رسائلنوافذ

رسالة لم تصل


أرسل رسالته لي وغاب..

لم أكن أعلم أن الرسائل تحمل دلالات شؤم أو خير، على صاحبها أو على المُرسلة إليه، قبل الآن.. ولم أرَ حالي يوماً أجترّ ذكريات الماضي البعيد، مثلما أفعل الآن.. بعد أن جمعتنا الأنشطة الشبابية سنوات عدة، رغم عقد من الزمن يفصل عمرينا، أصبحنا؛ “ناصر” وأنا، كالأخوين فكراً ومحبةً.

كنت في الجامعة وهو ما يزال في المرحلة الإعدادية، كان رياضياً بارعاً في كرة القدم والجري وركوب الدراجة، ونشاطه يسبق حضوره في أي مجال، وقفت إلى جانبه وأخذت بيده موجّهاً وناصحاً.

بعد نيله الشهادة الثانوية من ثانوية “الثورة” في “السويداء”، قرر أن يصبح زميلاً لي في الاختصاص، وكأنّ الرياضة المولع بها لم تعد تعني له شيئاً… تباعدنا ردحاً من الزمن بسبب ظروف الحياة.. فجأة يصلني بريده الإلكتروني…

عزيزي “ماجد”:

«الأرض كالعرض يا بني».. هذا ما سمعته مراتٍ منذ نعومة أظفاري، كانت العبارة الأشهر على لسان المرحوم أبي… «مَن لا أرض له لا دين له، لا وطن له، ولا انتماء»..

لماذا كان أبي يسوق عباراته تلك على مسامعنا، رغم أنه لم يرث عن جدّي- الذي كان مرابعاً- أرضاً زراعيّة؟ هل كان يشعر بالنقص تجاه مالكي الأرض، ويريدنا أن نشتري أرضاّ؟

بعد تخرّجي في جامعة “دمشق” باختصاص اللغة العربية وآدابها، متابعاً طريقك، صار للكلمات معنى آخر وفهمٌ آخر..

وحين انطلق الربيع العربي من تونس الخضراء، أصبحت الأفكار تلحّ علي بشكل مرير، يجب أن ننهض لتحرير إنساننا من تبعات التجهيل والتهميش والتبعية… تلك الأفكار التي غرسها حكم العسكر لأكثر من نصف قرن مضى.. الأرض أرضنا وعلينا حمايتها من الاغتصاب، رغم الكبت الخانق المفروض على رقاب العباد..

يحضرني فجأة ما قاله “ميشيل فوكو”: «إن كان الكبت هو الصلة الأساسية بين السلطة والمعرفة والجنس منذ العصور القديمة، فمن المنطقي أننا لن نتمكن من تحرير أنفسنا منه إلا بعد أن ندفع ثمناً باهظاً..».

إذاً علينا ألا نفكر هذه اللحظة بالثمن الذي يمكن أن ندفعه، فقد حانت اللحظة المناسبة للقيام بعمل خلاق يترك لأجيالنا القدمة متّسعاً من الحرية لبناء الإنسان قبل بناء الحجر.. ومتّسعاً من الأفق لتحرير أنفسنا من الكبت والفساد وتخريب النفوس، وهيمنة أصحاب السلطة على قرارنا ومقدرات أرضنا، واسترقاقنا عبيداً في مزرعة يديرونها..

حانت لحظة الحقيقة حين أحرق “البوعزيزي” نفسه ليقول لنا “الموت أفضل من حياة الذل والعبودية”… ومن هنا انطلقت بأفكاري أحرّض طلابي في الصفوف الثانوية بأسلوب مقبول بدايةً، ثم أكثر وضوحاً وتحفيزاً بعد اعتقال أطفال مدرسة الأربعين في “درعا” عشيّة السابع والعشرين من شباط عام 2011، وانطلاق شرارة الثورة من المكان ذاته بعد أيام.. وبعد أيام أيضاً شاركت مع معظم طلابي في أول مظاهرة حاشدة في “السويداء”، واشتبكنا مع الأمن لساعة وأكثر.. ثم في فجر اليوم التالي كانت دورية أمن تقتادني مطمّش العينين إلى جهة مجهولة.


لماذا كان أبي يسوق عباراته تلك على مسامعنا، رغم أنه لم يرث عن جدّي- الذي كان مرابعاً- أرضاً زراعيّة؟ هل كان يشعر بالنقص تجاه مالكي الأرض، ويريدنا أن نشتري أرضاّ؟

شهر الاعتقال، وطردي من وظيفتي، لم يثنياني عن متابعة نشاطي، بل زاداني إصراراً على موقفي، مع إيماني المطلق بما قاله “الشابي”:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر

شاركت بالمظاهرات والاعتصامات، وتطوعت بالعمل الإغاثي لإخوتنا الذين التجؤوا إلى “السويداء”، هاربين من الموت، من “درعا” و”الغوطة الشرقية” و”داريا” و”حمص” و”حماة” ومن معظم المناطق المشتعلة، بمواجهات مع جيش النظام وأمنه. مطلوب لعدة جهات أمنية، ولا أقيم في مكان واحد لأكثر من ليلة.

أرسل إليك رسالتي هذه، بعد سنوات ثلاثة من التخفّي والملاحقة الأمنية، وأنا لا أعلم متى أقع في قبضتهم.. عملتَ خيراً بمغادرة البلاد، رغم قناعتي بأن الأرض بحاجة لجهد كل واحد منا، وبأن رحيلك خسارة لنا ولبلدنا.

المحبّ “ناصر”

رسالة جوابية

العزيز “ناصر”: تحية أخوية طيبة وبعد..

علمتُ بعد أيام من استلام بريدك الإلكتروني، باعتقالك الجديد، ولا أعلم إن كان سيصلك كتابي هذا في معتقلك أم سيضيع كما تضيع ذاكرتنا، في دهاليز الأقبية المعتمة، وعلى دروب التهجير واللجوء وفي بحارها.. مع ذلك كان لا بدّ لي من نسخ هذه الكلمات إحياءً لذكريات لم يدوّنها أحد، ولعلها تجد من يضيف لتوثيقها معنى بقراءتها أو الإفادة منها أو لنقلها لأجيالنا الآتية، وهي المجبرة على واقعنا المتداعي في مهب الريح والعواصف.

قبل ذي بدء، جدّي وجدّك التحقا بالثورة العاميّة الأولى على الإقطاع عام 1867، ثم بالثورة العامية الثانية 1888، واجتمعا مع المجتمعين في “مجدل الشور” قرب “عرمان”، ووقّعا وثيقة التخلّص من الإقطاع وتوزيع الأرض على الفلاحين، ولم يكتفيا بالمشاركة في طرد الاحتلال العثماني عام 1916، بل شاركا القائد العام للثورة السورية الكبرى “سلطان باشا الأطرش” الثورة على المحتلين الفرنسيين 1925، وعانيا شيخين سنوات المنفى العشرة في “وادي السرحان” إلى جانبه…

كل هذا دفاعاً عن الأرض، حتى لو لم يملكا أرضاً خاصة بهما. لعل مفهوم الوطن الفطري لديهما جعلهما يضحّيان بكل شيء في سبيل الوطن وحريته، كما دافعا مع من دافعوا عن وجودهم ضد الإقطاع واستعبادهم وفرضوا توزيع الأراضي على الفلاحين.

لن أدخل في فلسفة الأمور وإيجاد مبررات لبعض تصرّفاتنا، لكن للأمانة فقط أقول: إن ما قمتَ به كما قام به كل من شارك بالثورة، ترفع له القبعة، وأنكم تحقّقون مقولة “فوكو”: «لن نتمكن من تحرير أنفسنا منه إلا بعد أن ندفع ثمناً باهظاً».. ولعل الثمن الذي ندفعه في المنفى الطوعي الذي فرضناه على أنفسنا، لا يرقى إلى مستوى ما تقدّمونه على مختلف الصعد، لكن لا بد من تكامل عمل الجميع داخلاً وخارجاً من أجل الانتصار لقضايا شعبنا ومستقبله.

الضريبة التي تدفعونها في الاعتقال، باهضة حقاً، فقد علمت بخروج “مروان” و”وسيم” من المعتقل، جثّتين هامدتين، قتلا تحت التعذيب بأبشع صوره وأقذرها، والقائمة لا نهاية لها فيما يبدو، فقد تجاوز عدد المقتولين تحت التعذيب بضع مئات من الألوف، والحبل ما يزال على الجرار.

المحب “ماجد”

بعد سنوات خمسة على اختفائك يا “ناصر”، بوادر الخريف، تعلنها هبّات ريحٍ تلفّ بعض الشوك والخصاب، والشجر يميل لصفرة توديع الأخضر. البيادر في أواخرها، تودّع بقايا المحاصيل القليلة فوقها، والدارسون يغنّون لأفراسهم الدارسة:

«اليوم يومك يا حزينة تودّعي غربي جبل حوران برقٍ يلمعي»

وأنا ما زلت أرى اللحظة التي ستجمعنا بعد أن تتبدّل الأحوال والأوضاع، ونعود إلى أرضنا نزرع ونحصد ونبيدر… لنطعم الأفواه الجائعة، والطيور المغردة والبهائم الشاردة… الأمل لا تنطفئ جذوته ما دامت العروق تنبض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

12 + 14 =

زر الذهاب إلى الأعلى