بين باب شرقي والعتيبة
قبلة الصباح الأولى لدمشق، تطبعها الشمس على البوابة الأثرية الكبيرة لـ”باب شرقي”، المفتوحة على الشمس بملء فيها، ظلّ العمودين يرسم امتداد الرصيفين لوحة سوريالية،
برعت عبقرية المهندس الروماني- السوري “سبتيموس سيفيروس” بخلق الأيقونة الخالدة هندسةً معماريةً فائقةً نقشاً واتجاهاً.
الرصيف الأيمن للداخل من البوابة يمرّ أمام الكنيسة الأثرية الأقدم في دمشق، كنيسة “حنانيا”، لينعطف يمينا باتجاه “باب توما”، ويمتدّ الرصيف الأيسر باتجاه الأشجار العملاقة التي تعلو السور الأثري لدمشق القديمة.
«”حنانيا”، يا لذكريات الجامعة الحميمية…»، كنتُ أخاطب نفسي وأنا أعبر الشارع المستقيم، متّجهةً من “باب توما” إلى “باب شرقي”. هنا كانت لنا ذكريات السنوات الثلاثة الأولى في الجامعة، قبل ما يزيد على عشرين عاماً. الخروج الأول لي من المدينة الجامعية إلى دمشق القديمة كان مع “وليد”، زميل الدراسة الخجول الساهم دوماً بذبول عيون الريم، تعارفنا كأي زميلين على مقعد الدراسة. سهم يوكيبيد قام بفعله لحظة التقاء العيون، سمار البادية الفاحم مع بياض ثلج الجبال، “الضدّ يُظهر حسنه الضدّ”، هكذا جاء الوصف من العصر الجاهلي على لسان “دوقلة المنبجي”.
المفاجأة عقدت لساني ما إن انعطفت باتجاه البوابة الكبيرة، كأنني أتيت من السويداء على موعد لرؤيته في سابعة هذا الصباح الربيعي.. “وليد” يستظلّ العمود الأيسر من جهة “حنانيا”.. الشيب غزا معظم رأسه، وحتى شارباه اتّشحا بالبياض، يبدو أكبر من الخمسة والأربعين ربيعاً بكثير، في حين يُجمع معظم معارفي وأصدقائي، أنني أبدو أصغر من الإثنين والأربعين ربيعاً التي استنفدتها من عمري بكثير.
لحظةٌ، أعادت ذكريات عفّى عليها الزمن، كانت من منسياتنا، بعد أن افترقنا وتزوّج كل منا وأصبح لديه عائلة.. أخذني في أحضانه، وغمرته بحنان أمّ رأت وليدها بعد طول غياب. لم يطل بنا اللقاء، كنت مضطرّة للحاق بموعدين متتاليين؛ في الجامعة للحصول على كشف علاماتي، وعند الطبيبة التي حوّلني طبيبي المعالج في السويداء لمتابعة العلاج على يديها.. أصرّ “وليد” على مرافقتي، وكنت سعيدة بذلك.. تناولنا أطراف الحديث في الطريق، واتفقنا على اللقاء مساء في مقهى “النوفرة”، بعد أن وصلنا إلى عيادة الطبيبة.
في “النوفرة”، مع الشاي والأركيلة، بكيتُ ملء عيوني بدلاً من أن أضحك.. كانت ذكريات الحرب تطغى على ذكريات الحب، تلبّدتْ سمائي بسحب الحزن وسحب الأركيلة، وأنا أمسح دموعي…
***
– هربتُ بعائلتي؛ زوجتي وابني وبنتي، من “دير العصافير”، إلى “العتيبة” حيث بيت أهل زوجتي.. بيتي لم يتدمّر كمعظم بيوت القرية، تخللتْ جدرانه بعض الطلقات والشظايا، وتحطم زجاج بعض النوافذ.. استمريتُ في وظيفتي بالوزارة، رغم طلبي للتحقيق أكثر من مرة، وكان أكثر ما أعانيه طريق الوصول إلى “العتيبة” ومنها إلى دمشق، حيث كانت الحواجز تملأ الطرقات، فضلاً عن انقطاع الطريق بين الحين والآخر بين كرّ وفر، ما اضطرني في أكثر الأحيان للبقاء في دمشق لعدة ليالٍ عند أحد الأصدقاء..
***
خيط الذكريات الجميلة للحب والجامعة، مقارنة مع ذاكرة الحاضر الفاجعة، كان واهياً… يعبر شريط ذاكرتي الجميل في ثوانٍ، ويمتدّ شريط ذاكرته لساعات…
“وليد” الشاب الأسمر القادم من “الغوطة الشرقية”، يحمل معه عادات أهل الريف المحافظ، كان يحدوه الأمل بلقاء فتاة الأحلام، التي تنتظر قدوم فارسها على حصان أبيض. رآني جالسةً في مقعد وسط قاعة الدراسة، بيضاء مبهرة، وشعر أشقر يتلألأ فوق كتفيّ، اقترب مني تعلوه حمرة الخجل: «مرحبا.. هل يمكن أن أجلس هنا؟». ابتسمتُ له: «أهلاً.. نعم تفضل»، وعلتني حمرة الخجل أيضاً. كان يباغتني وأنا أنظر إليه متفحّصة، كما باغتُّ نظراته الفاحصة غير مرة..
انتهت المحاضرة وغادر الأستاذ القاعة، كان الشرود بادياً على محيّانا، لم أفهم مما قيل إلا لماماً. كانت الخيالات تعصف بعقلي المهيّأ لفارس الأحلام.
يتخيّل هو هذا البياض الطاغي والجمال الفاتن بين يديه، يداعبه خيال المراهق الذي لم يعرف المرأة، ولم يرَ شعر امرأة غير شعر أمه الذي لمحه مرات قليلة دون حجاب، تتغلغل يداه بين خصلات الشعر الأشقر غير المحجّب، ويقبّل الشفاه الوردية المحمرّة قليلاً، ويجمح خياله بتقاطيع الجسد الأبيض البض..
خيالي كان أكثر جنوحاً نحو العواطف، لم تكن مشكلتي اكتشاف الجسد، لعله الفارق بين خيال المرأة وخيال الرجل، يسوقني خيالي لرؤية الروح الجميلة، ويسحرني عذب الكلام، أحلّق في وهم المراهقة، أمسك بيده ونركض فرحين في حقول القمح، ونلتجئ لشجرة عملاقة تفيء بظلّها علينا.. يسوقه خياله لاكتشاف الجسد، وتلمّس هضابه العليا والسفلى، ومداعبة أوديته ومتاهاته…
***
– زرتُ “الدير” عدة مرّات لأطمئنّ على بيتنا، وفي كل مرة أعود مثقلاً بالحزن والآلام؛ مرة أخبرني جاري عن بيت صديقنا “أبو عبدو”، الذي غزاه برميل متفجّر فجراً وذهب بالأسرة كلها؛ الأب والأم وأطفالهم الخمسة.. ومرة رأيت بيت جارنا الذي سوّته قذيفة بالأرض، ولم ينتشلوا من تحت الركام سوى طفلته الرضيعة حيّةً، وجثته وجثة زوجته وولديه.. ومرّة خطفتني عصابة قبيل مغادرتي البيت، لأنني وجدت أربعة مسلحين يحتلونه، كانت لحاهم شعثاء مغبرّة، ورائحتهم تدعو إلى الإقياء، وقد حوّلوا البيت بغرفه ومطبخه وحماماته إلى مزبلة تفوح برائحة العفن والقذارة.. عندما قلت لهم: من سمح لكم بدخول البيت وتخريب ما فيه؟ أشهروا أسلحتهم في وجهي، وقيدوا يدي، وعصبوا عيوني، ولم أفتحهما إلا وحولي عشرات الرجال والنساء والأطفال، في قبو شبه مضاء.. ثلاثة أيام شهدتُ خلالها على ذبح طفل ذي عشرة أعوام أمام والديه وأمامنا جميعاً، وذبح شابين وفتاة ورجل عجوز، ذبحوا الجميع أمامنا بالسكين كما تذبح النعاج، بتهمة تعاونهم مع جيش النظام، علماً أن قريتنا خرجت عن بكرة أبيها تطالب بالحرية وبإسقاط النظام.. ولولا القصف العنيف من طائرات النظام ومدافعه ودباباته في اليوم الثالث على اختطافي، فجأة انهار الجدار الشرقي للقبو إثر قذيفة سقطت بجواره، وقتل تحته أكثر من عشرة من المحتجزين من مختلف الأعمار، لكن الفجوة الكبيرة التي دخل منها النور، جعلت الجميع يتزاحم على الخروج منها، رغم الغبار الخانق، غير عابئين بالحرب الدائرة خارجاً، حيث القصف والرصاص والقنص من كل جهة.. لا أعلم كيف وصلتُ مع ثلاثة ناجين فقط إلى البساتين الغربية للقرية، ليحيط بنا عناصر من جيش النظام ويقتادوننا إلى الاعتقال.
***
لعل البيئة المنفتحة التي أتيتُ منها، دون أحجبة وأقلّ محافظة، تركتْ خيالي يجنح نحو حبٍّ جارف لا يقيم للأعراف والعادات التي أراها باليةً أي بالٍ، ولأشعر بمعنى الحرية التي أزعم أنني كنت محرومة منها، في مجتمع ريفيّ زراعيّ.
التفت إليّ، والهرج والمرج يطغى على جوّ القاعة: «هل يمكن أن نتعارف؟ أنا “وليد” من ريف دمشق الشرقي، من الغوطة الشرقية». انتبهتُ إلى أنه لم يكن يطيل النظر إلى وجهي خجلاً، وهو يتكلم بلهجة من يحاول أن يكون واثقاً بنفسه، في حين كان الخوف يتعرّج بين ثنايا كلماته المتقطعة الحروف، وكأن الجملة التي استقرّ رأيه على قولها، قد تبخّرت من ذاكرته لحظة النطق بها، ويجهد قليلاً لتذكّر مخارجها، حتى إن العرق ابتدأ يتفصّد من جبينه.
لم يكن حالي بأفضل من حاله بكثير، غير أن مسحة الهدوء على محيّاي كانت أكثر ثباتاً وعفويّة. خرجنا من القاعة باتجاه كافيتيريا كلية الآداب، متفقين على شرب القهوة معاً. الدقائق العشرون كانت كافية لتحملنا بضعة كيلومترات، إلى “باب شرقي”، نشرب قهوتنا في المقصف الصغير المبرّد اتقاءً لحرّ الرحلة، وبعد أن دخلنا كنيسة “حنانيا” ليشهد لنا على حبّنا الوليد.
***
– “جبهة النصرة” هي التي احتلت قريتنا لأسابيع، تركت وراءها عشرات القتلى والمذبوحين، وجيش النظام الذي “حررنا” منها ترك وراءه مئات القتلى والمدفونين تحت الأنقاض.. أما الطامة الكبرى لدي فلم تكن في كل هذا.. زوجتي التي ناقشتني مساء في أمر العودة إلى “دير العصافير” ولم أوافق معها، فرضت على أخيها أن يحضرها مع طفلينا إلى “الدير” صباحاً بعد مغادرتي إلى عملي في دمشق، ثم قررت أن تقوم بتنظيف البيت وإعادة تأهيله، وألا تعود إلى “العتيبة”، ما أحرج أخاها فبقي معهم بانتظار عودتي، لكن قبيل عودتي بساعة انتشر خبر ضرب الغوطة الشرقية بالكيماوي، ورغم إحساسي بالمأساة ووطأتها، وقلبي الذي يغلي ويفور، كنت أشعر ببعض الأمان لظني أن عائلتي بأمان في “العتيبة” التي لم يصلها الغاز.. ووصلت مساء بعد فوات الأوان، كانت زوجتي وأخوها وطفلينا أرواحاً هائمة في السماء، مع أرواح المئات ممن حصدتهم المذبحة المروّعة.