ذاكرة مكان

وردة الحرية

دويّ رصاص ترتعشُ له أصابعي..

أحثُّ خطواتي محاولة الاختباء بين الأزقّة، وقد دسستُ الوردة في حقيبتي، وصوت الرصاص يعلو أكثر، ممتزجاً بصيحات مفجوعة تنادي بعنفوان يتحوّل تدريجياً إلى ما يشبه التوسل: حرّيّة.. حرّيّة.. سلميّة.. سلميّة…

رأيتها هناك قبل نصف ساعة، خرجت من زقاق ضيّق بخطوات حثيثة. كانت ترتدي معطفاً خفيفاً بلون ورديّ، لا أظنّه يقيها برودة رياح الخريف التي بدأت تهب، معلنة قدوم المطر، وتُخفي ملامح وجهها بشال من القماش الرقيق، تقدّمتْ إلى الفسحة الواسعة، حيث يتجمّعُ روّادٌ يحتسون شراباً، وآخرون يتسوّقون، وبائعون ينادون على بضائعهم.. تمهّلتْ حتّى لا تثيرَ انتباه أحد. جالتْ بعينيها جولاتٍ سريعةً خاطفةً في أنحاء المكان، وأظهرتْ بعضاً من الطمأنينة، ثمّ توارتْ لبرهةٍ في أعماق الزقاق، لتظهرَ من جديد حاملةً سلّةً من الورد الجوري الأحمر، ومضتْ توزّعُها على الناس.

انتابني فضولٌ ورغبةٌ في الحصول كغيري على واحدة من تلك الورود، لأنها من النوع الذي أعشقه، كما يعشقه معظم الدمشقيين. دنوتُ من الفتاة التي بدتْ متعجّلة بعض الشيء، وطالبتُ بحصّتي. حين التفتتْ نحوي، انزاح الشال القماشيّ قليلاً عن وجهها، فشهقتُ مأخوذة بجماله وبريق عينيها الزرقاوين، على ما تحملان من القلق المشوب بالخوف. كانت تلك هي المرّة الأولى التي أرى فيها وجه “هديل”، ذات الخريف التاسع عشر، غير أنّها لم تكترثْ لشهقتي، أعطتني وردةً وسرعان ما توارتْ عن نظري.

تحسّستُ الوردة بيدي وقرّبتها من أنفي لأستنشق عبيرها. استوقفني ذلك الشريط الأبيض الملتفَّ حول ساقها. تطلّعتُ إليه وقرأتُ عبارة: “وردة الحرية”. نظرتُ حولي، فاكتشفتُ أنّ معظم كراسي المقاهي قد خلتْ من ناسها فجأة، وكذلك معظم المحال بدأت بإنزال أغلاقها. اعترتني الحيرة والتوجّس، وما هي إلّا لحظاتٌ حتّى تناهى إلى سمعي أصواتٌ، راحت الأزقّة الضيّقة تردد صداها: حرّيّة.. حرّيّة..

كنتُ قد دخلتُ في زقاق جانبي قادني بعيداً عن مدخل حي “سوق ساروجة”، من جهة جسر “الثورة”. عدتُ أدراجي باتجاه جسر “فكتوريا”. كان الطريق الواصل إلى جسر “الثورة” يغصّ بسيارات الأمن، وقد قطعوا الطريق على السيارات المتجهة إليه، من أمام مجمّع “يلبغا”. دخلت باتجاه ساحة “المرجة” التي بدأت تغصّ بالسيارات المتحوّلة إليها، وهناك في جهتها الشرقية أيضاً كان الطوق الأمني مشدّداً، وكانت ما تزال تسمع بعض طلقات الرصاص بين الأحياء الشرقية.

قصدتُ شارع “النصر” عبر نزلة “رامي”، لأنعطف باتجاه ساحة “الحجاز”، وعلى ناصية الشارع عبرتْ من أمامي مسرعة، كانت تلف الشال على خصرها قاصدة ساحة “الحجاز” أيضاً، حثثتُ الخطا ولحقت بها، عرّفتها بنفسي، وأضفت أنني أحتفظ بـ”وردة الحرية”، وأنني مع الثورة، فعرّفتني بنفسها، وأنها طالبة في كلية الصيدلة، كنت أنا في سنتي الثانية في علم الاجتماع. كانت العتمة تكاد تلتهم ما تبقى من النهار. قصدنا المدينة الجامعية سيراً على سكة القطار، حسب رغبتها، وكل ظني أن “هديل” تقيم هناك، لكنها أخبرتني أنها من سكان حي “سوق ساروجة”، وأنها مقيمة مؤقتاً في المدينة الجامعية مع زميلة لها، ولا يمكنها الذهاب إلى بيتها، لأنها مطلوبة للأمن.. وأنها كانت تربطها علاقة حبّ قوية منذ سنوات يفاعتها، بإمام جامع في حيّهم لم يتمّ الثلاثين من عمره، مهيب الطلعة شجيّ الصوت، متحدّث بارع، ومعيد في كلية الشريعة. سألتها عن دوره في الحراك الثوري؟ فضحكت وقالت: «قصتي معه طويلة، قد نلتقي مرة أخرى وأرويها لك».

في المدينة الجامعية، ضمتنا غرفتي، حيث قَبِلَتْ “هديل” دعوتي لأن زميلتيّ مسافرتان إلى السويداء، وأنا وحدي. اغتنمتُ الفرصة وسألتها عن أهلها، فقالت: «ماتت أمي بحمّى النفاس وأنا في أشهري الأولى، وتولّى أبي تربيتنا، أخي وأنا.

كان أبي شاعراً معارضاً للنظام منذ شبابه، طبع ديواناً شعرياً دخل بسببه المعتقل منذ سبع سنوات، وقُتل تحت التعذيب، وكنت في الصف السابع في أواخر السنة الدراسية، لم أكمل الثالثة عشرة من عمري بعد».

– والشيخ، كيف أحببته؟

– كان جارنا. تخرج في الجامعة في سنة اغتيال أبي. رآني مرة وأنا عائدة من المدرسة، وعرض عليّ أن يساعدني في دراستي، ولاسيما أن أخي كان قد تفرّغ للعمل.. وجدت في “نديم” حضناً يعوّضني عن فقد أبي، إلا أنه تعلّق بي حد الجنون، ومنذ الدرس الأول عاملني معاملة العشيقة.. ومن ثمّ تعلّقتُ به.

أكبرهم في العاشرة، وعيونهم جاحظة، حائرة، يصرخون باكين والجنود يركلون أبوهم حتّى تُشلَّ حركته، وينكفئ على نفسه كدجاجة ذُبحَ عنقها.

– ولماذا لم تتزوّجيه؟

– حين تمضي السنونُ، وتصحو الملايين للثورة على الظلم والاستعباد والإذلال، أصبح “نديم” يؤذّنُ للصلاة بصوته الشجيّ، داعياً الناس في خطبه للتكاتف مع القيادة الحكيمة، والتشبّث بتراب الوطن، وألّا يتخلّوا عنه في المحن.. ولأنني أحببته وأصبح كل حياتي، حاولت بشتى السبل أن أثنيه عن موقفه لينحاز إلى الثورة وشبابها، لكنني لم أفلح.. أخي “أسعد” انساق أيضاً بشكل أعمى وراء “نديم” وآرائه.. أنا قاطعته تماماً رغم عشقي له، ورغم حاجة جسدي الذي كان يحومُ حوله، وهو يهمسُ في أذنيّ أن أمكثَ معه مزيداً من الوقت

– وكيف أصبحتِ مطلوبة للأمن؟

– أخي وحبيبي وشيا بي، هربت إلى “داريا” متخفّيةً عند بيت عمّتي، حيث عانيتُ معهم جزءاً من الحصار الذي أرغمنا على التهام ما يؤكل وما لا يؤكل، من المزروعات والأشجار والأعشاب والمواشي، وحتى القطط والكلاب، وشاهدتُ الكثيرين يموتون جوعاً أمام أعيننا، والأكثر تحت أنقاض البيوت بفعل البراميل المتفجرة، وكان نصيب عمّتي وأولادها الأربعة برميلاً دفنهم تحت الركام، حين كنت مع ابنة جيرانهم نحاول الحصول على دلو ماء من الحي المجاور. هربتُ من “داريا” مختبئة في شاحنة بين الأثاث المعفّش والمنهوب. توقفتْ الشاحنة في “جوبر” فانسللتُ منها. كانت الدروب مغلقة في وجهي، ولا أستطيع عبورها إلّا متخفّية، ولم أستطع الوصول إلى بيت قريب لنا هناك، إلّا بعد حلول الظلام رغم نزولي في مكان قريب من بيتهم.

تقتربُ “أم عبدو” منّي، وتدعوني لإلقاء نظرة على أطفالها. كانت الغرفة واسعةً، وقد غطّتْ أرضَها سجاجيد وطراريح صوفيّة، وثلاثة وجوه لأطفال مستغرقين في النوم، ملتحفين بالأغطية. تركتني أتأمّلُ وجوههم، وانهمكتْ بتحضير ما تيسّر من الطعام، وملأتْ كؤوس الشاي من إبريق فضيٍّ فوق مدفأة الحطب. أثنى “أبو عبدو” على ما فعلتْ، وتربّعنا ثلاثتنا حول الطعام. “أم عبدو” كانت فعلاً “ست الستّات”، ممشوقة القوام، قويّة البنية، صافية الوجه والنظرات، رغم أنّها تجاوزتْ الأربعين، ونادراً ما كانت تفارقها الابتسامة. و”أبو عبدو” لا يقلّ عنها لطفاً وطيباً وشهامة.

قبل انتهائنا من الطعام، سمعنا ضجيجاً في الخارج، فأسرع “أبو عبدو” يطفئُ الشمعة اليتيمة، ويطلبُ منّي الخروج من الباب الخلفيّ، والصعود عبر الدرج إلى سطح الجيران. من مكاني سمعتُ صوت قرع عنيف على بابهم الذي تحطم واقتحم الجنود البيت. كانوا مزوّدين بمصابيح يدويّة، يصوّبونها إلى الوجوه. كنتُ أراهم من النافذة. اندفعتْ “أم عبدو” على نحو غريزيّ إلى فراش أطفالها تحيطهم بجسدها، والجنود ينتشرون في زوايا المكان، ليحيلوا أثاث البيت في دقائق إلى أشلاء، فيستيقظُ الأطفال مذعورين.

يخاطبُ رئيس الدوريّة “أبو عبدو” بنبرة متوعدة: “صاير عم تطلع مظاهرات كمان يا حيوان؟” تبادرُ زوجته راجية الجنود ألّا يمسّوا أطفالها وزوجها بأذى. يدنو أحدهم من الزوج ويمسكه من شعره مرغماً إيّاه على الركوع وهو يركله بقدمه، طالباً منه أسماء من كانوا معه في المظاهرة، وهو يحلف أنه لا يعرف أسماءهم، ورغم أوجاعه من عنف الركلات، التي تُصوّبُ إلى وجهه ورأسه أمام أطفاله وزوجته، كان يردّدُ راجياً متوسّلاً: “طوّلوا بالكن سيدي.. كرمال الولاد الصغار.. طوّلوا بالكن ويللي بدكن ايّاه بيصير.. حرام هيك.. والله حرام قدّامكن ولاد صغار”.

أكبرهم في العاشرة، وعيونهم جاحظة، حائرة، يصرخون باكين والجنود يركلون أبوهم حتّى تُشلَّ حركته، وينكفئ على نفسه كدجاجة ذُبحَ عنقها. يقتربُ جنديٌّ من الزوجة محاولاً جرّها وإبعادها عن الأطفال، وهو يصرخُ في وجهها: “وإنتي كمان كنتي بالمظاهرات.. مهيك يا قحبة؟”. تقسمُ له أنّها لم تبرحِ البيت. لكنّه لا يبالي بقسمها ولا بتوسلاتها، ويحاولُ جرّها إلى الخارج عنوةً. تصرخُ وتبكي وتتوسّلُ، وتبدي مقاومة. يأتي جنديٌّ آخر، ويشتركان في تمزيق ثيابها، وثالث يهجم باتجاه الأطفال. عندها تنقلبُ “أم عبدو” إلى وحشٍ مفترسٍ يزأر، تنقضّ على وجهيهما تهشمهما بأظافرها.. ثوانٍ معدودة ثم تنطلقُ رصاصتان تخترقا رأسها وتخرسا صرخاتها، لتخرّ صريعة شبه عارية وقد تناثر شعرها مضمخاً، ولوّن دمها فراش أطفالها.

يحدّق “أبو عبدو” في عيون أطفاله المذعورين محاولاً النهوض، ويصرخُ كثور هائج جريح: “ولك ليش هيك عملتوا؟”. يركلهُ جنديّ على رأسه فيسكته، والأطفال يصرخون باكين مفجوعين: “ماما.. بابا.. ماما.. بابا…..”.

يتقدّم جنديان، ويوثقان أقدام الأطفال بقدمي والدهم، غير عابئين بذعرهم وصراخهم.. أحدهم تنبّه إلى وجودي، قفزتُ عن السطح هاربة بعيداً، وبريق الرصاص حولي. أستمرُ في الركض حتى البساتين، وأرى من بعيد ألسنة النار تتصاعدُ من بيت “أبو عبدو” محترقاً بمن فيه. أشمُّ رائحة شواء أجساد أطفال.. أجنُّ.. أصرخُ.. أحقدُ.. يُغمى عليّ وأموت.

أستفيقُ منتصف الليل من موتي، فأرى نفسي ملقاةً بين كومة من الأعشاب في بستانٍ مهجورٍ، والبرد ينخرُ عظامي. أظنّ ما أنا فيه كابوساً».

بعد أيام قليلة، علمت أن “هديل” اعتُقلتْ أمام المدينة الجامعية… ولم يعد أحد يذكر عينين زرقاوين توزّعان “ورود الحرية”.. هل أنا في كابوسٍ؟ غير أنّ الكوابيس سرعان ما تتلاشى، ويبقى الواقع السوريّ أشدَّ هولاً ورعباً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثمانية عشر − اثنا عشر =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى