات الجانبية بينكم، واحشدوا ما استطعتم لهم من قوّة.. استعدوا لتوحيد الصفوف للمعركة الكبرى.. معركة الجهاد لقتل الكفار واحتلال جبل العرب.. اللهُ أكبر.. اللهُ أكبر…».

أصبحت قصة “حسناء” من المنسيات، وعمّت المشاورات والاستعدادات كل الجبل، لمواجهة الخطر القادم من الغرب. غصّت المواقع الفيسبوكية بالنخوات والتوجيهات والمزايدات والمناشير الاستعراضية…

لا أحد يكترث لمقتل رئيس جمعية البستان، كما قُتل “الخونة” الثلاثة، كأنّ قصته لا تعني أحداً. الكلّ منشغل بالنخوات، لنصرة من هم ضد “النصرة”. الأمن لا يفتح تحقيقاً، بل لا يتدخّل في الموضوع برمّته، كأن لا جريمة وقعت، وكأنه ليس على علاقة بأحد أطرافها.

وقف الجميع متفرّجين من بعيد، كأن الأحداث تنقلها وسائل الإعلام من دولة مجاورة، أو من بلاد واق الواق! ينتظرون ناراً تحرق الأخضر واليابس بين العائلات الكبيرة. إنها بذور فتنة بين الأهل، مبذورةً بيد الأمن الذي لم يعد أمناً.

يصدر قرارٌ بنقل العميد إلى محافظة أخرى، ويُعيّن آخر مكانه، يرفض الأخير أن يتدخّل في الموضوعات الحساسة، وينفي صلة الأمن العسكري باختفاء “حسناء”.

“جبهة النصرة”، التي تحرّكت في وقتٍ محدّدٍ، لتشغل الناس بفتنة على حدود اللجاة لأسابيع ستٍّ، سبقها انسحاب أكثر القطعات العسكريّة من المحافظة، وتخلّي الجهات الأمنية عن مهامها في استتباب الأمن، وتعويم الفتنة بين أهل المحافظة، وبينهم وبين جيرانهم من بدو اللجاة… تشي بخطورة اللعبة، التي لا يستطيع أحدٌ تأكيدها أو نفيها.

هل قيادات النصرة تأتمر بالأوامر الأمنية؟ وما الهدف من ترك الحبل على الغارب، ليأكل الناس بعضهم بعضاً في الجبل!؟ وتحريك جبهة “النصرة” لتهديد الجبل وقتل الآمنين في بيوتهم وعلى الطرقات في القرى الغربية المتاخمة؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × واحد =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى