ليلة سقوط التاريخ

الثاني من أيار من عام 2013 لم يكن تاريخاً عادياً على مدينة دير الزور، في ذالك اليوم نزل التاريخ بعظمته من برجه لينتحب، كان يوماً ثقيلاً كالجبل على صدر المدينة بشقيها المحرر والمحتل من قوات النظام.
كان يوماً عادياً كأي يوم، راجمات الصواريخ تقصف المدينة بين الفينة والأخرى، واشتباكاتٌ روتينية متقطعة على الجبهات، وأنا أنتظر إبريق الشاي الموضوع على ذاك الصفيح، الذي حولته لموقد حطبي، ليغلي، علّي أحظى ببعض الهدوء، قبيل ذهابي للمشفى الميداني الذي كلفت بالعمل فيه كمراقب لأعداد الضحايا والمصابين، و فجأةً هزَّ كياني صوت ذاك الشاب الذي أخذ يصرخ في الشارع “سقط الجسر”
الجسر المعلق لم يعد معلقاً بعد الآن، أولاد الحرام دمروه، “الفزعة الفزعة”.
في البداية لم أفهم ما قاله الشاب، في الحقيقة لم أستوعب كلامه، فهو ثقيل على أذني المسدودة بصوت القذائف، جمدت للحظة ثم ضحكت، واستدرت لأمشي باتجاه الباب، ومن ثم لا شعورياً أخذت قدماي تتحركان بسرعة نحو منتصف الشارع، وتتحول ضحكتي لدهشة، وأنا أبحث عن مصدر الصوت، لكني لم أجد أحداً في الحارة، وخلال لحظات تجمع الجيران أمام أبواب منازلهم ليتقاسموا معي نظرات الدهشة، وليبدد صمتَنا صوتُ جارتنا -التي فقدت ابنها منذ أيام بقذيفة هاون طائشة- وهي تقول بحرقة: “يا الله يا الله يا الله” ودموعها تملأ وجنتيها، لتتابع والإنكار يعبث بلغتها: “كذب بكذب كذب كذب”.
لبست ثيابي على عجل وخرجت كالأبله راكضاً بين أزقة المدينة، قابلت رجلاً فسألته عن الخبر اليقين ليجيبني بسؤالي نفسه، كررت السؤال على الجميع لكن بلا إجابة تشفي غليلي، قررت وقتها الذهاب لأصدقائي في المركز الإعلامي، فقلبي لم يعد يحتمل هذا القلق، ليصبح الطريق لذاك المقر كطرق الحكايات التي لا تنتهي أبداً، وما إن وصلت حتى وجدت جمهوراً من الناس على باب المقر يتحدثون بطريقة غوغائية وبلغة غير مفهومة، لكن الوجوه وتقاسيمها والأعين ودموعها أكدت ما كنت أخاف منه؛ الجسر المعلق هدم بقذيفة أطلقتها دبابة حربية للنظام دون أي مسوغ يذكر، ذاك المقاتل النائم على كتف الفرات ذبح ذبح النعاج. وقفت لحظة لأشهق ثم ألملم نفسي وأدخل بكل غوغائيتي في الحوار المفتوح، وأبدأ بقول كلام غير مفهوم لأشخاص لا تريد أن تسمع أصلاً.
عبرنا الجسر الحربي لنتوجه نحو جسر السياسية، أو كما يسميه المعمّرون في المدينة (جسر الهنغار) نسبة للهنغاريين الذين بنوه، لتفاجئنا قذيفة تسقط على بعد أمتار منا! ضغط سعد على مقبض البنزين ليسرع وكأنه يسابق الموت،
جاء صوت سعد – صديقي الذي تطوّع لأخذي كي أرى جثة المعلق- وكأنه قادم من بئر عميقة أو كصفعة لأصحو، وهو ينبهني بأننا سوف نمر من فوق الجسر الحربي الذي صمم ليحل محل جسر “كنامات” المدمر، وبأني يجب أن أتمسك به كي لا أسقط من على الدراجة النارية، ويجب أن أكون جاهزاً في حال سقطت أي قذيفة بالقرب منا، بدأ قلبي يدق بقوة، بالقوة التي دق فيها قلب ذاك المراهق المنتظر لحبيبته على الجسر المعلق ليقدس اللقاء الأول بينهما، أو كقلب ذاك الفتى الذي تحدى أصدقاءه بأنه سيحلق كالنسر من فوق الجسر نزولاً في الماء ليثبت أنه ابن الفرات، أو كقلب المغترب منذ سنوات والمشتاق ليشم رائحة شجر “الغرَبْ” النائم على كتف النهر كالعذارى الهاربات من (الإلياذة).
ؤ وفي هذه المرة سبقْنا الموتَ ليبقى على تلك السرعة حتى وصلنا أطراف الجسر، أوقف سعد الدراجة في بيت قديم ونزلنا مشياً تحت الجسر، أردت التراجع مئات المرات، لم أكن وقتها أريد أن أرى ذاك المشهد، ترددت ثم نزلت مسرعاً، ووقفت قبالة الشاطئ، ونظرت إلى الجسر.
في البداية لم أرَّ شيئاً، رأيت المعلق كما هو شامخاً متأهباً، يمسك الشط حتى لا يفلت النهر من قبضته الأسطورية، خيوطه تشد بروج السماء فلا تتفتت السماوات، وقواعده تثبت الأرض فلا تهتز فيها حبة رمل إلا بأمره، كان كما عرفته دوماً مركز التوازن في هذا الكون، ثم بدأ السراب بالتكشف لتتضح ملامح الجريمة، صحوت من وهمي، نزلت صاعقة لتفتتني وتكسر مرآتي السحرية، ليظهر الواقع جلياً غير مبالغ فيه، ظهر ذاك الكهل وهو مترهلٌ على النهر لا يقوى على الوقوف، جلست على الشاطئ ليتلاشى العالم من حولي والحاضر معه، وبدأ التاريخ يعبث في مخيلتي، ويتساقط كالثلج على صدري ليخنقني.
أول من نزل معي رجلٌ أربعيني لم أميز تجاعيد وجهه، بل ميزت لهجته حين قال: “أترى الصبة الخرسانية الثانية تلك، هي قبري الذي دفنت فيه عام 1925 ونحن نبني الجسر. من الذي استطاع هدم شاهدة قبري يا فتى؟!”. وقبل أن أجيب قام وتركني وذهب للجسر وهو يبكي.
هممت للحاق به فأوقفني صوت حنون، نظرت خلفي فوجدت امرأةً متشحة بالأزرق تجلس جانبي، سألتها من تكون فقالت برقة: “أنا الفرات يا صغيري، وذاك الفقيد ولدي. عشرات السنين وأنا أقبل منكم أولادكم كقرابين لحبكم لي، ولكن لم أكن لأتخيل أن ولدي سيصبح قرباناً للحرية في يومٍ ما!، أين مني (خرمة) الآن لتنعي فقيدي وفقيدها؟!”.
رأيت الدير وقد أصبحت صيوان عزاء كبير، والفرات غدا نهراً من دموع الثكالى، تتوسطه (خرمة) تلك الشاعرة العمياء المتشحة بالسواد دائماً، والمعروفة بإتقانها شعر (المعادة) أو (النعي)، والتي تحول أي عزاء لكومة من البكاء والعويل والندب واللطم ورد التراب على الوجوه. نحيب (خرمة) سيجعل الجميع وحتى الرجال منهم يبكون حتى يسيل الزبد منهم، ومن غيرها يستطيع نعي جسر العشاق والمفارقين؟!، من غيرها ينعي ذاك الجسر الذي طُوفَتْ تحته ملايين من شموع الخِضر، وسمع وحفظ ملايين الأمنيات وتعهد لأصحابها بالوفاء بها؟، من غير النعي سيشفي قلوب جميع العرائس اللواتي ينتظرن أن يزففن على الجسر كأمهاتهن وجداتهن من قبلهن، من غير (خرمة) سيقول في عزاء التاريخ:
(السيوف
الماحمت جسري مناجل سوس سووها
الرماح الماحمت جسري جوا الجدر وزوها
الرجال الماحمت جسري مع النسوان اجعدوها)
هممت لأذهب وأعانق الجسر وأبكي بحضنه عليّ أرتاح، لتوقفني يد سعد وهي تهزني بقوة وتعيدني لواقعي، وهو يقول: “أين تذهب أيها الأبله”. توقفت لحظة لأجد نفسي وحيداً من جديد، كل النساء والرجال الثكالى، وحتى التاريخ ذاته، عادوا لمنازلهم، نظرت لسعد وبكيت بحرقة، نزلت كل دموعي معاً، وخرج الوجع من قلبي على شكل آهات عالية، وبدأت أسب وأشتم، لأراه وقد بدأ يبكي مثلي، بعد هنيهةٍ من العويل، سكت سعد ونظر للجسر وهو يقول:
“هل تعرف ماذا سنفعل؟”
قلت متلهفاً: “ماذا؟”
سنحرر الجسر من أيديهم ونحرر سوريا ونكتب على الجسر المعلق عبارة ليقرأها أولادنا: “بناه الغزاة وهدمه الجناة وبكاه الأحرار”.