ذاكرة حصار

معبر بستان القصر

وأنا أنتظر دوري في المشفى، كان نظري يتجول في كل زاوية نحو الموظفين، أراقبهم كيف يعملون بكل دأب. مرّ رجل وامرأة بالقرب مني، كانا يشتمان باللغة العربية؛ ظهر أن تأففهما كان بسبب الانتظار ومن سوء معاملة موظفة الاستقبال.

قلت في سرّي “يبدو أنهما لم يجرّبا معبر الموت، للذهاب إلى طبيب أو إلى مشفى، أو حتى لحاجة ضرورية”.

كم يصعب عليّ أن أستعيد الآن هذه الذكرى المؤلمة.

معبر الموت هذا الذي يطول الحديث عنه، ويحتاج إلى أن يكون لدى المرء ذاكرة جريئة، تقارعه، تستحضر الأشياء ومن ثم تمحوها على الفور، كي لا تعود مرة أخرى وتلتصق مجدداً في الذهن كفيروس الكتروني خطير، فتح لأسباب إنسانية، وبعدها تحول إلى معبر لتبادل البضائع، فأصبحت تمر عبره جميع أشكال التجارة” أثاث و منازل ومحروقات ومواد غذائية” وحتى التجار كانوا يقومون بنقل مصانعهم من خلاله.

استيقظتُ باكراً كي أجهّز نفسي للذهاب إلى الطبيب؛ لم أنم ليلتها من شدة المرض والألم. أنا لا أعرف أي طبيب في منطقتنا، فنحن منذ أربعة أيام فقط أتينا من الريف، وما زلنا غرباء عن مدينتي التي أخرجت كلّ أثقالها.

غادرتُ المنزل حوالي الساعة العاشرة صباحاً. سرتُ في طريق جسر السنديانة إلى أن وصلت المعبر؛ كانت أول مرة أرى فيها هذا المعبر.

مشيت عبر الشوارع والأحياء حتى وصلت إلى ساحة واسعة، مرصودة تحت عدسات أكثر من قناص. كان بعض من الناس يحملون حقائب كبيرة، ومنهم من يحمل أطفالاً على كتفيه، وآخرون يسحبون عرباتٍ تنقل العجائز والمصابين؛ وهنالك شباب يضعون أمهاتهم المُسنّات داخل عربات جرّ يدوية. مئات الرجال والنساء كانوا يعبرون بخوفٍ وقلق.. رأيتهم، كثيرين إلى الحدّ الذي لا يمكن لأحد تخمين أعدادهم.

كانت قدماي تهتزان بقوة، وكأن هزّة أرضية عنيفة تعبر تحتهما؛ حتى أني لم أعد أقوى على الوقوف، شعرتُ بغثيانٍ من معدتي نحو رأسي الذي أصبح عبئاً على كتفيّ!

شعرت وكأنني منذ ثلاث ليال وأنا أقف على هذا المعبر! كنت أظن أنها ساحة وصل بين الخصمين، وأنه لا يوجد أي خطورة.

وفجأة بدأ الجميع يركضُ بهلع بعد سماع رشقات متتالية من الرصاص لم نعرف من أين مصدرها؛ لم أعلم ما كان عليّ فعله، وأنا بحالتي تلك آنذاك؟ حاولت الركض، عندما بدأ القناصون بالتصويب نحونا مباشرة؛ نعم، عرفت لاحقاً أنّهم كانوا أربعة قناصين: ” واحد من جهة القلعة، وواحد من جهة البساتين، ومن جهة الإذاعة آخر، وقناص للجيش الحر من جهة أخرى”. كانوا يطلقون الرصاص دون رحمة، على الناس المذعورين الذين أسرعوا بالركض بعشوائية. كان علي في هذا الوقت أن أنجو بروحي، فحين يداهمك الخطر، يصبح الركض حركة لا إرادية، و تنصهر قواك الجسدية والعقلية لتصبّ في قدميكَ، حتى تشعر أن قدميك قد لامستا ظهرك، وهذا ليس تندّراً، لقد خُيّل إليّ حقاً أنّ قدميّ تربتان على كتفيّ، كأن شخصاً ما يلاحقني!

صاح الرجال:

_انبطحوا .. القناص لم يهدأ.

” كأنه في مسابقة للقضاء على كل من يتواجد في الساحة! ”

كان إلى جانبي رجل عمره قرابة الخمسين عاماً، يسحب عربة دفع خشبية محملة بالبضائع؛ يسحبها بكل قوته وأنا أحاول أن أحتمي خلفها. أتت رصاصة وأوقعت كيساً من البضاعة، فصرخ الرجل بملء صوته” نجنا يا الله “.

اهتز قلبي وشعرتُ أنه قد وصل إلى حنجرتي حينما رأيتُ شاباً أمامي تسيل من يده الدماء ومع هذا استمر يركضُ متجاهلاً أصابته، أو ربما أنه لم يشعر بأن القناص قد أصابه!

لم يهدأ صوت الرصاص حتى الآن، لقد كان صوته في ذاكرتي يشقُّ الهواء من حولي..

أغمضتُ عينيّ وقتها، وكأنه قد حان دوري؛ هذه الرصاصة التي من المفترض أن تكون من نصيبي، تحوّل مسارها نحو طفل تحمله أمه بين ذراعيها، جاعلةً من جسدها درعاً كي تحميه، ولكنها لم تنجح، لقد قتله .. صاح الجميع!

لم أستطع الالتفات خلفي، وأنا أركضُ لاهثةً، فقط سمعت صراخ المرأة المفجوعة بطفلها.

صرخ فيها الرجال:

_ اتجهي شمالاً.

ولم يستطع أحد الاقتراب منها، لم تزل جاثيةً وتنوح، وكأن القيامة قد حانت!

انتهى الخطر كما كنت أظن، حينها وقفت أختلسُ النظر عبر زاوية في الطرف الآخر من المعبر (ضفة النجاة)، أراقب الناس الذين نجوا بحياتهم من قناصي المعبر؛ فإذا بالرجل صاحب العربة يخرج حامداً الله على نجاته، متأسفاً على رزق أبنائه.

كم تمنيت أن أعرف ماذا حلّ بالأم وطفلها، هل نجا الطفلُ وتم إسعافه؟ أم أنّ القناصَ أرداها فوق رضيعها ؟!

لا تستطيع إذا كنت تسير مع صديق لك وسقط إثر رصاصة في هذا المعبر، أن تتوقّف لإسعافه، أو حتى الاطمئنان عليه؛ فإن فعلت ستكون الضحية التالية بعد ثوان!

مضيت متجاهلةً مرضي وإرهاقي، من هول ما حدث مع غيري، و رغم كل الذي حصل، لم تنتهِ هذه المعاناة. فكلما اجتزت خطراً وتنفست الصعداء، أتفاجأ بأن هناك ما هو أصعب!

رأيت أمامي طابوراً يقف أمام نقطة تفتيش تابعة لنظام الأسد؛ إذ إن هناك في الطرف الآخر من المعبر ممرٌّ موضوع لتفتيش النساء، وآخر لتفتيش الرجال.

تمرّر الفتاة “الشبيحة” التابعة لقوات النظام يديها من أعلى رأس المرأة إلى آخمص قدميها، وتفتش ما تحمله من أغراض. يبلغ عرض الممرّ تقريباً مترين، يمر عبره آلاف الأشخاص، النساء منهم والأطفال، وأطنان البضائع وخزانات المازوت، كل ثلاث ساعات؛ ويمر أيضاً من خلاله تقريباً مئتا شخص، تحت رحمة “الشبيحة” وعناصر النظام الذين يشتمون الناس ويستهزئون بهم، وفي أغلب الأحيان يقومون بتفرقتهم بالعصي، أو عن طريق إطلاق النار في الهواء

الأرض كانت شديدة الانزلاق، نمشي فوق الفاكهة والخضروات المتعفّنة، علاوة عن الروائح الكريهة الصادرة عن أجساد الناس الواقفين أمام الممرّ ينتظرون دخولهم إلى مبتغاهم. ثم فجأة، يحدث أمر لم يكن في الحسبان، إذ اشتبك الطرفان، (الحرّ والنظام) وبدأ إطلاق الرصاص، فثقب “خزان المازوت” الكبير عند مدخل الممرّ، وبدأ الرجال يصرخون “يا شباب انتبهوا ثقب خزان المازوت”.

الأرض امتلأت بالمازوت، والناس أيضاً؛ “سنحترق، سنحترق” جميعنا أخذ يصرخ، واستمرُ الصراخ “أوقفوا الرصاص” عمّت المكان فوضى كبيرة، واختلط ممر الرجال مع النساء مع عربات البضائع الحديدية والخشبية، والصراخ، وبكاء النساء والأطفال؛ جميعنا، كانت وجوهنا بلون الدمِ!

شعرت وقتها بأن روحي غادرت جسدي.. تجمّد الدم في عروقي وتيبّس حلقي.

ارتفع صوت التكبير، ولا أدري لماذا؟ وازداد بكاء الأطفال أكثر؛ لو كنّا ماشية لما عاملونا بكل هذا السوء ربما كانوا اهتموا بنا أكثر!

توقف الرصاص أخيراً وبدأ أحد “الشبيحة” يعوي: ” يا كلاب .. قفوا بالدور، بانتظام، كي لا أحرقكم جميعاً”.

مضت خمس ساعات على وقوفي، حتى اقترب دوري، فطلبت حقيبتي تلك “الفتاة الشبيحة” وأخذت تفتشها.

سألتني:

_هل لديك سيجارة؟

قلت لها:” كلا، لا أدخّن”

فردّت عليّ بلهجة حاقدة:

_ قفي جانباً وأخرجي بطاقتك الشخصية.

سمعتُ دقّات قلبي في أذنيَّ، وانتظرتُ مصيري. بعد دقيقة سمعتها تسأل امرأة أمامي عن “السجائر”؛ فأخرجت تلك المرأة ورقةً نقدية ووضعتها في يدها خلسةً ومضت دون مساءلة أخرى.

كان لا يوجد أمامي سوى هذا الحل، فأنا لم أجد “هويتي” في الحقيبة. أخرجت ورقتين نقديتين من فئة 500 ليرة، واقتربت منها ووضعتهما في كفّها بهدوء، فابتسمت حتى ظهرت أسنانها الصفراء، وقالت لي بلطف ” بسرعة، اعبري” مع ابتسامة أخرى بلهاء.

دخلت “حي المشارقة”؛ كانت الساعة حوالي الثالثة بعد الظهر، نفضت الغبار عني، ورتبت هندامي، بعدها اشتريتُ مناديل مبللة مسحت يديّ وحذائي، واتجهت مسرعة إلى الطبيب.

” لا فائدة من هذه الزيارة” قلت لنفسي، فأنا الآن أصبحتُ بخير بعد أن حاول القناص اليوم إضافتي إلى قائمة ضحاياه!

جعلتُ أدور وأتجوّل في الشوارع، مذهولة من الذي أراه، وكأنني أتيتُ إلى بلد غير بلدي.

فتيات ينتعلن أحذية بكعوب عالية، متبرجات بألبسة ملونة، مع ضحكات واسعة برفقة شباب ذوي شعور طويلة، وحركات شاذّة!

ــ هل هذه حلب؟

هناك داخل الحي الذي أقطن فيه بعد “معبر الموت“، لا يوجد سوى الخراب، والحزن والأنين، والخوف وأصوات القذائف والرصاص. أيضاً هناك اسمها “حلب”!

تناولتُ وجبةً على عجل في مطعمٍ صادفته أمامي، يكتظّ بـ “المواطنين الحلبيين السعداء”.

وقفلتُ راجعةً بعد ساعة، مسرعةً نحو الطريق ذاته، طريق الموت!

وصلتُ المعبر.. لم تنقص أعداد الناس، لربما ازدادت أكثر؛ اقترب موعد إغلاقه المحدّد في تمام الساعة الخامسة عصراً؛ وكأنه في رهان مع الموت، لا يتوقف القناصون المنتشرون حوله حتى بعد إغلاقه عن استهداف أي شيء، حتى لو كان حيواناً أليفاً بداعي إرضاء غريزتهم الدموية، أو غرورهم، أو من باب كسر الملل وهدر الوقت.

نعم.. هكذا أصبحت مدينتي حلب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

1 × أربعة =

زر الذهاب إلى الأعلى