بين ميتتين.. أو أكثر

«لا أريد التوقف عن الجري حتى أصل»
كذلك كان يردد ويستمر دون توقف، كما اعتاد دوماً، فما يفعله قائمٌ على شيءٍ غير قابلٍ للانهدام. ذلك ما آمن به في أعماقه ذاك الشاب الطموح ذو القامة الطويلة والابتسامة التي لا حدود لها. ليس لديه وقت للانتظار، الجرأة والإيمان فيما يفعل يدفعه للمضي قدماً وبكل ما يملك دون تردد، يهمس دوماً بجملة للروائي نيكوس كازنتزاكي:
«قسمة الإنسان لا تقع في الانتصار، بل في الصراع في كيفية أن يعيش أو يموت بشجاعة، دون التنازل لقاء أن يقبل مكافأة وفي شيء أكثر تعظيماً، في كيف يصارع ببسالة ووعي أن لا مكافأة له خارج نفسه، كي تصبغه بالفرح، أو الفخر والبسالة في نضاله».
كان حماسه قد بدأ يتفجر مع بداية الربيع العربي في تونس. بن علي هرب، ومبارك يترنح في مصر أمام حماس الملايين في ميدان التحرير. وهو يصغي ويتابع لما يحدث لحظة بلحظة، ليدرك أنه بالإمكان قلب هذا العالم وتغييره نحو الأفضل، وإيقاف جريانه البائس. يهمس سراً بحماسة: «وأخيراً سنتنفس الحرية في سورية».
كان “حسام ذيب” صديقي.. عندما بدأت الثورة في سورية تغيرت حياته كلها، لطالما انتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر، بات يشعر بأنه أخف وزناً، يمشي وكأنه يطير، فحلمه بالحرية بدأ ولن ينتهي بموته.
شارك في الثورة منذ بدايتها. خرج في المظاهرات وكتب الشعارات المنادية بالحرية على الجدران، لتضيق عليه جدران “السويداء” لاحقاً. يُحاصَر في عمله في صيانة الحواسيب، فينقله مجبراً إلى “جرمانا” في ريف دمشق، ويتابع من هناك نشاطه في المظاهرات وتنظيمها، وفي أعمال الإغاثة، إلى أن داهمت دورية أمنية في صباح أحد الأيام مكان عمله، واعتقلوه بتهمة التظاهر والمشاركة في (المؤامرة) القائمة ضد النظام.. أفرجوا عنه بعد شهر وآثار التعذيب بادية عليه.
«الأنذال اتهموني بأني تابع لتنظيم الإخوان المسلمين، وكنت أقول لهم أنا درزي فكيف أكون من الإخوان المسلمين، حتى إنني لم ولن أتعامل مع الناس على أساس أديانهم، فكيف أكون إخونجياً؟!».
تخفّى بعدها فترة من الزمن نتيجة ملاحقة الأجهزة الأمنية له مجدداً، لأسمع لاحقاً أنه ذهب إلى الغوطة، وبدأ عمله الإعلامي في “عين ترما” لتوثيق الجرائم التي ترتكبها قوات النظام ضد المتظاهرين. قضى سنتين هناك، كانت كفيلة بمعرفته لتفصيلات لا نهائية، وشخوص وأحداث يومية جعلت منه شخصاً آخر أكثر صلابة وغير قابلٍ للانكسار.
باتت المساحات أضيق. توصّل لنتيجة عندما غدت حياته على المحك: «ليس ضرورياً أن تعرف كل شيء في الحرب، كل ما عليك معرفته هو القدرة على تسديد الطعنات قبل أن تسدد إليك».
كان في هذه الفترة كالجبل لا يهزه شيء، فمتعة الحياة كانت تمور بعنف في صدره، وروح الخلق تنفخ في أفكاره، التحق بعدها بالجيش الحر إيماناً منه بأنه الحل الوحيد مع النظام الحاكم، ليجد نفسه وسط فصائل مسلحة أخذت تتشكل في الغوطة الشرقية وتتخذ تسميات لها طابعٌ دينيٌّ، حينها بدأ الضغط عليه لتشكيل كتيبة تمثل الدروز، ولكي يثبت أن الدروز شاركوا منذ اليوم الأول في الثورة، وليحقق حلمه في الانتقام من الأجهزة الأمنية التي كانت تُعذب وتتهم كيفما شاءت.. قَبِل بتشكيل فصيل مسلح، وأسماه “كتيبة بني معروف”، لكنه لم يصبر كثيراً حتى قام بتغيير اسمه لاحقاً لكتيبة “يوسف العظمة”، لرغبته في إظهار الجانب الوطني الجامع في الثورة، ولعدم قناعته بالتسميات الطائفية.
شيء ما كان يثقل صدره، قلق وسأم يقيد جسده وروحه، فمساحة الأحلام أمامه تضيق وكذلك مساحة الحب والحياة، ولا شيء يتسع سوى مساحة الموت. فَهِم حينها وبوضوح أشياء عدة لم يكن يعرفها قبل ذلك الوقت، أو ربما لم يكن يريد معرفتها ليقينه بأن الثورة يجب أن تنتصر، وتبني عالماً جديداً وسط الخراب الذي يعيش فيه. تدافعت مئات الأسئلة إلى عقله المضطرب، لكنه لم يستطع إيجاد جوابٍ واحدٍ يروي ظمأه.
بعد تشكيله للكتيبة، فوجئ بأن مبالغ كبيرة كانت تُصرف تحت اسم دعمها، في حين لا يصلهم سوى الفُتات من أكياس طحينٍ ملأى بكسرات الزجاج، والقليل من المواد الغذائية التي لا تكفي رجلاً واحداً. هكذا كان يجد نفسه وسط خراب لا يستطيع فيه التراجع، أو التقدم إلى حيث كان يريد، فالقيد الذي خرج لمحاربته بات أكثر ضيقاً، بعد إدراكه أن الثورة لم تعد تعني أحداً من قادتها على الرغم من كل التضحيات والدماء التي قُدمت لأجلها. غلب في حينها الجو الطائفي على الفصائل وغدا الكل يبحث عن مصلحته ومصلحة الدول التي كانت تموله، كما باتوا يتعاملون معه كدرزي، وليس كثائر. كان يقول لهم هذه ثورة الشعب السوري وكل السوريين، لماذا تفعلون ذلك، فتلك التسميات والتقسيمات الطائفية لمصلحة النظام، وهو بارع في استخدام ورقة الطائفية ضدّنا.
تعرض بعدها لعدة محاولات اغتيال إثر مواقفه وآرائه، حيث اضطر لتغيير مكانه أكثر من مرة، انتقل سراً من مكان إقامته في “الغوطة” إلى “القابون” خوفاً من الإسلاميين الذي سيطروا على أحلام وحياة الناس هناك، وبدؤوا بمطاردة كل من يخالف سياستهم. وصل إلى “القابون” مع حلمه وإصراره على تحقيق الثورة التي يريد، ولكي يبدأ مرحلة جديدة.. لكن «حثالة البشر لا يمكن ان تمنح سوى البؤس والموت والخديعة والخراب» على حدّ قوله.. مرّ بفترة لم يستطع فيها العمل أو التحرك، انتقل بعدها إلى “برزة”، ليواجه أيضاً هؤلاء الذين كان يعتبرهم “جواسيس النظام وأعداء الثورة”. كانت المؤامرات تُحاك في السر وفي العلن، الجميع يخوّن الجميع، والكل يريد أن يسرق والضحية هي الشعب السوري وحلمه بالحرية.
باتت المساحات أضيق. توصّل لنتيجة عندما غدت حياته على المحك: «ليس ضرورياً أن تعرف كل شيء في الحرب، كل ما عليك معرفته هو القدرة على تسديد الطعنات قبل أن تسدد إليك».
أصبح يشعر بعبث الزمن وعبث الساعات التي تدق ثانية ثانية دون معنى. لم يعد أمامه سوى محاولة وحيدة لإنقاذ نفسه من كل تلك المخاطر والملاحقات، وهي الهرب خارج سورية، بعد أن استنفد جميع محاولاته لإنقاذ الوضع حوله، حتى بات خطراً عليه.
بالفعل رتّب أموره ودفع مبالغ طائلة، وقطع المسافات الملأى بمخاطر متنوعة حتى وصل إلى تركيا، حيث تعرض في طريقه إلى الاعتقال من “جبهة النصرة”، لتفرج عنه لاحقاً بعد تدخل جهات من المجلس الوطني. وصل بعدها إلى تركيا، ليكتشف هناك حقيقة كذبة الجيش الحر المتواجد في تركيا، ويرى كيف تضعهم تركيا في معسكرات ولا تسمح لهم بالمغادرة دون إذن منها.. واكتشف أيضاً أن قادة الثورة المتواجدين هناك، ما هم إلا مرتزقة يتاجرون بدم الشعب السوري، وليس لهم مصلحة بإنهاء الحرب، بعد أن أصبحوا أثرياء بسببها.
بقي قرابة السنة في تركيا، لم تجلب له سوى إحساس عميق بالتجاهل، بالتخلي، بالفقد والغبن. ثمة إحساس بالخواء كان يخيم على كل شيء حوله، يشوش كل شيء محسوس من على مسافة بعيدة. كان يواري انكساراته وخيباته. أنجز وتعلم أشياءً كثيرة، لكنه لم يكسب شيئاً، فقط تفاصيل صغيرة مرهقة. قد تكون الأهم لكونها جعلته يشعر بالامتلاء، وينظر الى الحياة بصدق.
استدان مبلغاً دفعه لمهربٍ نقله بالبلم إلى اليونان، حيث بداية مشوار اللاجئين إلى أوروبا. استمرت رحلته سبعة أيام مع مجموعة من الأشخاص الذين تنقلوا من اليونان إلى صربيا، هنغاريا، لتأتي محطته الأخيرة في النمسا حيث لم يبقَ سوى مسافة قصيرة بين الحياة والموت للوصول إلى وجهته ألمانيا. كانت رحلة جديدة في حياته، يحاول فيها أن يعود إنساناً طبيعياً، بعيداً عن الحروب والمجازر. تحول حلمه من ثورة شعب ينادي بالحرية إلى ثورة على نفسه، ليستعيد ولو جزءاً صغيراً من الذي فقده طوال فترة وجوده في “الغوطة”.
نجا من القصف، الدمار، الخراب، والكيماوي في سورية، ليجد الموت أمامه على طريق الخلاص، هكذا بحادث سير.
كنت متأكدة في حينها أنه أطلق ضحكة، لا تضاهي ما عداها من الضحكات من القدر، الذي سحبه إلى هذا المكان وبهذه الطريقة لتكون نهاية حياته المؤلمة.
أمّه مازالت تُكذّب خبر موته، تنتظره، تسمع صوته أينما ذهبت في آذانها، مازالت تراه، تحدثه سراً، تهمس له: «اشتقتلك.. وين رُحت وتركتني وحيدة».
تروي تفاصيل حياته همساً، تضع صورته بجانبها، لا شيء يبعدها عن وحدتها سوى تلك الصورة ذات الإطار الذهبي.. تتذكر أدق التفاصيل وتذكره بها، فالذاكرة تصبح ملأى بأحداث وتفاصيل لم تكن تخطر على البال. تتحدث عنه وكأنه موجود، روحه مازالت تنبض بين جنبات البيت بأحاديثها، ومازالت تنتظر قدومه، وبأنها ستفتح الباب في يوم من الأيام لتجده هناك، وتضمه الى صدرها…