عندما ينتصرُ القيد

قيدتنا شرطة السجن بسلسةٍ طويلةٍ، كُنَّا خمسة عشرَ معتقلاً، صعدنا الحافلة باتجاه حمص، فنقطة تجمع دوريات المحاكم الخاصة بمحكمة قضايا الإرهاب في دمشق، من كل السجون المدنية، الذاهبة إلى المحكمة والراجعة منها، موجودة في سجن حمص المركزي.
في تلك الساحة الكبيرة وصلنا مبكرين قليلاً لقرب المسافة بين حماه وحمص بالنسبة لباقي السجون في المحافظات الأخرى، وبدأت “جنازير المحاكم” كما يُطلق عليها اصطلاحاً بين المعتقلين، بالقدوم وإنزالهم من الحافلات وسيَّارات “اللحمة”، وهي سيارات عسكرية كبيرة بدون مقاعد، مخصصة لنقل الطعام بالأساس، ولكنَّ النظام ومنذ سنوات طويلة اعتمدها لنقل السجناء إلى المحاكم أو بين السجون، وذلك كنوعٍ من الإذلال، فلا يشبه النقل بهذه السيارات غير نقل الماشية، حيث يكونون مقيدين من يد واحدة بسلسلةٍ طويلةٍ مع بعضهم البعض، ودائماً يكون السائق أرعن، فهي تُمثِّلُ بكل معنى الكلمة جولة تعذيبٍ إضافية.
وهنا في هذه الساحة، يلتقي الأحباب، ويتواصلون هُتافاً حيثُ يُمنع التحرُّك للمعتقل من المكان الذي أوقفوه فيه مع زملائه من قبل الشرطة، ويتناقلون الأخبار الخاصة والعامة، إمَّا بكلماتٍ واضحةٍ، وإمَّا بكلماتٍ مشفَّرة .
كان ذلك في منتصف شهر تشرين الثاني من عام 2017، كُنَّا نجلسُ على أكياسنا التي وضعنا فيها بعض الثياب وغطاءين؛ الأول للنوم عليه، والثاني لنحتمي به من برد الأرض في مركز إيداع المحاكم في سجن دمشق المركزي “سجن عدرا”، حيث هناك لا يعطون المعتقلين القادمين لأجل المحكمات أيّ مستلزماتٍ شخصيةٍ، وإنما على المعتقل إحضار ما يلزمه ضمن شروط القليل المسموح به، فتجد كل معتقل أثناء التنقل من حافلةٍ أو سيَّارة إلى أخرى في هذا المسير العبودي، مقيّداً من يد، وفي اليد الأخرى يحمل لوازمه مع إبقائه على دوام حركة حلقة قيده التي تمرُّ منها السلسلة الطويلة حركة سلسة، خوفاً من أن تعلق الحلقة في السلسلة فتُشوَّهُ معصمهُ أو معصمَ المعتقل الذي أمامه أو الذي خلفه .
حينها كانت الساحة شبه ممتلئة، ونحن نجلس بجانب جدار السجن الداخلي، وصلت سيَّارة سجن طرطوس، فوقعت عيني عليهِ بين المعتقلين النازلين من السيَّارة، “نعم إنه (رامز)”؛ حدَّثتُ نفسي، فأنا أعلم أنه قد أُفرِجَ عنه مع أخيه ورجل آخر مشمولين ثلاثتهم في دعوى قضائية واحدة في محكمة الإرهاب .
في العام 2015 أطلقت محكمة قضايا الإرهاب الكثير من أحكام الإعدام بحقِّ موقوفين لديها، وكان حصَّة سجننا 12 معتقلاً، كان من بينهم ثلاثة معتقلين في دعوى واحدة؛ اثنان منهم إخوة من صوران في ريف حماه، وكان لهم أخٌ ثالث مختف قسريَّاً، واستطاعوا الوصول إلى معلومةٍ أكيدةٍ بوجوده في سجن صيدنايا (المسلخ البشري)، وفي منتصف العام 2015 أُبلغ ذووهم بأنَّ أخاهم الأصغر قد مات تحت التعذيب.
أذكر يومها كيف كان وقع الخبر على الإخوة وحجم القهر الذي تفجَّر في قلبيهما والذي خيَّمَ على السجن كُلِّه، فلهؤلاء الإخوة محبةٌ كبيرة لدى جميع مَن في السجن؛ شبابٌ سوريٌّ نقيٌّ بامتيازٍ، هذا مختصر ما أستطيع وصفهما به.
أمَّا الحادثةُ المشهورة التي ترتبط بهما وقد انتشرت في كُلِّ السجون، حيثُ تناقلها المعتقلون أثناء ذهابهم وإيابهم إلى سجن عدرا ومحكمة الإرهاب .
ففي العام 2015 وفي جلسة الحكم للأخوين مع ابن دعوتهم، كان يومها عمار بلال هو رئيس محكمة قضايا الإرهاب وكان مشهورا بفساده، ومطالبته الدائمة بتشديد أحكام وإجراءات المحكمة بحق المعتقلين، وذلك من منطلق موالٍ مجرم للنظام المجرم، وليس له أيُّ علاقةٍ بنزاهة وحيادية القضاء، وكان قاضي محكمة الجنايات القاضي رضا موسى، ثاني أقذر من مرَّ في تاريخ محكمة الإرهاب بعد القاضي ميمون.
في تلكَ الجلسة وعندما بدأ القاضي رضا بنطق الحُكم، وما إن قال “باسم الشعب العربي السوري ..”، حتى قاطعهُ أحد الإخوة صارخاً في وجهه:
“لا تقل باسم الشعب السوري .. بل قُل باسم الإيراني ونظام الملالي .. أنتم مرتهنون للإيرانيين والروس .. تلكَ حقيقتكم .. وأحكامكم التي تحكمون بها هي من عندهم وبقرارهم .. وليس لكم علاقةٌ بالشعب السوري الحُر” .
اغتاظ القاضي وأمرَ عناصر الأمن الوطني وحرس المحكمة بإسكاته، وعندما حاول العناصر قاوموهم ثلاثتهم أشدَّ مقاومة تحوَّلَت إلى عراكٍ في قاعة المحكمة، وبكثرة عناصر الشرطة والأمن الوطني استطاعوا السيطرة على المعتقلين الثلاثة الأبطال، الذين عَرُّوا المحكمة ونظام الأسد في عُقرِ دارهِ الأمني، وصادق القاضي على حكم الإعدام بحقهم.
بعد تلك الحادثة بفترة قصيرة وبعد قيام المعتقلين بإضرابٍ عن الطعام في حزيران 2015 قبيل حلول شهر رمضان، ووصل تعداد المعتقلين الذين شاركوا في هذا الإضراب إلى أكثر من 730 معتقلاً، تحت شعار “لا للطعام حتى الخروج من معتقلات النظام”، وشعار “الموت ولا المذلة”، وذلك احتجاجاً على أحكام محكمة الإرهاب وإجراءاتها التعسفية. على إثر هذا الإضراب قام النظام باقتحام السجن وسحبِ 23 معتقلاً بشكلٍ عنيفٍ ونقلهم إلى سجون أخرى، بتهمة التحريض وتنفيذ الإضراب، كان من بينهم (رامز)، وتم نقلهُ إلى سجن السويداء المركزي، وهناك بقي في زنزانةٍ منفردةٍ لمدة شهر كعقوبة رافقت ملفَّه القضائي.
وبعدَ الاستعصاء الكبير في سجن حماه المركزي في الثاني من شهر أيار لعام 2016 بفترة قصيرةٍ، جاء إخلاء سبيل (رامز) مع أخيه ورفيقهم الثالث من ضمن دفعات المُفرج عنهم المُتَّفق عليها مع النظام والتي كان تنفيذها شرطاً لإنهاء الاستعصاء، وكان احتفالاً كبيراً بخروجهم وخلاصهم من حكم الإعدام وحصولهم على الحُريَّة أخيراً، وفعلاً أُفرج عن أخيه ورفيقه من سجن حماه، وبقي أن يصل أمر إخلاء سبيل (رامز) إلى سجن السويداء ليتم إخراجه وهذا ما لم يحدث.
أمَّا أخوه الذي كان من الشُجعان البارزين أثناء الاستعصاء، من حيث سعيه المُستمر لحماية زملائه المعتقلين عند كُلِّ محاولة اقتحامٍ يقوم بها النظام للسجن، كان دائماً في صدارة المشهد، في إسعاف حالات الاختناق نتيجة قنابل الغاز المسيلة للدموع التي كانت قوات حفظ النظام ترمي بها إلى داخل البناء المستعصي، ووجوده في أيِّ وفدٍ مفاوضٍ مُتمسِّكاً بمطالب المعتقلين لا يأبه بكلِّ تهديدات النظام ومحاولته كسر عزيمة المعتقلين، وأهم ما كان يفعله هو خلق أسبابٍ للحياة في السجن المستعصي، والذي كان يفتقر بسبب الحصار الخانق لكُلِّ أسباب الحياة.
لا تقل باسم الشعب السوري .. بل قُل باسم الإيراني ونظام الملالي ..
هذا الشهم بعد خروجه من السجن كان من الطبيعي أن ينضمَّ إلى الجيش الحُرِّ في المناطق المُحررة من ريف حماه الشمالي، وهي مسقط رأسه، ومن الطبيعي أن يتواجد في مقدمة الجبهات الساخنة عسكرياً التي تُعد سدَّاً منيعاً في وجه محاولات جيش النظام المستمرة بالتقدّم، ليأتينا ونحن في السجن في الثالث من شهر كانون الأول من ذات العام 2016خبر استشهاده وهو في صدارة المشهد كعادته، شهيداً جميلاً في معارك العزِّ والشرف ضد ميليشيا الأسد وحلفائه.
عندما رأيتُ (رامز) في تلك السَّاحة المُكتظةِ بأجسادٍ تحلُمُ بالحريَّة، وجهه يملأه القهر، وشموخٌ عميق الصنعةِ والإصرار يكتنفُ نظرته الحادَّة، وفي خطوط وجهه رأيتُ صبراً وثباتاً يحميانه من الانكسار، كلّ ذلك تبدَّلَ إلى ابتسامةٍ عريضةٍ وبنفس الثباتِ الأول عندما رآنا، مرَّ أمامنا مقيداً بسلسلةٍ مع زملائه، تفصلنا مسافة عشرة أمتارٍ، لكنها مسافة يلزمنا لنقطعها إسقاط هذا النظام وكل حلفائه. أحسستُ بأنَّ العالم كُلهُ يقفُ بيننا ضمن هذه الأمتار القليلة، ويمنعنا من أن نحتضن بعضنا، ونتبادلُ أخبارَ حياتنا المختزلة أصلاً بحدود الزنازين وقوانين السجون، سجون أقذر دكتاتورٍ على مرّ التاريخ.
صرختُ لهُ “يا الله .. لماذا لم تخرج من السجن حتى الآن؟ ” فأجابني وهو يبتسم والغصةُ تلفُّ عُنق صوتهِ مثل حبل مشنقةٍ “لقد وجهوا لي تهمة جديدة وهي التحريض على الاستعصاء ونقلوني إلى سجن طرطوس منذ فترة كعقوبة”.
لم أستطع سؤاله الكثير من الأسئلة مع زملائي، فقد كُنَّا جميعاً نحادثهُ دفعةً واحدة وهو يعبرنا في السلسلة الطويلة ويردُّ علينا بكُلِّ محبةٍ وحزنٍ شفيف، وهو الذي بقي حيَّاً بين جميع إخوته، فقلت له اختصاراً لكُلِّ أخبار الشقاء التي تُلازمنا في جحيم الأسد: ” إلك الله يا أخي “، رفع رأسه عالياً، عالياً، حيثُ رأيتهُ لحظتها يخترق السماء الصافية إلَّا من عذاباتنا، ويبتسمُ وبذاتِ نظرته الحادة الثابتة مثل موقفه:
” لا شيء يكسرنا ويمنعنا عن إكمال ما بدأنا به “
في ذلكَ اليوم وفي تلك الساحة التي تعمَّدت أرضها بعرق أشرفِ مَن في الوجود، شيءٌ ما خفي جعل الساحة أمامي مرجاً أخضر وأنا أرى صديقي (رامز) يسير مُقيَّداً رافعاً رأسه عالياً ويبتسمُ وينتصرُ .. وننتصرُ ..