ذاكرة طبيب

ريسبيريدين

دخلت أمل، ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً، عيادتي في المجمع الطبي الخيري، بعد أمها. ولم أكن أحسبها تشكو شيئا. الأم هي من بدت منهكة مريضة، لم تنم لأيام، وهي من باشرت حديثاً أو شكوى شعرتُ أنهما لن يفضيا إلى شيء. وكنت كعادتي، كما أمارسها مع سائر المرضى، سأمنحها دقيقتين من “التداعي الحر” قبل أن أبدأ تدخلي وأسئلتي الموجِّهة لأصِلَ إلى تشخيص ثم علاج. فهناك عدد مرعب من المرضى في صالة الانتظار. لفت نظري أن أمل كانت صَموتا كبغلة (التشبيه أقتبسه من “برناردو كوردون” كما ورد في قصته المذهلة “عينا سيلينا”)، وأنها كانت تتأمل باهتمام شديد، بل تحدق بثبات تام في مقياس ضغط الدم الزئبقي الموضوع على طاولتي. وهنا خانني حدسي للمرة الثانية، فهي لم تكن صامتة ــ وفق مفهومنا للصمت ــ ولم تكن تتأمل الجهاز في واقع الأمر، بل كانت ــ كما سأعرف لاحقا ــ تجري حوارا معه. حوارا سيدوم ــ كما أخبرتني ممرضتي المساعدة فيما بعد ــ عشرين دقيقة. حوارا لم أفهم منه شيئا، على الأقل لأني لم أكن متضلعا من لغة الأجهزة الطبية، ولا من لغة الصمت الناطق. وهنا عُدتُ إلى أمها التي كانت لا تزال تتابع تداعيها الحر.

يعتقد المفكر “دانييل دينيت” أن لكل شيء وعيا، ويضرب مثالا على ذلك ميزان الحرارة الذي لديه وعي وإن كان يقتصر على معرفة درجة الحرارة. أما “ألدوس هكسلي” فقد تعاطى مرة جرعة من المسكالين، فصار الكرسي الذي كان في غرفته كائنا واعيا تماما مثله مثل هكسلي. وأما بخصوص الجوع وأثره المضاهئ لأفخر أنواع الحشيشة، فلم يكن الأمر في مخيم اليرموك جوعا فحسب. كان حرمانا حسيا كاملا، كأنك متصوف تخلو الليالي ذوات العدد في غار معتم، أو “سدهارتا جوتاما” يتربع تحت شجرة تين ليصبح المستنير بوذا ذات إشراق… لا شيء تراه، تشمه، تذوقه، تسمعه… في الحرمان الحسي، ثبت علميا أنه تحدث الرؤى/ الهلاسات/ الصحوة/ الاستنارة/ تعمق الوعي/ الوحي، سمّها ما شئت. بل قد يستيقظ العقل المنطقي نفسه، أيامها كانت المرة الأولى التي فهمت فيها “نقد العقل المحض” لإيمانول كانط. أو ربما يخيل لي ذلك! لكن أمل لم تكن مفكرة من طراز دينيت، أو متعاطية هكسلية للمسكالين، أو تعاني مضاعفات مؤقتة للحرمان الحسي… كانت ببساطة (ببساطة!) كما سأكتشف لاحقا، مريضة فصام/ شيزوفرينيا.

ما الذي يعرفه طبيب متخصص في الجراحة البولية والأمراض التناسلية عن الفصام؟ في الفصام يختل إدراك الإنسان للواقع. هو أولاً لا علاقة له بانفصال الشخصية (اضطراب الشخصية المتعددة) فأمل لم تكن اثنتين، أو سبعة عشر، كانت واحدة، وواحدة فقط. ومعرفتي بالمرض مستمدة من ثلاثة مصادر: دراستي في الكُليّة لمادة الطب النفسي، وتعرفي بمريض في مشفى المواساة آنذاك أحرق منزله بعائلته لأن الأصوات أمرته بذلك، وفلم “عقل جميل” الذي يتحدث عن العالِم الفصامي “جون ناش” الذي حاز جائزة نوبل في الاقتصاد. جنون إذن، طيف يمتد من الجريمة إلى العبقرية. ولم تكن أمل تحوز أيا من الصفتين كما بدا لي. في الجلسة الأولى، لم تتفوه تقريبا بأية كلمة. كل ما عرفته عن أعراضها كان من أمها:

تقضي أمل جل وقتها في البيت لا تفعل شيئا، متجمدة بالرغم من حرارة الجو. لا تطيع أمها في أي من أوامرها: من الاستحمام إلى مساعدتها في الأعمال المنزلية. ثلاثة أرباع شباب “حي المغاربة” الذي تسكنه واقعون في غرامها ويبادلونها رسائل الحب بطرق مجهولة. ومهما كان من حوار بين اثنين، فلا بد أنهما يتحدثان عنها بسوء. لم تحاول الانتحار، لكنها إذا غضبت، وغالبا دون مبرر، أخذت تضرب رأسها بالحائط حتى يدمى. وحين تتحدث، وقلما تفعل ذلك، لا أحد يفهم من كلامها شيئا. بدت لي أعراضا فصامية واضحة.

  • من إيمتى هيك؟
  • من كم شهر حكيم.
  • صار معها هيك من قبل؟ أو في حدا بالعيلة عنده مشاكل مشابهة؟
  • أبدا!
  • بتشكي بنتك من أي مرض تاني؟ شو ما كان.
  • لأ، بس كان عندها تحسس هي وصغيرة واختفى لحاله، ومن وقتها هاي أول مرة بجيبها عند دكتور.
  • في عندك أي شك ان بنتك عم تاخد أي دوا بدون علمك؟
  • مستحيل.

ناولتُ أمل حبة مهدئة كانت في درج مكتبي، وبلعتْها مباشرة دون اعتراض أو تردد. طلبتُ من أمها أن تراجعاني في اليوم الثاني.

في نهاية دوام ذلك اليوم، أخبرتني إحدى الممرضات، تسكن الحي ذاته الذي تسكنه أمل، أن معظم ما أخبرتني به الأم كذب. فالأم في واقع الأمر، هي من كانت مريضة، وسبق لها أن مكثت طويلا في شعبة الأمراض النفسية في أحد المشافي، ولا تزال تأخذ أدوية عصبية، وهي تضرب أمل ضربا مبرحا بشكل شبه يومي مستهدفة رأسها بشكل أساسي.

هنا لا تشعر بأن حدسك خانك للمرة الألف، بل بأنك ساذج، غبي، كائن وحيد الخلية، بل جسد بشري لا تحتوي جمجمته خلية عصبية واحدة. ربما صار المخيم بأسره مشفى للأمراض العقلية، وأنت أحد نزلائه. وربما عليك أن تزور عائلة أمل في منزلها، وتستقصي الأمر بنفسك من الجيران. ولعلك ربما بكل بساطة بالغت في تأثرك بمسرحية كاتب إيطالي نسيتَ اسمه عنوانها “لكلٍّ حقيقتُه” وغرقتَ في متاهتها. لكن علام العجلة؟ ستزورك أمل في العيادة غدا.

في اليوم الثاني، بدت أمل مرتاحة أكثر. ناولتها ورقة وقلما وطلبت منها أن تكتب أي شيء يخطر ببالها. ردّت لي خطوطا متكسرة ودوائر وخربشات.

  • ما هذا؟
  • قصة بالإنجليزية كتبتها امبارح.
  • وعن إيش بتحكي؟
  • عن الشباب اللي بيحبوني.
  • شكلك بتعرفي إنجليزي مليح!
  • عندي أكبر شهادة فيها بالعالم، بس ما حدا عم يعترف فيني.

 استمر حديثي مع أمل مزيدا من الوقت، وكان كل كلامها يدل على إصابتها ــ وفق الاصطلاحات الطبية ــ بهُذاءات وهُلاسات وتفكير مضطرب وعقدة اضطهاد، كانت فصامية. أما بخصوص أمها، فقد أظهرت التحريات أنه سبق لها فعلا أن مكثتْ فترة من الزمن في مشفى نتيجة لمشكلة عصبية، لكن المشكلة كانت جلطة في الدماغ لا مرضا نفسيا. والأدوية التي تتناولها أدوية خافضة للضغط ومانعة لتخثر الدم.

لم أكن أعرف كثيرا عن الأدوية التي يمكن استخدامها في حالة أمل، كنت متأكدا من شيئين فقط:

  1. الريسبيريدين دواء فعال لمعالجة مرضى الفصام.
  2. هو الدواء الوحيد من هذه الزمرة المتوفر في صيدلية مجمعنا، في مخيم مرت عليه أحقاب جيولوجية لم تكن فيه حبة سيتامول واحدة.

بدأنا العلاج به إذن. زارتني أمل بعدها عدة مرات، وكان التحسن الذي يظهره فكرها وسلوكها وحديثها، وسرور أمها بها، شيئا يبعث على الرضى. وكانت تطلب مني في كل مرة أن أعطيها ورقة وقلما، أعجبتها اللعبة على ما يبدو، وكانت “قصصها الغرامية الإنجليزية” تتحسن بشكل مطرد. علمتُ فيما بعد أن أمل تزوجت، وفي آخر مرة رأيتها فيها مصادفة في الشارع كانت بطنها منتفخة.

حاشية:

ظللتُ أحتفظ بأوراق/ لوحات/ قصص أمل في منزلي، إلى أن صارت تحت الركام.

.

.

.

اللوحة تمثل مريضة بالفُصام (الشيزوفرينيا) تشعر بأن الناس يراقبونها، وتسمع أصواتا في رأسها (هذان العرَضان يندرجان تحت الهُذاءات والهُلاسات، على الترتيب).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × أربعة =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى