غرقٌ واحدٌ للهرب

(1)
هناك لا شيء يفصل بين الأحاسيس، فكلها تمارس بذات القوة… الخوف، الاندفاع نحو الشهوة، الاحتقار، لحظة خاطفة من السعادة اليائسة، القدرة على اتخاذ القرار بالقتل والاغتصاب، الروائح التي يمتزج بها البول مع الغائط مع عرق الإنسان النظيف؛ عرق الأسواق والشوارع والهرب وعرق الاستجداء.
العيون جميعها شاخصة، الفريسة مهيأة ومعها تتهيأ كل الشياطين التي تخرج دفعةً واحدة، كانت “سمر” كالشيء القابل لأن يسحق ضمن مبارزة غريبة الأطوار وتحديات يراهن عليها موتورون…
“سوف نقوم بتعليقه من قضيبه“؛ هتف أحدهم
“بل سوف يضاجعها“؛ هتف آخر، “أراهن على أنه سيضاجعها ولكن بقضيبٍ لن ينتصب”
هكذا صرت باباً للرهان وأنا خارج أي احتمالٍ لإنسانيتي
هل قلت إنسانيتي؟!
كان قد صار هذا المصطلح وراء ظهري منذ اللحظة الأولى لدخولي إلى فرع فلسطين؛ أن تتعرض للضرب وأنت تراقب كل تلك العيون التي اجتمعت بكل ما في الذئاب من جوعٍ وشراسة ومع كل خطوةٍ ترتطم بجثة فاجرة العينين وكأنها كانت تستجدي الله، ضمن مكانٍ قميء كل ما فيه يتلون بالعفن، الله لا يدخل هذه الأماكن وإلا لما حدث كل الذي حدث، نعم… هو مكانٌ ملائم للنجاسة، لساكني العالم السفلي في جحيم دانتي، إلا أنه جحيم أقل رأفة.
ازداد توتر ملاذ وكأنه سيغرق في نوبة من البكاء، أخرج الطبيب النفسي سيجارة عازماً على مراجعه، ثم ربت على كتفه وبنبرة هادئة:
“أنكمل فيما بعد؟“
بدا ملاذ غير مكترثٍ وهو يشعل السيجارة مستطرداً:
لا مكان هناك للشجاعة والإصرار أو أي كلمةٍ تافهة تعبر عن رفض، كل هذه التسميات ليست أسلحة لتدافع بها عن أي إيمان كنت تتحلى به، لقد رأيتهم مشربين بالحقد وكأنما يخرج من أنفاسهم، كان أول عهدي بالدخول إلى فرع فلسطين ولم أكن لأستوعب أن كل هذا يحدث دون مقدمات، حتى أن الرحمة هناك تباع، بل دعني أقل إن ثانية واحدة من الرحمة قد تباع، وقد كنت مستعداً لبيع أختي وأمي وعائلتي كلها لأستجدي شيئاً منها. رأيتهم يربطونه من رقبته أمام أبواب المراحيض الملطخة بالدماء، ولكن من هو؟ وماذا فعل؟ ولماذا كل هذا اللون الأزرق والأصفر والأحمر والأخضر على جسده؟!، أمره النقيب بأن يعوي طوال اليل، لكنه كان شجاعاً وأحمقاً، نعم… هذا ما يمكنك أن تستخلصه من كائنٍ بات يشبه حيواناً أسطورياً هارباً من مخيلةِ الرعب الهوليودية، ومن غير الأحمق يستطيع أن يقول ما قاله ذلك الحموي؟!؛ لقد تحداهم واستمر في شتمهم وشتم قائدهم، لكنهم وضعوا تلك العصا الألمانية الكهربائية في مؤخرته، وأكاد أجزم أن نصفها صار في دبره ثم راحوا يفرغون شحناتها القاسية في أحشائه، كاد صراخه يشق جدار الصوت… هل لك أن تتخيل لدغة تلك العصا، ذلك الشرر الذي يتفجر في الأحشاء والأعصاب، الأعصاب التي سوف تذهب أدراج الرياح لكي نمضي ليلةً بكاملها نستمع إلى نباحه خانعاً إلى أن هدأ في أول الفجر ومات ككلب.
قال ملاذ جملته الأخير وانفجر بالبكاء، بينما ما زال الطبيب يتأمله برعاية وابتسامة ودودة وهو يخبره أن لكل إنسان قدرة على الاحتمال، وأنه ليس مطالباً أن يحمِّل نفسه أي لوم لعدم قدرته على الصمود مثل غيره ثم أردف:
“هل تريد أن تكمل لي عن تلك الفتاة… “سمر“؟“
نظر ملاذ نحو الطبيب متردداً… ثم أومأ بالنفي محتفظاً بغصته.
***
الماء… إنه الماء “بق بق بق“… تلك الزاوية التي كان يحتلها السجين (13/12) عند باب المهجع هي المكان الوحيد الذي يدخل إليه الهواء خلسةً، بينما تتكدس خلفه أكوام من اللحم العشوائي المتعفن على شكل مصفوفاتٍ منتظمة، هنالك جثةُ بعينين مفتوحتين على الموت تلمح في حوافهما هلع الهرب، لم يقوموا بإجلائها منذ ثلاثة أيام، والماء… الماء… إنه شكل آخر للموسيقى “بق بق بق” كان يدلف من أعلى السقف في الزاوية التي يجلس عندها ملاذ وفي عينيه شررٌ وخوف، كان ملاذ (متكرشاً) قليلاً على غير حالة المنفيين قهراً في ثلاثة أمتار مربعة حقيرة تبتلع عشرين هيكلاً مكسواً بالجلد، أصوات التعذيب تُسمع عن بعد، الأبواب تغلق وتفتح باستمرار تاركةً أثراً يرتجف على كل خليةٍ مازالت حية في بقايا المكوّمين.
“نعم إنها البلاد التي ستنتخب من أجسادنا ما طاب لها، وأين يُذهِب المرء شجاعته وعنفوانه إن لم يكن في سبيل تلك الغاية العظمى؟!، على هذا النظام أن يسقط… لن أنجب أبنائي تحت شمسٍ تشرق على خوف العباد كل يوم”
أصواتُ أقدامٍ تقترب، بينما يبدو على ملاذ القلق، ينهض وهو يلتفت خلفاً ويصرخ بأعلى صوته:
“قوم يا إبن المنيوكة أنت وياه”
ينهض الجميع محاولين شد أجسادهم زحفاً مرتبين أنفسهم بتثاقلِ وهم يجلسون القرفصاء متجهين نحو الحائط، فتبدو ظهورهم المتقوسة وكأنها قناطر من القصب المنحني، بينما الجثة مفتوحة العينين يبقى نصفها الأعلى متمدداً، يُفتح الباب فيدخل الضوء الأصفر الخافت من الممر حتى ليبدو المكان بقاطنيه حاوية استفراغٍ كبيرة، بينما النقيب يقف هادئاً بعينيه اللتين ترمقان الجميع وهو يضع كمامةً لا تحمي من الروائح فتترك تكشيرةً دائمة على ملامحه، ينتبه إلى الجثة فيشير إليها موجهاً حديثه إلى ملاذ بنبرةٍ باردة قاسية ومشمئزة:
“إيمت فطِس؟“
حاول ملاذ أن يتمالك نفسه مطأطئ الرأس وهو يقسو بصوته لكن دون أن يخلو من ارتجاف:
“سيدي هاد العرصة إلو تلت تيام”
بدا النقيب وكأنه يتحدث بحالة طبيعية مستغرباً من أنه لم يَنفُق إلا شخص واحد خلال أسبوع، وراح يمازح الجميع بسماجة بأنهم أصبحوا كالقطط بسبعة أرواح وأنه لا بد أن يكون هناك حل لأن المهاجع الأخرى فاضت بالزوار الجدد ويجب أن يموت عشرة خلال أسبوع، وطالب الجميع بطريقةِ من يحث أحدهم على عمل ما:
“شدوا حيلكِن ها… كس إمياتكن ولاد قطرية“
ثم نظر إلى ملاذ مردفاً بينما يهم بالخروج:
“شيلو لهل خرا وزتو بالتواليتات من هون ما يكبوه بكرا”
“حاضر سيدي“
يخرج النقيب بينما ما زال الجميع في حالة استدارة وملاذ يتأمل الجثة المقلوبة باستغراقٍ طويل بينما لحظة صمتٍ تخيم على المكان إلا من صوت الماء… الماء… “بق بق بق“…
الجثة تخرج لسانها وتغمز ملاذ الذي ينهض مصعوقاً من نومه وهو يلتفت يمنةً ويسرة ويهذي بكلامٍ لا يفهم منه سوى اسم “إياد” الذي راح يكرره كالمجنون، ثم ما لبث أن نهض وفتح النافذة الملاصقة لسريره وهو يتنفس بشهيقٍ سريع ثم اتجه بتوتر نحو علبةٍ خشبية على إحدى الطاولات ضمن بيته الصغير المؤلف من غرفةٍ واحدة، أخرج منها بعض الحبوب المهدئة وتناول قرصين بتوترٍ بالغ… يهدأ قليلاً وهو يشهق برعب أخف بينما صوت الماء من الصنبور المعطل ما زال يربطه بكابوسه السابق فيسرع نحو الحمام ويحاول أن يشد على الصنبور ولكن دون جدوى، فينهال بالسباب على كل شيء وعلى صاحب البيت التركي، ثم يمد يده ويتناول إحدى المناشف فيطويها ويضعها تحت الصنبور المعطل فينكتم صوت الماء…
لحظة ويرن الجرس بقوة ينظر باتجاه الباب بقلقٍ بالغ.
***
بدا وجهها محدباً من (العين السراقة)، ما زال ملاذ يتنهد بقلق وهو يراقبها، كانت فتاةٌ في السابعة عشرة من العمر تقريباً، تقف حاملة صحن طعام، ابتعد ملاذ عن الباب لبرهة وعلى وجهه صدمةً واستغراب شديدين ثم نطق بكلمة واحدة:
“سمر“
رن الجرس مجدداً فعاود ملاذ النظر وهو يحاول أن يتأكد مما رآه بينما “أليسار” تقوم بإنزال (كنزتها) بشكل مفتعل حتى ينبلج نهداها الصغيران ما أمكن، يفتح ملاذ الباب باضطراب وهو يراقبها بعينين متفحصتين ووجه مشدوهٍ بخوف، بينما الفتاة؛ أليسار، تبتسم وتتمايل بغنج وصحن الفاصولياء بيدها، أومأ لها ملاذ بحركة بلهاء وكأنه يستفسر منها عما تريد
“سورية انا“؛ قالتها بشكل مباغت وتغنج مفرط ثم أردفت:
“جيرانك فوق نحنا“
بقي ملاذ صامتاً وهو يومئ ببلاهة وصدمة، فتضحك أليسار بصوتٍ كأنه رنين الأجراس فيبتسم ملاذ بارتباك
“شوبَك… ما بتحكي سوري… سوري أنت مو سوري؟”
ثم ما تلبث أن تدخل البيت أمام صدمته الواضحة، وهي تضع صحن الفاصولياء على المجلى الرخامي و تحدثه بأنها أخبرت والدتها عنه وبأنه قدم حديثاً إلى تركيا، وأنه سكن منذ أيام في البناء، ثم راحت تتفنن في الحديث والحركات اللطيفة وأنها أشفقت عليه لأنه يعيش وحيداً ولا يوجد لديه من يطبخ أو يغسل له “يا حرام“، وقد طلبت من والدتها أن تعدَ له أطيب صحن فاصولياء في التاريخ، ولكن ملاذ بقي جامداً مرتبكاً وهو يراقبها وينكسرُ بعينيه بين الفينة والأخرى، لم يكن قادراً على التواصل البصري بشكلٍ جيد، كان الموقف جميلاً ومخيفاً في آن، وأليسار، التي تبدو في أوجِ مراهقتها، يزيدها اضطرابه جرأةً واستفزازاً وهي تضحك:
“أنت أخرس شي؟“، ثم تردف وهي تلوح له بيدها: “هييييي”
“لا لا عمو… شكراً شكراً بارك الله فيكون…” قالها بانتباه مفاجئ وهو يهز رأسه بتوتر وما زال الباب مفتوحاً، تقترب أليسار منه باتجاه الباب المفتوح وهي تلومه بغنجها المبالغ لأنه لم يدعها إلى فنجان قهوة أو “نرجيلة” وأن بقاءه أمام الباب يعني أنه غير مُرَحَب بها ولا يريد لها أن ترسل له من طعام أمها مجدداً، وما زالت تقوم بحركات إنزال (كنزتها) بين الفينة والأخرى، ثم راح ملاذ يخبرها بلهجة وقورة ومتكلفة بأن كلامها غير صحيح وبأنه سعيد بوجود أشخاص سوريين في ذات البناء، وصار يتذرع بأنه مشغولٌ دائماً، وهو يضع كلمة “عمو” بين جملة وأخرى… تراقبه “أليسار” بابتسامة ماكرة:
“أنت قديش عمرك؟“؛ قالتها دون أن تخفي ضحكاتها الخفيفة
“28”؛ أجاب
“إي معناها أنا ماني عمو“؛ قالتها بقوة ثم خرجت وهي تضحك بينما ملاذ ما يزال مصدوماً وهو يغلق الباب بسرعة ناظراً من (العين السراقة) مراقباً إياها وهي تصعد الدرج المقابل وعيناه تركزان على مؤخرتها الصغيرة المحشوة في (بنطال بجامتها) الضيق، ثم ما يلبث أن يدخل نحو الحمام مجدداً وهو يراقب نفسه في المرآة المتسخة وعلى وجهه دهشة وخوف واضحان ثم تتغير ملامحه وينهار في بكاءٍ شديد وهو يخرج قضيبه ويمارس العادة السرية مغمضاً عينيه وفي خياله تمر صورة سمر وهي تستجديه بخوف بألا يقوم باغتصابها بينما ثلاثة من عناصر الأمن حوله يضحكون، وإياد المعلق من يديه مشبوحاً يراقب الموقف وهو يصرخ بصوتٍ مختلط بين الألم والانهيار، راح ملاذ يتذكر تلك اللحظات القاسية وهو يقوم بضرب “سمر” وتمزيق ثيابها محاولاً اغتصابها، كانت تصرخ باسمه وهي لا تترك استجداءً بالله إلا وتناشده به لكي يبتعد عنها لكنه كان أضعف من أن يمنع نفسه عنها كان لا بد له في تلك اللحظة أن يكون وحشاً أكثر من الوحوش، وغداً أكثر من الأوغاد أن يمارس اغتصابها وكأنها عدوته التي سقطت في يده، بينما ما يزال يراقب نفسه في المرأة ويمارس العادة السرية بقوة ووجهه غارقٌ في الدموع ثم ما لبث أن راح يهتف باسمها بشكلٍ متواتر وهو على أوج الذروة، كان ينطقه باستجداءٍ وخوفٍ وسرعة “سمر سمر سمر سمر سمااااار” إلى أن استرخى وهو يبكي وما زال ينطق اسمها ببكاءٍ مر، ثم تساقط على أرض الحمام منهاراً وهو يطلب منها أن تسامحه، كان وحيداً وبارداً ومتكوماً كبيت سوريٍ منهار.
***
الوجوهُ حكايات، ماذا أراقب الآن ضمن كل هذا الازدحام الذي يعج به (الترام) المنطلق نحو اللاهدف، على الأقل بالنسبة لي، أما بالنسبةِ للآخرين فلكلٍ مقصده، أستطيع الآن أن أميز هذه الوجوه كما كنت أميزها عندما كنت أركب سرفيس “جوبر–مزة–أوتستراد” في دمشق، نعم… هي وجوهٌ أكثر راحة من وجوه سكان تلك المدينة المشنوقة بالإسمنت، وقد تأخذني دمشق الآن إلى غير ما أنوي التحدث عنه، لذلك سأنتزع قطعةً من الألم وأتحدث عن الوجوه فحسب، من السهل جداً أن تتمايز وجوه السكان عن وجوهِ اللاجئين، تستطيع أن تقرأ في وجهِ تلك الفتاة التركية المرتبكة الواقفة في زاوية (الترام) أنها تتجه للقاءِ من تحب وهي تتكلم بشغفٍ على هاتفها المحمول؛ شغفٌ يسحب معه ذاكرة كاملة عن الصبايا اللواتي انتظرتهن في كل زوايا الشام، الجامعة، باب توما، باب شرقي، مخيم اليرموك… كانت تلك الفتاة التركية تقطرُ فرحاً وكأنها واقعةً في غرامٍ جديد، وذلك الشاب ذو الوجه الحيادي والبدلة الرسمية لا بد أنه ذاهبٌ إلى عمله الروتيني والذي كان يَعِد نفسه في كل شهر أنه سيجد عملاً بدلاً منه لأنه مل استهلاك نفسه به، ولكن همته التي كانت تفترُ يوماً بعد يوم جعلته يعتاد هذا العمل للحد الذي أسبغَ على ملامحه سحنةً واحدة تخلو منها الانفعالات، وذلك الرجل العجوز الذي يبتسم لطفلةٍ تجلس قبالته يبدو متأهباً لزيارة أحفاده، الجميع هنا يذهبون لمكانٍ محدد، لاستقبالٍ ما، لموعدٍ غرامي، إلا أنا … أذهب لأنني أريد الذهاب فقط، وأعود لأنه علي العودة.
هكذا احتدمت الذكريات في رأس ملاذ، كان كلما رأى شخصاً ذكَّره بأحدٍ ما من ذلك الماضي القريب الذي لا يفر منه إلا إليه، فهذا الرجل يشبه (أبو فلان) بائع الخضار في الحي وتلك الفتاة تذكره بحبيبةِ عابرة وذلك الشيخ وتلك المرأة وذاك الطفل وتلك الأم…، الأم..!؛ كل شيء يشبه دمشق بتفصيلٍ ما، حتى الشوارع التي يطل عليها ملاذ من نافذة (الترام) كانت تتطابق مع أماكنه التي أحبها إلى حد كبير، كم تتشابه المدن وكم تتسع الغربةُ في قلبه!، لحظة من الشغف أدخلته فيما يشبه الغيبوبة ولوحات الشوارع تمر أمامه كشريط سينمائيٍ سريع ما لبثَ أن تباطأ تدريجياً عندما قام (الترام) بتخفيفِ السرعة عند إحدى إشارات المرور قبل الوصول إلى المحطة ببضعة أمتار، في تلك اللحظة تحديداً سكنته دمشق بشكلٍ كامل، شعر وكأنه يرتاد إحدى باصاتها البالية التي لا تلتزم بمحطةٍ ما للنزول؛ فكل سوري يستطيع أن يطلب من السائق في دمشق أن ينزله كيفما اتفق، وما إن توقف (الترام) عند الإشارة حتى صاح ملاذ بصوت عالٍ ومباغت:
“عاليمين إزا بتريد“
المئات من العيون راحت تراقبه باستغراب وكأنه معتوه، بدأ كل شيءٍ يصطدم في داخله وهو يشعر بإحراجٍ جعله يلتفت يمنةً ويسرة بتوترٍ مخيف والدقيقة المتبقية للوصول إلى المحطة مرت عليه وكأنها ساعة كاملة، بينما امرأة تبدو طاعنة في السن كانت جالسة بالقرب منه محنية الظهر متعبة الملامح ربتت على يده فالتفت نحوها بذعر، كانت عيناها باهتتان ووجهها كوجه من فقد كل العائلة في ساعةٍ واحدة، قالت له بصوت متعب:
“الله يرجعنا ع بلادنا”
كانت تلك المرأة هي الوحيدة التي أدركت ما قد انتاب ملاذ في تلك اللحظة؛ لقد كانت لاجئةً لها وجه مثل وجهه… وجهٌ لا يسير إلى هدف.
(2)
هو لا يفقه تلك الحكمة التي تقع بين منزلتي الجبن والتهور، كان متهوراً… لم يكن شجاعاً، لقد قلتها له مراراً “هذا تهور يا صديقي“، لكنه كان مصرّاً على أننا في ثورة ولسنا في عملٍ سري والثورة تحتاج أن تراهقَ لأجلها، أن تتجاوز مداك إلى ما بعد مداك، ثم أردف لي إياد يومها وهو في كامل حماسته:
“نعم إنها البلاد التي ستنتخب من أجسادنا ما طاب لها، وأين يُذهِب المرء شجاعته وعنفوانه إن لم يكن في سبيل تلك الغاية العظمى؟!، على هذا النظام أن يسقط… لن أنجب أبنائي تحت شمسٍ تشرق على خوف العباد كل يوم”
كان يهاتفني عند كل مظاهرة: “اليوم في جوبر… غداً في المزة… تعال إلى مظاهرة الميدان، باب توما، مدحت باشا…”، ولأنني لم أرد أن أبدو جباناً كنت أرافقه دائماً، فقد كان صديقي منذ صفوف الابتدائية حتى الجامعة، أو ربما كنت ظلاً له، لقد كان له سحر خاص على الجميع، لم أستطع مقاومته، في السابق كنت أسمي علاقتي به نوعاً من الحب العميق، أما الآن فأنا متأكدٌ أنني كنت أنافق شخصاً أستشعر كياني من خلاله، لم أحبه يوماً، بل كنت أحب علاقتي به، أنا صديق إياد، هذا أكثر شيءٍ كان يميزني عن غيري، لكنه في كل مرة كان يوقظ فيَّ ذلك الخائف… نعم.. الخائف الذي يريد أن يصحو ليجد نفسه شخصاً آخر شخصاً لا يتعكزُ على ردات فعلٍ ليست ملكه فقد كنت أتقمص إياد حتى في أتفه الأمور، وها أنا أجد نفسي مرةً أخرى ظلاً لجسده الذي كان يشتعل في المظاهرات ومع ذلك لم أستطع أن أتمثلَّ شجاعته تماماً حتى أن صوت هتافه وهتاف الآخرين من خلفه كان يستنزفني رعباً وكثيراً ما كنت أتخذ طرفاً قصياً من المظاهرة وقلما أرفع صوتي لكي أبدو كأي شخصٍ عابرٍ في الشارع خشيةً أية مداهمة من عناصر الأمن.
وأنا الآن… أين؟!، إنني معلقٌ من يدي كخاروفٍ جاهزٍ للسلخ، وهو… كان هناك في الخارج، وانتبه جيداً أرجوك… انتبه، أنا لا أقول ما أقول لكي أبرر ما قمت به، ولكنني لم أكن ذلك الثائر، هو من جرني إلى هذا الموت البطيء، إلى هذا الخوف المتكدس في زوايا الزنازين، الزنازين التي تشبه البئر، وذلك الألم… الألم الذي لن تسعفَكَ كلمة في القاموس لكي تعبر عنه، فكل شيءٍ متداخل؛ يتألم سجينٌ في عنبر ما فتعتقد أنه صوتك، يضرب آخر فتشعر بالسوط وكأنه يأكل من لحمك، تسمع صراخ النساء البعيدات فتشعر أن أمك تغتصب أمامك، صراخٌ مر، عويل، كهرباء، سباب…، هذا كله وأنت فاقدٌ للوعي، لم أكن لأنتمي لهذا الألم لولا إياد، لماذا كان عليَّ أن أرى كل هذا الرعب… بينما هو هناك … في الخارج؟!.
قد تقول لي إنه القدر الذي أوقع بك، ولكن من الذي قضى علي بهذا القدر ألم يكن هو نفسه صاحبي الذي وشيتُ به؟، نعم لقد وشيت به ووشيت بكل من كان له علاقةً بجري إلى هذا المكان، لم أكن أحب النظام، بالطبع لا أحبه ولكنني لم أكن معترضاً عليه وليس لدي تلك الرغبة الجارفة في التغيير، ثم ما معنى التغيير؟، هذا العالم لن يدعك وشأنك، سوف يستبدل لك قاتلاً بقاتل ولصاً بلص وموتاً بموت، النتيجة نفسها، لقد أخبرت إياد بذلك مراراً لكنه كان يصدق كلام “إبن الشرموطة” ماركس، تلك المزحة السمجة عن حركة التاريخ وضرورة الحراك المستمر حتى يتم استبدال الأنظمة وتسود العدالة والقانون… أليس هو من أراد العدالة؟ فليتفضل إذاً، ليس من العدل أن أموت متعفناً هنا، ليس من العدل أن أرقب كل تلك العيون الخائفة والجثث المتكدسة بدون شريك، كان عليه أن يأتي ليرى ما أرى…
كان ملاذ منفجراً وباكياً وحاقداً وهو يردد هذا الكلام للطبيب النفسي الذي راح بدوره يهدئ مراجعه ويخبره أنه متفهمٌ لما كان يشعر به في تلك اللحظات التي تستحوذ بها فكرة النجاة على أي فكرة أخرى، نظر ملاذ نحو الطبيب وراح يردد بصوت مليءٍ بالانكسار: “النجاة … نعم إنها النجاة“، ثم ما لبث أن بكى بشدة وهو يكرر “النجاة النجاة النجاة”
***
وجهاً لوجه… أو دعني أقُل شخصُ مكب على وجهه أمام وجه ناقمٍ ومتحدٍ ومستفِز، هكذا وقفنا أنا وإياد أمام النقيب البارد الملامح، كانت الدماء تغطي وجه إياد بينما النقيب جالس خلف مكتبه ومن حوله اثنين من أبشع حيوانات التعذيب؛ الأول كان يسمي نفسه “عزرائيل” أما الثاني فكان يطلق على نفسه بالعامية “ألله“، والفرق هنا أن عزرائيل لا يتنظر الأوامر من “ألله” فكلاهما كانا وجهين للموت تحت التعذيب، يمكنك أن تتأملهما لثانيةٍ واحدة فتعلم ما حجم الدماء التي سفكت على أيديهما وحجم صراخ الأرواح التي غادرت تحت قسوة (بوسطاريهما)، كانا يتباهيان بأنهما يخرجان الأرواح بأيديهما وأرجلهما دونما حاجةٍ لأي وسيلة تعذيب، والنقيب كان يوجه نظرةً حادة ملؤها القرف اتجاه إياد:
“جهات دولية عم بتطالب فيك ما هيكي؟“؛ قالها النقيب باحتدام ثم ما لبث أن نهض وسار باتجاهه وهو يوجه له لكمات سريعة شاتماً إياه وساخراً من حقوق الانسان التي سوف يضع بنودها كلها في مؤخرته كما عبر له، ثم ما لبث النقيب أن التفت إلي طالباً مني أن أسحقَ إياد، نعم… فأنا قد أصبحت سجيناً برتبة شاويش، وحشاَ ناشئاً أوكلت إليه مهمات التعذيب في المهاجع، لكن النقيب كان يدرك تماماً أن ضربي لإياد هو نوعٌ من التعذيب المزدوج ومع ذلك لم أتردد لثانية واحدة في تبريحه ضرباً، بل أجزم أنني بالغت في الضرب فهذه كانت وسيلتي الوحيدة لكي أشعر بالأمان داخل ذلك الجحيم، لحظة واحدة أحس إياد فيها أنه ميتٌ لا محالة، لحظة واحدة استجمع بها شجاعته وبصق في وجهي… دماً، كان يبصق على أكثر من عشرين سنة أمضيناها سويةً في المدرسة واللعبِ والشارع والعائلة والحب والحزن والعمل والكثير الكثير من الأحلام الكبيرة والمتواضعة، كان يبصق على خوفي، كان يبصق على فراشي الذي كان يعده لي عندما أنام في بيته حين تأخذنا سهرة ما، كان يبصق على بكائي بين يديه بعد قصة حب فاشلة، كان يبصق علي كاملاً وأنا تتملكني الرغبة في أن يموت بين يدي كي لا أرى وجهه أمامي مرة أخرى فيذكرني صموده بهزيمتي وحضوره بغيابي وثبات مبادئه بعُريي، هذا ما كنت أشعر به حينها فهل كنت أرغب في قتل مثلي الأعلى الذي لم أستطع أن أكنه يوماً من الأيام؟!، أم أنه الخوف الذي كان يدفعني لأن أكون وغداً أكثر من الأوغاد؟!، في تلك الليلة لم يريدوه ميتاً فقد كان عليه الإدلاء ببعض المعلومات الضرورية بالنسبة لهم، أما بالنسبة لي فقد أمضيت ليلتي أمام باب المهجع خائفاً من الفضيحة التي ستلحق بي في المستقبل فبالرغم من سياج الموت المحيط بكلِ شبرٍ ضمن هذا الفرع الأمني فقد كانت تأكلني فكرة واحدة؛ إن نجا إياد فسوف يخبر الآخرين عني، صرت متأكداً لحظتها من أنني أريده ميتاً!.
***
لم يمت تماماً، فوسائل التواصل التي أنتجتها الحداثة المعلوماتية المرعبة لا تقتل أصحابها، أما أنا فقد قتلته، لكن ماذا أفعل بكل ما يلاحقني منه؟!، حتى لو قررت أن أمسح كل معلوماتي على محرك البحث الذي يحفظ تلك الذكريات المصورة فإن حسابي على Facebook ما زال يذكرني بالمناسبات التي شاركتها معه، وحسابه كذلك ما زال على قيد الحياة، كنت أتأمل هذا السؤال الموجع الذي يطرحه (الفيس بوك) أمامي: “هل تريد أن تشارك ذكرياتك مع إياد“، ولكن أي جزءٍ من الذاكرة تحديداً؟!، لقد كان الجزء الأكثر عفوية وفرحاً وكذباً، نعم… الصور كاذبة، فرحي بغنائه في هذا الفيديو الذي أشاهده الآن كان فرحاً غشاشاً، لقد كان رجلاً حقيقياً لن أستطيع الإفلات من شجاعته التي تجعلني دائماً كمن يسير عارياً في السوق، ماذا سأستر مني والفضيحة تعشش في القلب؟!.
كان ملاذ ينتقل بين الصور بسرعة وتوتر عندما أوقفه جرس الباب، نظر بقلقٍ بالغ باتجاه مصدر الجرس ثم نهض ومشى على رؤوس أصابعه كمن لا يريد أن يُشعِر الطارق بوجوده… نظر من العين (السراقة) لكنه لم يرَ إلا الظلام، من الواضح أن الطارق قد وضع إصبعه على العين السراقة، ارتابَ ملاذ أكثر بينما ما زال صوت الجرس يزيد من قلقه
“مين؟“؛ قالها بصوتٍ مضطرب
لقد كانت أليسار التي راحت تمازحه من خلف الباب بأنها الوحش الذي يريد أن يلتهمه وتطالبه بغنج مفرط بأن يفتح الباب بسرعة لأن الطعام ساخن وقد أحرق يدها، وما إن فتح لها حتى دخلت متجهةً نحو المجلى الرخامي واضعة عليه الطعام وهي لا تتوقف عن الثرثرة وتسأله عن سبب غيابه وأنها دقت عليه الباب مرتين دونما جدوى، بينما ما زال ملاذ واقفاً مستغرباً أمام إلحاحها، ثم ما لبث أن أغلق الباب متجهاً نحو كرسيه منزعجاً ومتجاهلاً لها وهو يفتعل أنه مشغول على جهاز (اللابتوب)، لكن ذلك لم يمنعها من المبالغة في شقاوتها فاتجهت نحو السرير الملاصق للكرسي وجلست عليه وهي ترجع يديها للخلف مستندةً عليهما فترتفع كنزتها حتى تبان سرتها وهي لا تتوقف عن الثرثرة من أجل لفت انتباه ملاذ، لوهلةٍ أمعن ملاذ في سرتها و(بنطال بجامتها) الضيق الذي يرسم ملامح حوضها الصغير، فيزداد توتراً كاسراً عينيه محاولاً أن يشغل بصره بجهازه، ولكن أليسار لا تتوقف عن المشاكسة؛ كانت ممتلئةً بالرغبة تراقبه بشبقٍ غريب وكأن قلقه يزيدها إصراراً، ثم تنهض وهي تراقب شاشة الحاسوب
“على شو عم تتفرج يا ملعون؟“؛ قالتها بإيحاءٍ مبالغ فيه
يلتفت ملاذ نحوها مصدوماً من سؤالها ولكنه في هذه اللحظة يُثَّبت نظره عليها وهي تبتسم له برغبة واضحة
“على شو بدي كون عم بتفرج عم بفتح حسابي عالإيميل ع شو يعني…؟“؛ قالها بتوتر شديد مستدركاً نظرته اتجاهها
تنفجر أليسار ضاحكة من خوفه وهي تخبره بأنها تمازحه، بينما هو لا يتوقف عن التحدث بجمل متقطعة بأنه لا يحبِذ هذا المزاح وأنه ليس من الجيد أن تبقى في منزله ثم قال بنبرة إصرار واضحة:
“عمو إزا بتريدي أنا مشغول”
فتتأمله بهدوء وهو ما يزال مثبتاً نظره في جهاز الحاسوب ثم تقترب منه أكثر وهي تخفض صوتها برغبة واضحة
“على فكرة أنا عندي ولد”
“من مين؟!”؛ قالها مصدوماً
“منك…”؛ قالتها ثم عاودت الانفجار بالضحك، بينما ملاذ يراقبها بتمعن وقلق وكأنه يريد أن يتذكر شيئاً حولها، فللحظة اقتنع أنه حقاً قد يكون أباً لابنها، ثم أردفت وهي ما تزال ضاحكة:
“لك عم بمزح معك أنا مطلقة فحاجة تقلي عمو”
ما يزال ملاذ مصدوماً وفي حالة من الارتباك والخوف وبلحظة واحدة أفلت وعيه وازداد غضباً ثم نهض وراح يصيح بصوتٍ مجنون:
“انقلعيييي … طلعي برااااا .. انقلعيييي، انقلعييي“
كانت عيناه محمرتين ووجهه كمن تلبسه الشيطان، الرعب والموت والرغبة يقطران من عينيه وهو لا يتوقف عن الصراخ، مما أصاب أليسار بحالة من الهلع جعلتها تشعر بضيق تنفسٍ شديد ثم ما لبثت أن تراجعت باتجاه الباب بحركاتٍ متعبة حتى خانتها قدماها فانهارت على الأرض والدموع تملأ عينيها من الخوف محاولةً التراجع باتجاه الباب غير قادرةٍ على الكلام وكأن قلبها سيتوقف؛ كان ملاذ الذي يصرخ وحشاً حقيقياً، وبالكاد كان ليَدَي أليسار أن تساعدانها على الزحف فتسقط شبه مغميّ عليها وهي ما تزال تتنفس بصعوبة، ثم ما لبثت أن بالت على نفسها وبقعة البول تتسع من حول جسدها الصغير، بينما ملاذ يشهق بقوة وهو يراقب جسدها المنهار، وأليسار تختنق بكلمات الترجي والاستجداء بالله.
لحظة صمت تجعل ملاذ مرتاباً أمام هذا المشهد، فهو يعرفه تماماً ويدركه عن ظهر قلب، لكنه في هذه المرة كان يملك الخيار كاملاً لأن يفعل أو لا يفعل، لأن يقرر أو لا يقرر، أما هناك في ذلك الجحيم فلم يكن عاره مرتبطاً برفض الرذيلة أو قبولها، ولا باختيار الشر أو رفضه، بل كان مرتبطاً بالقوة الضائعة التي كان يريد أن يحتفظ بها ليحظى برضا الضابط ورضا “ألله” و “عزرائيل“، ففي تلك اللحظة كان لا بد له أن يدخل في حالة تطبيعٍ كاملٍ مع غريزته العدوانية، فهي الوحيدة الجديرة بالقبول وهي الخيط الوحيد لنجاته أو تعفنه.
كانت سمر ابنة السابعة عشرة مستلقيةً في تلك الغرفة المظلمة وإياد (المشبوح) من يديه يراقب أخته الصغيرة وهي تتعرض للاغتصاب، في ذلك الموقف كان على ملاذ أن يثبت حبه للوطن، وكان اغتصاب سمر التي راحت تستجديه هي التضحية الوحيدة لكي يعرف كل أولئك القتلة أنه أكثر منهم وطنيةً، فهذه الطفلة الإرهابية كانت تحتفظ بملفات المظاهرات التي صوّرها أخوها إياد، وعليها أن تدفع ثمن خيانتها لروح الأمة قاطبةً، لم يرد ملاذ في حينها أن يتذكر سمر ابنة العاشرة التي كان يلاعبها ويشتري لها الهدايا، فذاكرةٌ واحدة مثل هذه كان يمكن لها أن تضعه في طريق اللاعودة لوحشيته الناشئة، لذلك لم يستسلم أمام استجداءاتها وخوفها ودموعها بل كان يزيده ذلك إصراراً وهو يقوم بتمزيق ثيابها، بينما إياد المنهار على منصة (الشَبح) يبكي بصوتٍ مر، فيما حالةٌ من غيابٍ كاملٍ للرحمة كانت تعششُ في الأرجاء، راح ملاذ يضربها دون إشفاق وكأنه يرغب في أن يغمى عليها قبل أن يغتصبها، لم يُرد أن يسمع تأوهات اغتصابها، كانت عمليةً حسابيةً سريعةً لندم قادم أدركه في تلك اللحظة، هو يدرك أن هذا الندم آتٍ، ولكن حبذا إن لم يكن مترافقاً مع تأوهات سمر أثناء الاغتصاب… ذلك الاغتصاب الذي انتهى مع جثةٍ هامدة بعينين مفتوحتين على الهلع ورقمٍ على جبينٍ صغير سيرمى في محرقةٍ ما.
بعد ثلاث ساعات فقط… مات إياد صامتاً
ملاذ الآن واقفٌ أمام المرآة يمارس العادة السرية باكياً وهو يصيح باسمها “سمر سمر سمر… سماااااار“، ويَسمع صوت إغلاق الباب؛ لقد غادرت أليسار.
***
لا بد أن الإنسان يتحولُ إلى آلةٍ في لحظةٍ ما، الجميع يصبح هكذا عندما يقف وجهاً لوجه أمام كل ذلك الألم، ولكن هنالك من يمتلك القوة ليفعل ذلك وهنالك من تخور قواه في أول الطريق، إن لم تستطع أن تسرق بنكاً فهذا لا يعني بأنك لست لصاً، لأن النية موجودة، أما أنا فلم تكن عندي تلك النية من أصلها، فلماذا كل هذا الإصرار على أن لحظة الكشف تكمن في الفشل الأخلاقي الذي يقع فيه المرء، نعم فالإنسان ليس أكثر من آلة تبرمجها ضمن ظرفٍ معين فتتفاعل معه كمن يزود حاسوبه بمعلوماتٍ ما فتعطيه تلك النتائج المرتبطة بالمعلومات، وأنا كنت في مكان تنتفي معه الخيارات، يمكنك أن تسمي ذلك تبريراً لكنني في الأمس فقط رفضت أن أتخذ قراراً غير أخلاقي مع أنه كان متاحاً، أنا لم أغتصب تلك الفتاة أليسار ولم أغوها مع أنها كانت ممتلئةً بالرغبة اتجاهي، قد تقول أن خوفي هو الذي ردعني، ولكن هذا احتمال من مجموعة احتمالات، هنالك احتمالٌ بأن تقبل صامتاً بأن تتجرد من كينونتك أو أخلاقك وأنت تضحي، نعم أنا كنت أضحي عندما اغتصبت سمر؛ أضحي بكينونتي، أضحي بقدرتي على النوم عندما سيزورني الندم والكوابيس، أضحي بتاريخ كاملٍ من الصداقة التي كنت أتشاركها مع إياد، أليست هذه تضحية؟!، قد أبدو لك متناقضاً أو أنني أبرر أنانيتي وخيانتي، لكنها، هي ذاتها، اللحظة التي تتحول بها إلى ما يشبه صنبور الماء، هنالك من يفتح لك الأحاسيس ومن يغلقها، لا علاقة لك بالأمر، وهذا هو بعينه جوهر الاستجابة لأي فعلٍ كان حتى ولو بدا مغرقاً بالجريمة والسوداوية، لقد قلتَها لي سابقاً “إننا نسعى إلى النجاة بشكلٍ غريزي“، إذاَ ليس لما تريد أية علاقة بما جرى، بل لما كتب عليك أن تتعامل معه في مكان وجد ليسحق إنسانيتك.
هذا الكلام كان يخبئه ملاذ في داخله، وهو ما أراد أن يبوح به لطبيبه النفسي، لكنه يعلم أن الإفشاء بمثل هذه الحوادث كان سيودي به إلى المساءلة القانونية، وقد كان مقتنعاً أنه لا يستحق العقاب لأجلها، لكن ماذا لو بقي إياد حياً؟!، هل كانت ستصمد تلك الإبرة التي تحمل أهرامات تبريراته؟!؛ هذا ما راح يلح به على نفسه وهو لا يجد له جواباً يعيده إلى توازنه، كانت هذه الفكرة تستنزفه رعباً وأرقاً، هل يكفي للفضيحة أن تبقى مستترة حتى ينتفي عنها شرط وجودها؟!، إذاً لماذا لا تغادره صورة إياد وسمر وأصوات كل المعذبين الذين قضوا على يديه؟!، كان أكثر ما يخشاه أن يرافقه هذا الشعور إلى القبر.
هو الآن جالسٌ ضمن ندوةٍ حوارية للمعتقلين الناجين من الموت تنظمها مؤسسات المجتمع المدني في تركيا، كان يقول كلاماً لا يشبه شيئاً مما عايشه في تلك الأفرع الأمنية، فالحبوب التي وصفها له الطبيب النفسي كانت تساعده على أن يَكذب بكل صدق لدرجةٍ أحس فيها أنه ينطق عن واقعٍ عايشه حقاً، الجميع كان متأثراً بكلماته التي كانت تتحدث عن شخصٍ قويٍ قال “لا” في وجه الجلاد، شخص احتمل العديد من آلام السجن وعذاباته، ولم يخل صوته من قوةٍ تدفع السامعينَ إلى الإيمان بأن تضحياته لن تذهب سدىً في سبيل التغيير الذي تنشده هذه الأمة، لأولِ مرةٍ شعر ملاذ بأنه كان ثورياً حقيقياً يستطيع أن يحول معاناته المتخيلة إلى قوة دافعة من أجل الاستمرار في الثورة، من أجل أن يتمسك الجميع بحقهم في العدالة والديمقراطية.
كانت آخر جملةٍ قالها أمام الحضور: “حتى لو كتب عليّ أن أعيد ما كابدته فسوف أعيده دون أي خوف فأنا لن أنجب أبنائي تحت شمسٍ تشرق على خوف العباد كل يوم”
كان يعلمُ تماماً أنه يتقمص “إياد” في صوته و كلامه، لكنه كان يعلم أكثر من ذلك أن كل هذا التصفيق الذي ضجت به القاعة كان لأجله هو.
الصورة للفنان السوري نجاح البقاعي