لآلئُّ الحصار
يوماً ما وفي كوانين الشتاء البارد..
كان الحصار قد نال منّا ما نال، جلستُ بالقرب من المدفأة وآنستُ نارا لعل أُنسي نفسي حبّات الزيتون الثمان التي عزمتُ على أن ادخرها حتى الصباح، كان قراراً قاسياً، لكن تلك هي قوانينُ العيش في الحصار، “التّدبير” و”الصّبر” أما التّدبير فقد فُقنا أُمّهاتنا به، وأما الصّبر فقد عجز منّا.
أخذتُ هاتفي المحمول وبدأتُ اتنقُل في صفحات المأكولات الدّمشقية الشّهية، “وداوها بالّتي كانت هي الدّاءُ”
لم ألبث كثيراً حتى ضجرت فلم تكن الأطباق اليومية في ذلك اليوم مما أفضله واشتهيه، خصوصاً الآن فأنا أملك ثمان حبّات من اللّؤلؤ المكنون، كُنتُ قد خبئتُها بشكلٍ جيد، ما إن أغلقتُ هاتفي وإذ بأصوات تتعالى وشتائم تنهالُ كالمطر هرعتُ راكضاً لأرى ما يجري للوهلة الأولى ظننتُ أنه لصّ قُبض عليه أثناء محاولته سرقة أحد المنازل حيث كانت حوادث السرقة كثيرة في ذلك الوقت، ما إن وصلت حتى رأيت رجل من الحيّ شيمتهُ الغدرُ، كان ذا سطوة يُهينُ ويشتمُ عجوزاً، لن أذكر اسمه كي أكون بعيداً عن التشهير، لكن سأُسميه البطل عندما حاولت إبعاده عن العجوز قام بزجري قائلاً: طارق أنت لا تتدخل بدي علم “هالحيوان” كيف يقرب على علبة التليفونات. وختم بقوله إذا بشوفك هون مرة ثانية بدي “طخك” ومن ثم مضى.
التفتُ إلى العجوز وكان ذلك العجوز هو “أبو الهيجاء” رجلٌ مسن قارب الستين من عمره، ثيابهُ مهترئة مصاب بمرض “الجرب” دائم البحث عن الطعام والسجائر بالقرب من النفايات.
كما قيل لي إن هذا العجوز هو “مهندس طيران” فلسطيني فقد عقله في معتقلات القائد الأعلى والأوحد والخالد حافظ الأسد.. وكنت أجالسه كثيراً وأُحاول أن التف عليه بغية أن اعرف منه سبب اعتقاله، لم يتحدث معي يوما بالسياسة وكان يكتفي دائماً بقوله “سوريا نحو الهاوية يا ولد”.
حتى أني أُصبتُ بالعدوة من كثرة مُجالسته، فقلت له ذات مرّة ممازحاً يا رجل قد أُصبتُ “بالجرب” من كثرة مُجالستك ألم تُخبرني عن سبب اعتقالك ؟
فقال: أنا مصاب به مُنذُ سنين طويلة لأني تحدثتُ مرّةً واحدة فقط، وأنت ذكي، وصمت.
كان يريد إخباري برسائلٍ مُبطنة من شدة الخوف، لا تكن كثير الكلام والاستفسار ولا تُظهر لمن هم حولك شدة ذكائك فيكيدُوا لك كيداً، وتُلقى كما أُلقيتُ أنا في البئر، فلن تخرُج من هذا البئر لتكون عزيز قومك، وقميصُك المليء بالدّماء سيكون في أفضل أحواله غطاء جروحٍ لجسدك بعد عملية شبح لثلاثة أيام.
كان عجوزاً حكيماً في قوله بحكم تجربة السنين الطويلة في غياهب سجون النظام السوري، يعلم أن المعتقلات في سوريا لا تعجّ بالمجرمين ولصوص وقطاع الطرق فقط كما هي سجون الغرب، لا بل هي مليئة بالمفكرين والأطباء والمهندسين، ولعلّ ” باسل الصفدي” خيرُ مثال لهذا، كان باسل من أشهر المبرمجين في سوريا وكان فاعلاً ، حتى أن مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية جعلته ضمن قائمة أهم مئة مفكر في العالم، اعتقل الأمن السوري باسل في 15/3/2012 وفي عام 2017 أعلنت زوجة باسل أن باسل أُعدم في عام 2015.
المجرمون واللصوص هم من يتربعون على عرش السلطة في سوريا ويصدرون قرارات الإعدام بحق باسل وأمثاله.
بعدما مضى البطل وهو يشتم، قال المهندس: استطيعُ شتمهُ بأربع لُغات لكني لن أفعل.
قُلت: ما يمنعُك ؟ أخلاقُك؟
قال: لا يا أحمق، بل الخوف. نعم هو الخوف، الخوف هويّة سورية أصيلة يحملُها كل من ولد أو عاش في سوريا. فقد يولد الطفل وهو يخشى أمرين ” الصوت المرتفع والسقوط” إلا في سوريا فقد أرادت الحكومة الموقرة بعد “الحركة التصحيحية المجيدة” أن يولد الطفل وهو يخشى حُرّية الرأي والتعبير والكلام.
وضع المهندس قطعة بلاستيكية في فمه وبدأ يحاول جاهداً كسرها..
سألته ما هذه القطعة ؟ و أخذتُها منه لأرى ماهي وإذ بقطعة بلاستيكية
عاد و أخذها من يدي ووضعها بين فكيه وبدأ يكسرُها بأسنانه الصُفر المهترئة، من ثم مضغها وبلعها!
نعم قد أكلها كما لو أنه يأكل قطعة شوكولا فاخرة، حتى أنه أصدر أصواتاً وحركات في وجهه كتلك التي يُصدرُها الممثلون أثناء تناولهم الأطعمة الشّهية في المسلسلات الدمشقية.
قطعة الشوكولا البلاستيكية هذه كان قد وجدها بالقرب من علبة الهواتف وهو يبحث عن شيء ليأكله ولسوء طالعه تسبب في قطع خط الإنترنت الخاص بالبطل فجاء ليقتص منه جراء جريمته.
اشتد البرد وأردتُ العودة إلى المنزل بعد نقاش دام لنصف ساعة مع أبو الهيجاء عن الشعر العربي فكان من محبي الشعر والعارفين به، نهضتُ وبدأت الهرولة واقفاً لأشعر ببعض الدفئ، كان أبو الهيجاء في هذه اللحظة، يجلسُ مُغرقاً رأسهُ بين كتفيه، ويضم رُكبتيه إحداهما إلى الأخرى، ويضغط على فخذيه، كما لو أنه يصلي للشيطان.
قُلت: بدك شي أبو الهيجاء؟
أجاب: فاقدُ الشيء لا يُعطيه. علمت أنه سيطلب طعام، ويعلم أني لا أملك فقال ما قال.
فقُلتُ بعد تردد : عندي لؤلؤ مكنون.
فقال باللهجة الفلسطينية زيتون أخضر ولا أسود؟
قُلت: أسود، فقال: أطيب.
وبدأ يروي ليّ عن طفولته وكيف كانت أُمُه تُطعمهُ الزيتون بيدها.. وكم تمنى أن يعود طفل.. كي تُسرح له شعره وتُقلم أظافره.. كل هذه الأمنيات تمناها في تلك اللحظات، لقد عاد طفلاً للحظات. ثم بكى، قُلت: أتشتاق لأمك؟ قال: لا بل “جوعان” يا طارق “جوعان” وأخذ يبكي كما لو أنه طفلٌ بحق.
قُلت: أبو الهيجاء انتظرني ثلاث دقائق وسأعود..
ذهبتُ إلى المخبأ لأستخرج تلك اللآلئ وبدأتُ أُحدثُ نفسي بينما أنا في الطريق لما لا أكُلُ تلك الحبّات أنا، لما أُقدمُها له دون مقابل كيف ليّ أن أُفرط في هذا الكنز!
مرت على الحادثة خمسُ سنوات ولا أدري حتى هذا اليوم لما قدمتُها له.
عند عودتي كان أبو الهيجاء كما المُعتاد يفترشُ الرصيف ويلتحفُ السماء قدمتُها له على طريقة النادلين في الفنادق الفخمة، فقال: شكراً ثم بدأ يأكل على الفور لقد أكلها ببذورها.
قلت له: تصبح على خير.. فلم يُعرني أي اهتمام ولم يكترث.
بعد أيام قليلة من هذه القصة عُثر على المهندس ميتاً، إثر سوء التغذية، مات جوعاً وعطشاً، لم تكفيه تلك اللآلئ ليبقى على قيد الحياة، مات وهو يحلم برغيف خُبزٍ ساخن في بلادٍ كان قمحُها الخشن أكبر مخزون إحتياطي لدولة الروم على مدى قرون، مات عطشاً في بلادٍ فيها نهرُ “بردى” مات برداً في بلادٍ بات مخزونها من النفط والغاز يملأُ خزائن “الروس”، مات دون أن يكترث أحد، دُفن دون مراسم تشييع تليق بمهندس طيران يُتقنُ أربع لُغات، كان مجرد رقم من أرقام ضحايا الجوع التي زادت عن الألف في حصار “جنوب دمشق”.
لو يعلم العالم كم عددُ المُزارعين الذين ماتوا جوعاً في وطني، كم من طبيب عيون فقأ لهُ عيناهُ طبيبُ العيون، كم مهندس طيران قُتل بغارة طيران، كم مهندس معماري لفظ أنفاسه الأخيرة تحت أنقاض منزله، كم من طبيب قلبية مات في سكتة قلبية.
ياليته يعلم لكنه لا يعلم.