ذاكرة حدث

سرداب البول “2”


بتؤدةٍ نترجَّلُ من الباص الأبيض الذي مرّ بشوارع حلب، كنت أتذكّر الفراغ الهائل في الشوارع، من داخل الباص وأنا مقيّد اليدين إلى أيادي أصدقائي البقية، أحاول أن أرى وجهاً في الخارج أتذكّره علّني أناديه كي يساعدني ويخرجني من جحيم هذا المربع المتنقِّل منذ أسابيع، لكنني أفشل، أقول في سرّي:

سنواتٌ طويلة أمضيتها في حلب المدينة وتعرّفت على الوجوه بشدّة، والآن تخونني الوجوه، أستفسرُ من أحدهم: “هل هذه حلب فعلاً؟!” يهزُّ رأسه فقط دون أن يلتفتَ إليّ، كانت نظراته ساهيةً عن كل شيء، ربمّا كان يفكِّرُ بزوجته أو ابنه أو جارته!

توقَّف الباص عند مربّعٍ إسمنتيّ، فتحوا باب الباص وأنزلونا بهدوءٍ ليطلقونا بسرعةٍ نحو مدخلٍ متهدِّم، تبيّن لنا بعد دخول الصالة أنّهُ كذلكَ سجنٌ، ما أكثر السجون في البلد وما أبرعَ العقل المدبِّر لهذه الأبنيةِ التي يضيعُ المرءُ فيها، فقط السجَّانُ الذي لا يتغيَّر على مرِّ السنوات، يبقى ها هنا، يلهو بمصائرِ الأصوات الغريبةِ المختلفة التي تدخل هذا المكان وتخرجُ منهُ بلا صوتٍ أو حنجرةٍ أصلاً، أو ربمّا يخرجُ فقط ذاكرةً ملأى بأصوات أصدقائه الذين بقوا في الداخل إلى أمَدٍ آخر.

الحركةُ البطيئة:

كل شيء يبدو بطيئاً بفعلٍ ساحرٍ آن دخولِ هذه الأمكنة، الوجوهُ تكادُ تموتُ من البطءِ الذي يحاصرها، كلُّ شيءٍ بطيء، الأوامر فقط تكونُ سريعة، والتنفيذُ يكادُ يكون سحراً أسرعَ وإلّا تتهاوى الأيدي على أجناب الداخلين، أيادٍ تنمو بُغتةً من حيث لا تعلم!

استقبلتنا رائحةُ الناس الذين عبروا ذات مرّة في شرايين هذه الدهاليز، ممرَّاتٌ طويلة، لا وجود لمقاعد يريحُ عليها المرءُ مؤخّرته -التي رآها كلَّ الجنود-أو ينتظر، بردٌ وهواءٌ يخرج من رئاتِ المجنّدين القدامى، رائحةُ جواربَ متعفِّنة من الرطوبةِ الدائمة، الرطوبةُ التي أحسستُها ذكرياتٍ تودُّ مغادرة هذا المكان لتتحرَّر وتهرب، لكن ثمّة من يحجزها ويمنعها من أن تخرج رؤوسها المتعدّدة كي تتنفّس.

ما اسمكَ؟ من أين أنت؟ قرفِص، ثم انهض، فجأةً وكأنّ حرباً تدورُ في الخارج ويمتدّ القلقُ نحو هذا الداخل الكابوس! من ثمّ يغوصُ الجنودُ في ضحكٍ هستيريّ مفتعَل لتزجية ما تبقّى لهم من ساعاتٍ وأيَّام كي يتحرّروا من هذا القفص الإسمنتيّ القبيح، الجنودُ الذين تبانُ اللا اختياريَّة على ملامحهم في التعامل هذا، انطلاقاً من أنّنا جميعاً نخدمُ العلم تحت بند التجنيد “الإجباري”.


رقّموا الأمواتَ من الصفرِ إلى المائة.. احتاروا من يكُن الأوّلَ في القبر، منهم من تَشَبّهَ بالميَّت كي يصيرَ رقمَاً، ومنهم تكفّل بحملِ النعوشِ كلّ موتٍ، ومنهم من غافلَ الحاجز العسكريّ بعد أعوامٍ طويلَةٍ من السيرِ الوئيد؛ قَضَى المَوتَى حيواتهم وهم يُشْهِرونَ بطاقاتهِم الشخصيَّة في وجوهِ العساكرِ والعالَمِ؛ أرقامٌ…أرقام.. 

أخذوا حقائبنا التي اهترأت، والتي ابتاعها أهلنا لنا على عجالةٍ كي يلحقوا السيارات البيضاء التي أقلّتنا إلى جحيمنا الثاني في دورة الحياةِ السوريَّة، فتّشوا أرواحنا أملاً منهم في العثور على ما يزعجُ الدولة وعنجهيّتها، وحينَ لا يعثرونَ على شيءٍ ما مريب، يصرخونَ كوحوشٍ أُفلِتت للتوّ من قفصها الجائع، لمِ لا تحملونَ شيئاً في دواخلكم؟، لِمَ أرواحكمُ عاريةٌ هكذا؟! تذكّرتُ أبي وأنا أُدفعُ للداخلِ المُعتِم، أبي الذي بقيَ سنواتٍ خمس في المعتقلات، كنتُ أتأمُّلُ الجدران علّها تخبرني شيئاً عن مشيته ها هنا في هذا الممرّ الطويل الذي يفضي إلى حياةٍ أخرى لم نعلم عنها شيئاً طوالَ حياتنا السابقةِ الغضَّة.

تذكّرتُ كذلك الشرطيّ في مدينتي، الذي كانَ يغضّ البصر عنّي في ملفات “المخافر” مقابلَ موادٍ تموينيَّةٍ رخيصة أبتاعها له بشكلٍ شهري على مدى سنواتٍ أربع، يُقنِعُ بها زوجتهُ أنّه إنسانٌ صالح ويكدّ ليؤمّنِ قوت منزله وأنّه خادمُ الحكومةِ التي تربّيه وتسهرُ على أموالهِ وتمنحهُ راتباً ليعيشَ بكرامةٍ!

وزّعونا على سراديبَ طويلَةٍ. كنتُ أبحثُ عن تسليةٍ كالتي نفعلها قبل النوم، أن أُعدّ المساجين الذينَ حُشِروا كأغنامٍ في هذا الإسطبل الحقير؛ ثلاثونَ شابَّاً إلّاي، وجوههم تفصحُ عن غضبٍ مكتوم وجوعٍ قديم لا يمكنُ إشباعهُ مطلقاً، لصق بعضنا البعض صحبةَ أجسادنا المتعرِّقة والمتّسخة، نسندُ ظهورَنا إلى الحائط البارد الذي يسخنُ رويداً رويداً ، يتكهّنُ أحدهم: “لا بدّ أن فرناً ما خلفنا يصنعُ الخبزَ لمن هم خارج هذا السرداب، وإلّا فمن أين تتأتّى هذه الحرارةُ دفعةً واحدةً، ظالمة؟!” نجوعُ على ذكر مفردة: “الخبز” ولكن نتناسى الأمر، نتفرّجُ في وجوهِ بعضنا البعض على أمل معرفةٍ قديمةٍ تثبُ فجأةً كي نتبادلَ أدوارَ الحديث كجوقةٍ غنائيَّة لنبعدَ عن أرواحنا الملل وعن أنوفنا الروائحَ الكريهة. نسألُ عن ذوينا في الخارج ونطمئنَّ على دورة الحياةِ هناك، لكن لا بصيصَ أملَ ينمو في هذا المنحى، نُنزِلُ أبصارنا للأسفل، ونعتقدُ أنّ ثمّةَ حياةً في الخارج، أصواتُ الباعة والسيَّارات، نحلمُ بأنّ ثمّة حياةٌ ضاجَّةُ على مبعدة أمتارٍ قليلَةٍ وسفر سنواتٍ عن هذا المكان البطيء.

أرقام:

رقّموا الأمواتَ من الصفرِ إلى المائة.. احتاروا من يكُن الأوّلَ في القبر، منهم من تَشَبّهَ بالميَّت كي يصيرَ رقمَاً، ومنهم تكفّل بحملِ النعوشِ كلّ موتٍ، ومنهم من غافلَ الحاجز العسكريّ بعد أعوامٍ طويلَةٍ من السيرِ الوئيد؛ قَضَى المَوتَى حيواتهم وهم يُشْهِرونَ بطاقاتهِم الشخصيَّة في وجوهِ العساكرِ والعالَمِ؛ أرقامٌ…أرقام..، لم يحملوا سكاكينَ أو رصاصاتٍ ولا مسدسَّات، تأبطّوا أوراقَ السفارات وحجوزات الفنادقِ الحقيرة : “أخذوا منّا أطفالنا ورموهم في البحار الجائعة” قالوا.

أنا كنتُ في غفلةٍ، أو ربمَّا ادّعيتُ الحزنَ لعلّني أصِلُ إلى رقمٍ، أو أرقَّم مرَّةً!

يحملونَ القلمَ الغليظَ ويدوّنونَ على جبهتي أرقامَ في أربع خانات، رآهُم العالمُ كلُّهُ عراةً، – رأيتهُم كذلكَ -، لم يبقَ أحدٌ إلّا ورأى دماءَهم تسيلُ، بقلوبهم رمّموا الجرحَ ومن ثمّ أوصدوا الأبوابَ وماتوا.

لم نعتد على الصراخ في حياتنا السوريَّة إلا في دواخلنا، أصواتٌ كئيبةٌ مرتفعة جدّاً تنمو فينا، نخافُ من الصراخ أن يتحرّر نحوَ الخارج، لأنّ الصراخَ إن تحرّرَ إشارة خطب ما، يستدعي وجودَ رجال الأمن الذين أكّدوا مراراً على توفير السلامةِ حتّى من الصراخ.. صمتٌ يلفّ بنا داخل السرداب الطويل الرَّطب، نحاولُ أن ننام، دون أن نعي الساعاتِ أو الزمن، بيولوجياً نشعرُ أنّ في الخارج عتمةٌ هي انعكاس لعتمتنا في الداخل، ننجحُ في الأمر، حين يدقّ السجّانُ على الباب المعدنيّ الثقيل: “اخرسوا ومن ثمّ ناموا!”

نتفرّس في وجوه بعضنا البعض، ولكن من ذا الذي تكلّم حتى استدعى ذلك الكلامُ أمراً من السجّان بأن نخرسَ!

لا يكفّ السجّانُ عن الأمر، شيءٌ ما سحريٌّ يوشوشُ في أذنه، أنّ ثمةَ كلاماً في الداخل ونحن الصامتين أبداً، بعد برهةٍ قليلة، يضربُ بسوطهِ على البابِ المعدنيّ الذي خبِرَ وجوهاً كثيرة ومن ثمّ يفتحهُ: “هيا انهضوا”، ننهضُ كآلاتٍ ممرَّنةٍ، نخرجُ واحداً إثر الآخر لأنّ المخرَج لا يسعنا جميعاً، في هذه اللحظات أتيقَّنُ تمامَ اليقينَ أن لا مخرجَ جماعيٍّ لكلّ السوريين، لأنّ المخارج كلها صغيرةُ في هذا البلد ولا تسعُ الجميع، فلا بدّ أن يخرجَ أحدهم ومن ثمّ يليهِ آخر وهكذا إلى ما لا نهاية لهذا الكابوس. الأنانيَّةُ المفرطةُ التي دأبت الأرواحُ الشيطانيَّة على رسمها ونقشها وزخرفتها بتؤدةِ نحّاتٍ قدير في ذواتنا الهشَّة، برزت جليَّةً دون غمامةٍ أو غبار، أنانيَّةٌ تُشير إلى ذاتها بأصابعنا نحنُ!

في سردابٍ آخرَ، ثلاثون حقيبة رخيصة الثمن من تلك التي تباع في أسواق “الحراميَّة” في هذا البلد “الحرامي” وثلاثون إنساناً بين عسكريّ ومدنيّ مساقون إلى العسكر، هكذا طيلة الليل، نغفو لدقائقَ لنستيقظ هلعينَ جرّاء صوت طرقات السجّان على الباب المعدنيّ، لتُعلَن مراسم نقلنا إلى تابوتٍ آخرَ، في ممرّات التوابيت اللا منتهية في جوفِ هذا المكان الفسيح.. – تزجيةٌ ليليَّةٌ لوقتِ الجندي المُرهق الذي لم ينَم طوال عام.

أتذكّرُ الآن بوضوحٍ ما كان يجولُ في خاطري في ذلك الزمن، ماذا لو كنتُ معتقلاً سياسيَّاً؟!

أشكرُ الطبيعةَ والآلهة أنّني لست كذلك، ثمّ أحزنُ على الآخرين البعيدينَ في تلك الزنازينِ الغامقة، لونٌ واحدٌ، أرقامٌ كثيرةٌ، منها عاشَت، ومنها ماتت ودُفِنت في أماكنَ بعيدة، وتحوّلتِ الجثثُ إلى أرقام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة + 4 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى