ذاكرة حدث

تجاعيد، على وجه القلب


في صيف عام 2016 كان أغلب السوريين مُقتَلَعين من جذورهم السكنية، أغلبهم مُشرَّدٌ في مُدنٍ غير مدنهم، ينزحون داخل سورية أو يتشردون في كل دول العالم؛ نحن الهاربين من هذه الحرب الشنيعة، أو بفعل الحصار والتهجير القسري.

لم يكُن بيد أم محمد ذات الستين سنة، إلَّا أن تنزح مع زوجات أولادها الثلاث وأولادهنَّ نحو محافظة حماه، هرباً من تنظيم داعش، الذي تمكن من السيطرة على كامل محافظة الرقة في آب من عام 2014، بعد معارك عنيفة مع فصائل الجيش الحر الذي كان يسيطر على المدينة، وبات التنظيم يبحث في أيِّ تجمعٍ مدنيٍّ عن شُبَّان كانوا يقاتلون في صفوف الجيش الحر ويقوم بإعدامهم، فهرب أولاد أم محمد الثلاثة إلى الشمال السوري من جهة إدلب، لينضموا إلى فصائل الجيش الحُر هناك، ولم يختاروا الهجرة القريبة إلى تركيا، أو البعيدة إلى دول أوروبا.

أمَّا أمُّ محمد مع زوجات أولادها فقد سكنت في مدينة حماه، مع الكثيرين من النازحين من مدينتها، في حي الملعب البلدي وسط المدينة، بدون رجُلٍ يحميهم لا في رحلة النزوح المريرة، ولا في سكنهم في مدينةٍ باتت مركزاً للحرس الثوري الإيراني ما يُسمون “الحُجَّاج الإيرانيين” وملاذاً للشبيحة من مختلف المحافظات. هذا جعل النازحات عُرضةً للتحرش والابتزاز، من وحوش العصر، الأمر الذي أجبر أمّ محمد أن تصبح أباً وأُمَّاً لكنَّاتها وأولادهنَّ، وتجعل من نفسها درعاً حامياً في عالمٍ يعاديها من كُلِّ الجهات.

تُحافظُ على ثباتها وعزمها للاستمرار في مسيرتها غير الطبيعية، وتفوق قدرة الرجال والنساء معاً، طالما أن أولادها أحياء، وسالمون في شمال إدلب، ملتزمةً عدم الحديث أمام أيِّ أحدٍ من النازحين أو من سُكَّان الحيّ عن أولادها، خوفاً من انتقام النظام بواسطة شبيحته منها ومن نساء أولادها إن عرفوا بأنَّ أبناءها متطوعون في صفوف الجيش الحُر، ولذلك عندما تتعرض للأسئلة من نساء الحي، كانت تكتفي بكلمتين ونهرٍ من الدموع يجعل صاحب السؤال ساكتاً، لا يُكملُ استفساره..

كانت تردُّ : قتلتهم داعش ثلاثتهم ..الله لا يسامحهم ..

كان أصغر أبنائها سامر، أحبهم إلى قلبها وكأنه قطعةٌ من روحها، لم يكن يفارقها منذ صغره حتى هروبهم من الرقة، وهو في الخامسة والعشرين من العمر، ولهُ بنتٌ صغيرة لم تكن تُكملُ عامها الثاني بعد .

كُل ذلك زاد عدد التجاعيد في وجهها الأسمر العتيقِ، وطول مدَّة بكائها السريِّ بعيداً عن أعين كنَّاتها وأولادهنَّ، شوقاً لأبنائها وخوفاً عليهم، وتخُصُّ في نشيجها المختنق حبيبها سامر، وخصوصاً بعد كُلِّ مُحادثةٍ مع أبنائها الثلاثة والاطمئنان عليهم كُلَّما أتاحت الفرصة ذلك، بما توفِّره شبكات التواصل الاجتماعي، من لحظات وصالٍ بين أمٍّ ملزومة بالقهر المديد، لتتحول التكنولوجيا المعلوماتية، إلى أعصابٍ عضوية تنقل مشاعر الاطمئنان والحزن الشفيف بين أفراد الأسرة الواحدة ليُصبحَ عادةً وطقساً شبه يوميٍّ، وكأنه إكسير الحياة لهذه الأُمِّ السوريَّة بامتياز.

لا تعرف كيف مضت كل تلك الأيام وهي تذوق مرارة غصَّاتها القاسية، بين حرقة قلبها على احتضان أولادها وشمِّ رائحتهم، وبين الاعتناء بعائلةٍ كبيرةٍ من النساء والأطفال ضمن مدينةٍ أشبه بغابةٍ مليئةٍ بالوحوش الكاسرة. حتى الشهر الأول من العام 2016، حيث كانت روسيا قد كثَّفت من عملياتها العسكرية في الشمال السوري، ولا يهدأ طيرانها الحربي في القصف اليومي لشمال حلب وإدلب، حيث أبناء أم محمد الثلاثة يقاتلون هناك، ويتصدون لأي محاولةٍ لتقدم النظام، ولكن يبقى أصعب ما في منطق هذه الحرب غير المتكافئة، هو الطيران الحربي وهمجيته، واستهدافه الدائم لمنازل المدنيين وتجمعاتهم، ما يجعل في نفوس المقاتلين جُرحاً كبيراً، حيث إنهم لا يستطيعون منع تلك الطيور المعدنية القذرة من أن تصُبَّ حممها على رؤوس الناس، وهذا ما كان يحزُّ بنفس سامر على خطوط القتال، فتحوَّلَ إلى العمل في صفوف فرق الإنقاذ التطوعية، وبدون أن يترك سلاحه بحسب مقتضيات المعركة، وانتقل من ريف إدلب الشمالي إلى أكثر الجبهات سخونةً في تلك الأيام.. إلى مارع، التي تتعرض للهجوم من تنظيم داعش ومن وحدات الحماية الشعبية الكردية، مع تقدم قوات النظام مع الميليشيات الحليفة له باتجاه نبل والزهراء لتَفُك الحصار عنها.

وشهر شباط من ذلك العام كان الشهر الأصعب من حيث كثافة القصف الجويِّ والأرضي الذي يتعرض له ريف حلب الشمالي، واكتظت الحدود التركية المُغلقة حتى أمام الحالات الإنسانية، بالهاربين من ويلات تلك الحرب.


“يا أمي عشر حواجز وكل حاجز شكل، ورب العزة بدك أسبوع لتوصلي لهون، هاد اذا ما اخدك شي حاجز لأن ولادك مو محسوبين على حدا، محسوبين ع الثورة، محسوبين ع القهر..”
_ “بوسلي جبينه يمة .. الله يرضا عليكم ياعيوني..”

كُلُّ أعداء أبناء أمُّ محمدٍ وأعداء السوريين الأحرار، اجتمعوا في تلك المعركة، ولا بُدَّ لهم من الاستمرار حتى النهاية، هكذا كانت خياراتهم وعزيمتهم، وفي ظلِّ تلك الظروف القاسية لم يكن لدى سامر مُتَّسَعٌ من الوقت للاتصال بأمه مثل العادة، وقلبها لا يتوقف عن الأنين والاشتعال شوقاً وخوفاً على أبنائها وخصوصاً سامر، الذي ابتعد عن أخويه وأتى إلى مارع التي تُذبح بسكاكين الجميع.

في تلك الليلة التي انتصف فيها شهر شباط لم تنم أمُّ محمد، هناك شيءٌ غامضُ يمنع النوم من الاقتراب منها، والجميع حولها نيام، وحتى عندما صلَّت الفجر لم يهدأ قلبها عن الخفقان المُوجع فأيقظت زوجة سامر وأخبرتها بأنها تريد مكالمة أحد أبنائها، فلديها إحساسٌ بأمرٍ سيئ قد حدث، وهي لا تعرف القراءة والكتابة لتستطيع استخدام الهاتف المحمول.

هاتف سامر خارج التغطية، وعلى أرقام أخويه لم تحصل على رد، والكنَّة تُعيد المحاولة تحت إلحاح الأم الخائفة من خبرٍ مُفجع، وانقطاع الردِّ على الطرف الثاني يستمر، وتزداد حرارة الدموع التي تسيل بين تجاعيد وجهها الأسمر المخنوق بالغصَّات، ألف غصة وغصة جعلت من الوشم الأزرق تحت فمها يغيب في رجفة الدُعاءِ بأن يكون كل ما يحدث عبارة عن حُلمٍ وستصحو منه، وستكون في منزلها القديم في الرقة، والجميع حولها يشربون الشاي ويمازحونها لتروي لهم كيف أحبَّها والدهم وتزوجها مُتحديَّاً أهلها .

في العاشرة صباحاً رنَّ الهاتف المحمول، مُظهراً صورة محمد على شاشته، ركضتْ الأمُّ مُتلهفةً صوب الصوت، وتصرخُ في كنَّتها لترُدَّ على الهاتف. فتحت زوجة محمد الخط، اختنق وجهها بالدم، وانهارت باكيةً بدون أن تتكلَّم، فتناولتِ الأمُّ الهاتف وبدون أن تسأل قالت:

_ “سامر استشهد يا يُمة، لا تدفنوه قبل ما أودعه، جاييتكم يمة” .

_ “وين تجي يمة الحرب قايمة والطيران ما عم يهدا، وألف حاجز عالطريق، يمة لا تجي، لا تجي” .

_ “كان سامر يظل يضحك، وما يطيق الزعل، سلمته لــ الله، حسبي الله ونعم الوكيل، بعتلي شوفير مهرب ياخذني لعندكم يمة برضايي عليك خلني أودعه” .

_ |يمة مات وهو وجهه يضحك، رح اتكلم مع شوفير صاحبي يجيبك يمة” .

بعد ساعة جاءت سيارة وأخذت الأم باتجاه معبر قلعة المضيق، وهو المنفذ باتجاه الشمال السوريِّ، وعلى هذه الطريق الكثير من حواجز النظام التي تبتزُّ العابرين من وإلى الشمال السوري بنهب أموالهم ومصادرة حاجياتهم بسلاح التخويف من الاعتقال بتهمة التعامل مع الإرهابيين.

في الشمال هناك، حيثُ جسد سامر المُهشَّم بفعل طائرةٍ روسية في اليوم السابق، مع أربعة شهداء آخرين، بعد أن استطاع المنقذون إخراج جثثهم من تحت أنقاض منزلٍ يتحصنون به، لا يمكنهم الانتظار أكثر حتى تصل الأم، وعليهم دفن الشهداء بأسرع وقتٍ ممكن بسبب كثافة القصف والمعارك الساخنة على كل الجبهات في الشمال.

عند الظهيرة وعدم قدرة محمد على تأخير دفن أخيه مع رفاقه الشهداء، اتصل على هاتف شوفير السيارة وطلب محادثة أمِّه.

_ “الووو يمة …”

_”آه يمة … وين صرتي؟؟”

_ “يمة يقول الشوفير باقي عشر حواجز بيني، وبينكم..”

_ “يا أمي رح ندفنه، يمة سامحيني..”

_ “لا.. لا.. لا تدفنوه قبل ما ودعه يمة..”

_ “يا أمي عشر حواجز وكل حاجز شكل، ورب العزة بدك أسبوع لتوصلي لهون، هاد اذا ما اخدك شي حاجز لأن ولادك مو محسوبين على حدا، محسوبين ع الثورة، محسوبين ع القهر..”

_ “بوسلي جبينه يمة .. الله يرضا عليكم ياعيوني..”

كانت الظهيرةُ تلفحُ وجهها الأسمر وهي تخفي دمعتها وتُقَبِّلُ شاشة هاتفها المحمول، وجندي الحاجز لا يكترث بالمشهد وهو يسحبُ من يدها الثانية بطاقتها الشخصية المهترئة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنا عشر + 5 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى