غرفة صغيرة وضيقة
ما هي الأرض ؟
_غرفة صغيرة وضيقة
ما زالت كلمات الشاعر رياض صالح الحسين تتردد في ذهني، كما بلدي يترنح متعباً بين جميع الكلمات.
أحمل كلمات هذا الشاعر، وأنا أتنقل من منفى إلى منفى، وكأنني شريط فيديو أو إعلان متنقل لعمل سينمائي ضخم يمزج بين التراجيديا، والدراما، وبعض من الكوميديا السوداء.
ما هي الأرض؟ :
في العام 2012 في حمص، وتحديداً في حي باب السباع ،الساعة تقترب من الثامنة ليلاً، لبيتنا رائحة البارود، أبي مريض، ممدد في فراشه، القابع في غرفة المعيشة كان قد أصيب بالتهاب المفاصل في ظهره، أمي كعادتها تطهو، وإخوتي يتمددون على الأرض و يشاهدون التلفاز محاولين نسيان ما يحدث خارجاً.
أنا في غرفتي أضع السماعات وأستمع لموسيقا (anathema) ، كنا كلنا نحاول تجاهل وابل الرصاص الذي يمر عبر بيتنا، وكأننا مع الوقت، وطول الحصار أجدنا ميزة فصل الحواس، محاولين فرض الحياة العادية على واقع غير عادي.
فجأة اهتز المنزل، وقعت لوحاتي _ التي كنت قد علقتها على الجدار_ أرضاً، ركضت إلى غرفة المعيشة، أمي .. أبي .. إخوتي .. هل أنتم بخير ؟!
كان أبي قد أسقط نفسه تحت السرير، إخوتي بخير ، أمي أيضاً كذلك .
لكننا فقدنا فقط جزءاً من بيتنا، فقد اصطدمت به قذيفة أثناء عبورها حيَنا بحثاً عن الطعام، وباعتبار أنها لم تستطع أكل أي فرد منا، فما كان منها إلا أن أكلت الجدران.
لم أنس حمص، لم أنس كل العجز والبؤس، لكنني نسيت كيف يعيش الإنسان العادي مع بطاقته التعريفية التي يشهرها أمام العالم بكامل الفخر والعزة، وهو يخوض تجاربه الشخصية بعيداً عن الحرب والدم .
إن تمعنت في هذه القصة ستصدم من هول المعجزة التي حمتني وحمت عائلتي من موت محتم .
لكن عندما تعلم واقع الحياة تحت القصف ستعرف لماذا لم نصب بأذى .
لقد اعتدنا السير في المنزل طخاة الظهر أثناء الاشتباكات، لدرجة أننا لم نعد نفكر لماذا نمشي هكذا، نسينا استخدام الكراسي أو باقي الأثاث.
حياتنا الأرضية كانت مضاعفة الجاذبية إما الزحف، أو المشي نصف زاحفين، وفي حالة الاسترخاء التمدد أرضاً، وهذا السبب منع إخوتي من الإصابة بشظايا القذيفة.
أبي الممدد على الفراش دفع بنفسه إلى الأرض وزحف تحت السرير، كردة فعل أخيرة تدافع عن وجود الإنسان وبقائه.
أما عني وعن أمي فقد كنا في الداخل في أمكنة لم تستطع أن تطالها القذيفة.
أذكر حينها أننا جررنا أنفسنا إلى الكريدور وبقينا جميعاً في مساحة لا تتعدى الثلاثة أمتار طولاً، والمتر والنصف عرضاً ، وضعنا فراش أبي على الأرض ليستطيع الاستلقاء، وبقينا نصف صاحين في حالة إنكار لكل ما يحصل، أبي يحاول التخفيف عنا بإلقاء بعضٍ من النكت المثيرة للملل، يحبس في عيونه غضباً أشد من وقع القذائف، أمي تصمت حيناً وحيناً أخر تكتفي بتعليقات لا تشبه أحاديثنا التي أثق تمام الثقة بأنها لم تستطع سماعها. بقينا على هذا النحو إلى أن أتى الصباح .
غرفة صغيرة وضيقة :
استيقظنا صباحاً ونصف بيتنا كان قد القى بنفسه إلى الهاوية. ساد الصمت، أمي خبأت دمعتها وأبي يغطيه العجز بسبب عدم قدرته على الحركة، فلطالما اعتاد أن يكون قوياً.
خلال دقائق تغيرت ملامحنا جميعاً ، نزعنا أنا وأخي عنا قلبنا، وخرجنا نبحث عن بيت نستأجره في منطقة آمنة قبل أن تستيقظ القذائف من جديد.
ذهبنا إلى منطقة لا تبعد سوى بضعة شوارع عن بيتنا، السواد يغزو عيوننا، أشكالنا رثة تآلفت مع الحرب، شعرنا بالغرابة خاصة بعد أن رأينا عدة عائلات كانت قد نصبت أمام منزلها بعضاً من الكراسي، والطاولات التي تموضع عليها ابريق الشاي، وبعض من الكؤوس التي تنتظر شاربيها ، لكم اشتقنا لهذا المشهد، لطالما اعتادت عائلات حمص القديمة فعل ذلك في الماضي.
مررنا على عدة مكاتب عقارية، حاملين مبلغاً صغيراً من المال، نريد دفعه كدفعة أولى، لاستئجار منزل.
وفي النهاية استطعنا الحصول على بيت شبه مهجور بأضعاف سعره، لا أعرف حقاً ما السبب وراء ذلك الآجار الباهظ، هل السبب أن هناك اناساً يستغلون بؤسنا، أو لربما البؤس نفسه هو من اتفق مع مالك المنزل.
عدنا إلى منزلنا قبل ساعتين من استيقاظ القذائف، كان علينا الانتقال بسرعة ، نزلنا مسرعين نجر خيبتنا وأملنا بطول البقاء.
أنا، وأخي نساعد أبي على المشي، وأمي تمسك بيد أختي ومعها بعض من الأوراق الثبوتية. دخلنا المنزل الجديد، وكأننا ندخل متحفاً يتم اكتشافه لأول مرة.
كل شيء ٍيبدو غريباً وكأننا في كابوس واقعي لا مفر لنا من مشاهدته .. الحمام متسخ، الغرف ضيقة كعلب الكبريت، لا شمس تلقي التحية على النوافذ، ولا نوافذ تطالبها بذلك فقط ما نشعر به من عجز وبؤس كان حقيقياً.
الفكرة المضحكة المبكية، أنك إن وقفت على سطح المنزل الجديد، ستستطيع أن ترى منزلنا لأن جميع البيوت التي تفصله عن هذا السطح كانت قد دمرت.
أذكر أننا بقينا في هذا المنزل التعيس لمدة ثلاثة شهور، استطاعت أمي خلالها تنظيفه من الغبار.
نعم لقد كان هذا العالم حينها غرفة صغيرة وضيقة.
غرفة مقسمة نصف تقتات عليه القذائف، ونصف يقتاتون على القذائف. النصف الأول مدمر بالكامل، والنصف الآخر آمن بالكامل أيضاً، وأنت وحظك .
لعل الحرب حينها لم تدركنا وإلا لكانت أمطرت علينا وابلاً من القذائف، أو لربما تركتنا لنكون شاهدين على جبروتها، وظلمها.
منذ ذلك الوقت، والحرب تكرر قصتنا ، غير عابئة بأب عاجز، أم مستضعفة، أو بأبناء لازالوا يحلمون بأنهم سيستيقظون على أسرتهم .
بدأت حكايتي بعنوان لرياض الصالح حسين، والآن وبعد مضي سبع سنوات عدت إلى قصائده باحثة عن نهاية لمشهد سوري_ بالرغم من تكراره مع آلاف العائلات السورية_ لم أستطع الاعتياد عليه.
يجيبني رياض، فاتحاً شباكه المطل على القبر، مبتسماً ابتسامة حزينة، ليقول :
في الغرفة الصغيرة الضيقة
أقرأ الصحف والمذابح
في الغرفة الصغيرة الضيقة
أعوي كعاصفة وأغرد كسنبلة
أنا في الغرفة الصغيرة الضيقة ..
نهر مكسور
وأحياناً أمَة مضطهدة.
لكل منا غرفته الصغيرة والضيقة، لكل منا حربه الصغيرة داخله التي إن انتفضت خرجت النار من صدره، ليحرق بها نفسه قبل أي شيء.
أنا من أبناء هذه الحرب، لم أخسر عائلة، لكنني خسرت أصدقاءً وأحبة. لازالت جدران منزلي تنفث رمقها الأخير وهي تتأوه قنابلاً ورصاصاً.
لم أنس حمص، لم أنس كل العجز والبؤس، لكنني نسيت كيف يعيش الإنسان العادي مع بطاقته التعريفية التي يشهرها أمام العالم بكامل الفخر والعزة، وهو يخوض تجاربه الشخصية بعيداً عن الحرب والدم .
يقهقه ضحكات أحياناً، وفي الأحيان الأخرى يبكي ، دون أن يكون للحرب يد في ذلك.