دون ذرةٍ من ندم
دمشق، 1\2015، كراج ركن الدين مركز الانطلاق، حيث ستوُدع نفسك في وقد اهترأت روحك من حالة الاستنفار التي تعم البلاد، الجيش الذي يلاحقك شبحه، العمل الذي أصبح ورقة يانصيب، الحب الذي لم يبق منه شيءٌ في عيون الناس، أخبار الموت العاجلة عديدة الأسباب.
تراقب ما تبقى من سكارى وما هم بسكارى وأنت في انتظار الشيخ، هكذا ستعرفه بعد ساعات من الانتظار في مول قاسيون.
تجاوزتْ الرشاوى التي دفعتها المئة وخمسين ألف ليرة سورية -(900)دولار في حينها-، حتى استطعتُ أن أحصل على مهلة سفر لرحلةٍ يبدو أنها إلى الآن بلا عودة، وذلك من أجل تأجيل خدمة الأسد والهرب خارج سورية.
أخبرتني إحدى الصديقات عن شخص يدعى “ألشيخ” يمكنه مساعدتي في تجاوز حواجز النظام من دمشق إلى عفرين ومن ثم إلى تركيا. كنتُ أخشى أن يكون اسمي معمماً على الحواجز وهذا ضربٌ من الرعب الأمني الذي يعيشه كل من سوّلت له نفسه ونطق باللفظة الحرام “حرية”، فمع أنك قد تكون استنفذت كل مدخراتك من أجل محو الآثام التي ألصقت بك إلا أن ذلك لا يضمن لك أن ما تم محوه في مكتب الأمن قد تم محوه على حواجز التفتيش.
كان الاتفاق أن يستلم مني هذا الرجل ما يعادل مئة وخمسين دولاراً. يرن الهاتف، صوت يكسر الحواجز ويمنحكَ الطمأنينة في وطأة ما أنت مُقدم عليه:
“حبيبي أحمد الشيخ معك، وينك أنت؟”.
“عند المول” أجيب.
“أيوا هاد أنت لكان، يلا يلا شفتك رح لف بالسيارة”.
تتقدم سيارة مرسيدس مسرعة، واجهتها مغطاة بصورة حسن نصر الله وبشار الأسد، تتوقف أمام الكافيتيريا بفرملة استفزازية أوقعت فنجان القهوة من يد النادلة. لم أتوقع أبداً أن هذه السيارة جاءت لتقلّني معها، فصديقتي لم تخبرني أنني سأتعامل مع جماعة من شبيحة الصف الثالث، أولئك الذين يتشكلون من متطوعين في الجيش والأمن ولجان الدفاع المدني، والذين كانت أغلب مهماتهم الاتجار في البشر والخطف، وهذا ما علمته فيما بعد.
الشيخ الذي كان يجب عليه أن يكون ملاذي الأخير للاطمئنان، تكلّم معي بلهجة لا تشبه محادثاتنا السابقة على الهاتف، لهجة قمعية تخنق من يسمعها، لهجةً أبدع النظام في تحويلها إلى لغة أمنٍ اختصاصية تستطيع أن تضيء في ظلمات لا وعيك مشاهد مرعبة لأناسٍ معذبون وخائفون وميتون ومنسيون، يترجل “الشيخ” من السيارة وهو لا يتجاوز الأربعين من العمر وكأنه يداهمني، يأخذ حقيبتي دون أن يسلم عليّ.
بدأ الجميع يمارس دوره، واحد يهدد بالعذاب الآتي والآخر يطالبني بإخراج مافي جيوبي والثالث يهندس لي شكلَ الميتة التي سألقاها. تعاقبت في ذاكرتي صور شهداء التعذيب، تخيلتُ نفسي صورةً متمسكة برعبها الأخير قبل الموت، بينما أصدقائي يتعرفون عليها ويشاركونها عبر الفيسبوك ويمارسون لعبة الرثاء.
“أنا فلان الفلاني لقبي الشيخ، اركب”.
فجأة تنزل الشبابيك الأوتوماتيكية المظللة ليتبين لي وجود ثلاثة عناصر مسلحين. ينزل أحدهم من الباب الخلفي ويأمرني بالصعود. ما أن ركبت حتى قام الشيخ بال”تشفيط” بطريقة منزعجة وهو يراقبني في المرآة محركاً رأسه بإيماءات تهديدية ثم قام بإغلاق فتحة الهواء في سقف السيارة بيدٍ منزعجة، وأمر الشاب الجالس بجانبه أن يغلق الشبابيك وهو يرسل لي إشارات التخويف من المصير المجهول الذي ينتظرني.
أمّا الرجل الذي يجلس بجانبي فكان يخبئ ابتسامةً خبيثة ويقول ساخراً:
“مبسوط بحالك جايب الشنتة و بدك تسافر!”.
إذن لقد وقعت في فخ … كما حدث لبعض أصدقائي ….! راح دماغي يقوم بعملية بحث عميق لكي أستطيع فهم ما يجري أمامي، إذ من الواضح أنهم يعلمون لماذا أنا مقدم على الهروب خارج سوريا، والأكثر وضوحاً أنهم ليسوا مهربين بل عناصر أمن، ولكن كيف يحدث مثل ذلك، تذكرت على الفور أن بيني وبين الفتاة التي رتبت لي هذا الموعد بعض الأمور التي قد تجعلها تفكر بالانتقام، ولكن أيعقل أن تنتقم مني بهذا الشكل، حتى أن ما جرى بيننا مر عليه سنوات وكنت قد اعتقدت أنها قصة وانتهت، ولكن من يستطيع أن يحزر على ما يكتنه امرأةً حقودة، أو متى تقرر أن ترد الصاع بعشرة.
بدأ الجميع يمارس دوره، واحد يهدد بالعذاب الآتي والآخر يطالبني بإخراج مافي جيوبي والثالث يهندس لي شكلَ الميتة التي سألقاها. تعاقبت في ذاكرتي صور شهداء التعذيب، تخيلتُ نفسي صورةً متمسكة برعبها الأخير قبل الموت، بينما أصدقائي يتعرفون عليها ويشاركونها عبر الفيسبوك ويمارسون لعبة الرثاء.
أفلتت سيطرتي على الأدرينالين وضاعت شجاعتي كلها بعد دقيقتين فقط وأصبح وجهي مثاراً للشفقة، موطئاً للانهيار، ساحةً للبكاء، تحسراً على ما لن يأتي، هكذا إلى أن أفلتت ضحكة جماعية من العناصر جعلتني في تخبطٍ واضح بدده الشيخ فوراً عندما قال بلهجة ملؤها الود: “لك شبَك يا زلمي ما نمزح معك”!
دققت أكثر في وجهه بالمرآة وكأنني أريد التأكدَ مما قاله، لكن ملامحي جعلته ينفلت بضحكة هيستيرية، وأحد العناصر بجانبي يربت على كتفي وهو لا زال يتكلم بلهجته الأمنية “ما نمزح ما نمزح .. شبك لك ألله ….”
وصلنا إلى الكراج ونزل الشيخ ليستقبله مجموعة من العمال والسائقين وهم يسلمون عليه كمن يسلم على زعيم مافيا. أعطاهم حقيبتي ثم عاد ليخبرني بأن رحلتي سوف تتأخر حتى الثانية ليلاً، أي لا زال أمامي أربعُ ساعات من الانتظار المُرهق بصحبة هؤلاء.
اقترح عليّ الشيخ آمراً أن يكرمني بضيافته في بيته الكائن في “عش الورور” الموالي بغالبيته للنظام السوري. انطلقنا إلى هناك وأنا أستعيد في ذاكرتي الأخبار المرعبة التي كنت أسمعها عن “عش الورور” أثناء حصار حيّ “برزة البلد” المجاور له، ولأنني لا زلت غير مصدق أن مزحتهم السمجة السابقة كانت مجرد مزحة، فقد انتابني الخوف مجدداً، وما شاهدته داخل هذا الحي عزّز من وهم الخوف لدي.
كنتُ سـأظلّ مقتنعاً حتى الآن بأنني ميت لو لم أكن أنا نفسي من يسرد لكم ما حدث تلك الليلة.
لم يسبق لي أن شاهدت شكلاً مهولاً للدمار بهذا الشكل كما شاهدته أثناء مرورنا من طريق “برزة” باتجاه عش الورور، بينما لم يفوِّت الشيخ ورفاقه المسلحين أي نكتة تنال من شرف برزة وسكانها وكيف أنهم قاموا بحرقهم وسوف لن يهدأ لهم بال حتى يقتلعوهم ويرمونهم إلى الجحيم عن آخرهم.
خلال مئة مترٍ فقط مررنا بأكثر من سبعة حواجز عسكرية وأمنية ودفاع مدني تقف قبالة المدخل الرئيسي لعش الورور، كل هذا التحصين وهذه الحواجز سوف تفهم سبب وجودها عندما تنظر في عيون سكان ذلك الحي، الذين يضعون يدهم على الزناد وكأنهم في حالة تأهب تحسباً لإبادةٍ سوف تقع عليهم.
من حيث المبدأ لا يختلف حي عش الورور عن كثير من الأحياء التي تسكنها أغلبية من الطائفة العلوية في دمشق، والتي تموضعت كتجمع سكني مخالف فقير ومحروم من الخدمات والتي كرسها النظام كخزان بشري موالي يفيده في الأزمات التي يمكن أن تصيب عاصمته السياسية وما ينطبق على عش الورور يمكن أن يكون عينة تمثيلية عن جميع الأحياء المشابهة بدمشق.
نزلنا من السيارة وقد كانت الساعة حوالي العاشرة والنصف ثم دخلنا إلى بيت “الشيخ” الذي تشعر وكأنه ملهىً ليلي بسبب طبيعة أضواءه المزينة والألوان الحمراء للأثاث والجدران، ولكن لن يخطر على بال أحد أن ذات المكان المؤسس للمرح واللهو، سيكون مكاناً لاحتجاز المعتقلين والمختطفين وهو ما ظهر لي عندما دخل أحد أصدقاء “ألشيخ” وهو مسلح ويبدو عليه غضب شديد بسبب وصول خبر مقتل أحد أصدقائه على جبهات اللاذقية، حيث صب جام غضبه على المعتقلين الثلاثة المرميين في حمام البيت، كان يضربهم بوحشية ويرميهم بأقذع الشتائم بينما نهض “الشيخ” محاولاً أن يهدئ من غضبه، ولكن بقية الرفاق طلبوا من الشيخ أن يتركه لكي “يفش خلقو”، وكأن أولئك المعتقلين ليسوا سوى أجساد يتم تفريغ الحقد عليهم بعد أن تم تجريدهم من كل معنى يمت لإنسانيتهم بصلة فهم الارهابيون والقتلة والخونة والعملاء والمجرمون والكثير من الصفات التي حاول الشيخ فيها أن يبرر لي ما رأيته في أنهم أسرى من داعش حاولوا الدخول إلى عش الورور من أجل القيام بعملية انتحارية لكن عمليتهم أحبطت.
حاولت جاهداً أن أخفي خوفي مفتعلاً التعاطف مع الشاب الذي قُتل صديقه في جبهات اللاذقية بينما الوقت يمر عليّ وكأنه مدرعة تطحن أوصالي، وأنا أشاركهم شرب العرق دون أن أكسره بالماء فلا أشعر بقسوة طعمه لشدة ما كان ينتابني القلق ثم راح الحديث يدور بينهم بشكل عفوي عن المختطفين الموجودين في الحي وكيف تمت المبازرة على بعضهم بمليون ليرة سورية وآخر بمليونين وطفل ب خمسة مليون وامرأة بعشرة … الخ. لم أكن أتخيل حينها أننا وصلنا إلى هذا الدرك الأسفل من الانحطاط الأخلاقي، فما أنا إلا شاب كان يحلم بالحرية وخرج بضع مظاهرات ثم انكفأ عندما نال الاعتقال والتعذيب من معظم أصدقائه، ولكن أن تتحول الثورة إلى دريئة لدى فئة من المجتمع السوري من أجل الاسترزاق على لحم أخوتهم فهو ما لم يكن ليخطر على بالي، حينها أدركت معنى هذه التكتلات السكنية التي سمح نظام الأسد الاب والابن بنموها كالخلايا السرطانية على مرتفعات المدينة، وهو ما خلق بطبيعة الأحوال معادلة ال”هم” وال”نحن” والتي أثمرت بذرتها الخبيثة خلال الثورة.
كان أفضل شيءٍ حدث لي في تلك الليلة أنني عندما وصلت إلى الكراج في الساعة الثانية ليلاً متجهاً إلى المجهول، ركبت الباص بفرحة من أطلق سراحه بعد سنوات من الاعتقال، رفعت رأسي وأنا أميز الطريق عبر الرؤوس لأرى الشارع الذي سينطلق منه الباص وما أن دار المحرك حتى أغمضت عيني مستسلماً لكل ما سيأتي ..دون ذرةٍ من ندم.