هكذا خنت فلسطين وسوريا…!

“قبل بيت الفلسطينيّ، بعد بيت الفلسطينيّ، بالمقابل من بيت الفلسطينيّ”
هذه بوصلةٌ للجهات عندما تعيش لاجئاً خارج المخيمات. حتى عند الموت يتم إرفاق كلمة الفلسطيني بعد لقب العائلة عندما يُرفع الأذان على الميت.
أن تولد لاجئاً خارج المخيمات في سوريا هو أن تصبح علامةً فارقة، هذه العلامة الفارقة سوف تَزرع في داخلك في ما بعد مزيجاً من التميز والاغتراب، فيكون اندماجك مع مجموع السكان ناتجاً عن محاولاتك للتفوق، حتى وإن كان على مستوى العلاقات الشخصية. وقد تكون عقدة نفسية «تصعيدية»، لكنها تحقق لك التوازن في إشاحة النظر عن كونك لاجئاً في منطقة غريبة. فيتعامل الناس معك من حيث إمكانياتك وموقعك لا من حيث هويتك، خصوصاً في المناطق التي تحوي أغلبية بسيطة الحال ذات مستوى تعليمي منخفض، ولديها حساسية «فطرية» تجاه الغريب، حتى لو كان هذا «الغريب» سورياً من حمص مثلاً.
حتى السابعة من العمر لم أكن قد زرت “مخيم اليرموك” في دمشق، حيث كنت أقيم في حي جوبر الدمشقي إلا أن هذا لم يمنع أن يكون للمخيم تأثير مباشر علي بما يشيع عنه أن أغلب قاطنيه يصنفون في خانة “الباد بويز” و أصحاب المشاكل وهذه صورة تعميمية أعتقد أنها ناتجة عن مشكلة إحصائية بالدرجة الأولى فالازدحام السكاني في هذ المنطقة كفيل برفع نسبة الجريمة أو نسبة المتعلمين أو نسبة أكثر عدد محلات ألبسة .. الخ فأي شيء يكثر عدد وحداته تزداد معه نسب المتغيرات المراد قياسها. أما الناس فتكتفي بالتعميم.
أذكر عندما
تعرّفت إلى أحد الأطفال في جوبر وسألني: «إنت من وين؟» أجبته «أنا فلسطيني»، فتابع
سائلاً «يعني من المخيم؟». لا أعلم ما الذي دفعني إلى أن أكذب وأقول له إنني عشتُ
هناك فترة ثم انتقلت إلى هنا في ما بعد. وبعد هذا اليوم أصبح هذا الفتى يفتعل
المشاكل في الحي مدعوماً بفكرة تُرهب الآخرين أن صديقه فلسطيني من المخيم!
فيتحاشاه الجميع! أعجبتني الفكرة في البداية. فجميلٌ أن توسَم منذ الطفولة بأنك
شجاع ويمكن أن تقاتل من دون خوف، مع أنه لم يسبق لي أن دخلتُ في عراك مع أحد.
ولذلك لم تكن النتائج إيجابية عندما تجرأ أحدهم على صديقي المذكور وضربه، ثم قال
له «أنا بكسر راسك وراس أكبر فلسطيني»، والذي دفع بصديقي إلى أن يأتي إلي ويخبرني
بالحادثة وهو على يقين بأنني سأذهب وأوسع الصبي ضرباً! وفجأة وُضعت أمام خيار
إنقاذ شرف فلسطين من هذه الإهانة!.. نعم أنا صاحب قضية الآن! لذلك ذهبت بكامل ما
أملك من جرأة لأواجه صبياً أطول وأضخم مني بكثير! الأمر الذي جعلني أسقط أمامه في
دقيقة وبالضربة القاضية! هكذا، عدت وأنا أجرجر أذيال الخيبة، شاعراً أنني خنت
وطني! وصرتُ لا أطيق النظر في عيون أهلي، وأصبحت أذهب وأعود إلى البيت بسرعة بعدما
تناقل جميع الأطفال قصة الفلسطيني الذي مُسحت به الأرض.
ومنذ ذلك الوقت أصبحت على يقين بأنك
إن أردت أن تكون فلسطينياً عليك أن تعمل بأكثر من طاقتك وأن تحترس أكثر، فالموضوع
لا يخصك وحدك عندما تكون لاجئاً.
أن تعيش خارج المخيمات يعني أن
تحافظ بقدر ما تستطيع على عاداتك وتقاليدك دون أن يؤثر ذلك على اندماجك في المكان
الذي تعيش فيه، خاصةً إذا كان هذا المحيط مُحافظاً، وهنا علامةٌ فارقة أخرى: حيث
تصبح الأشياء التي تتشابه فيها بعض المجتمعات كأنها سمةٌ تخصك وحدك. وكثيراً ما
تسمع كلاماً يتراوح بين القبيح والجيد، مثل «هدول الفلسطينية بناتهم “free”، هدول الفلسطينية لا بحللوا ولا بحرموا، هدول الفلسطينية بحبوا
العلم».
وبالنسبة
لعائلتي بين أن تكون مؤثراً إيجابياً لا متأثراً سلبياً كان هو التحدي الحقيقي.
أذكر أن الحي الذي كنت أعيش فيه
قد ارتفع مستوى تعليمه عن الأحياء الأخرى. وأنا لا أقصد المبالغة أو الرياء في هذا
الموضوع أبداً، وخاصةً عندما تتحول عائلتك إلى مضربِ مثلٍ في الحي، ويصبح طموح
الأهالي أن يصبح أبناؤهم مثل أبناء هذه العائلة الفلسطينية. هذا بدوره كان
مُحفّزاً شخصياً لكي أجتهد أكثر، لأن في ذلك شهادة تسِمُ وطناً بكامله، فيحمل
الفلسطيني هذه العقيدة قلباً وقالباً أينما حمل خيمته وذهب.
أول مرة دخلت فيها إلى مخيم
«اليرموك» اكتشفت أن لدي «كامبوفوبيا»، أي رهاب المخيم، وخصوصاً عندما رأيتُ
الأطفال وهم يحولون ساحة المخيم «دوار البطيخة» إلى مسبح يسبح فيه أكثر من عشرين
طفلاً! حينها قال لي أبي: «هؤلاء هم أهلنا». لكن شعوري بالاغتراب كان حاضراً بقوة!
فأنا لا أشبه هؤلاء الأطفال الذين يخترعون أدوات لعبهم بكل هذه الحرية. وبعد شهرين
من إقامتي عند بيت خالتي في مخيم اليرموك، تعزز هذا الشعور لدَي، خصوصاً حينما
أصبح الجميع يطلق عليّ لقب «الشامي»، لأن لهجتي الشامية كانت واضحة، ما أعادني إلى
فكرة العلامة الفارقة، ولكن هذه المرة بين أولاد بلدي.
أن تكون لاجئاً يعيش خارج
المخيمات يعني أن تدرك أنك أصبحت من هنا وهناك، وأنك لستَ من هنا ولستَ من هناك في
آن واحد، والذي سيدفعك إلى أن تحاول ما استطعت لتثبت انتماءك للطرفين بالمستوى
ذاته.
أتأمل
الآن لجوئي الجديد في تركيا وأحاول أن أتدارك سؤالاً سمعته غير مرة في سوريا والآن
أسمعه من أحد الأتراك
- متى تعود إلى بلادك ؟
أفكر مع سؤال التركي .. تُرى أي بلادٍ يقصد .. سوريا أم فلسطين؟! ولكن هذا السؤال بطبيعته هو سؤال جاهل عندما يوجَه إلى لاجئ مطالب منه أن يسرد أوضاع سياسية وعسكرية كاملة حتى يقنع الطرف الآخر بضرورة بقائه لاجئاً هنا مع محاولات تطمينه أنه سيأتي يوم أعود به إلى بلدي أو إلى أي بلد أوروبي وكأن الأرض قد ضاقت بما رحبت من اللاجئين المختبئين خلف العيون التي تنهش ظهورهم.
لكنني في هذا الموضع أعود لأفهم أولويات انتمائي وأي الطرفين أرغب بالتشبث به أكثر لجوئي السوري أم لجوئي الفلسطيني.؟ عند قدومي إلى تركيا كنت عندما أُسأل من أين أنت، أجيب بلا تردد “أنا من سوريا” وكنت أُصر على سوريتي كي لا أشعر أني أخون المكان الذي نشأت وترعرعت فيه. كنت أعلم في دخيلتي إذا ما قلت بأنيَّ فلسطيني فهو تهربٌ من الضعفاء الذين أنتمي إليهم إذ أنه حتى في اللجوء سيكون هنالك لاجئ ضعيف ولاجئ أضعف، وهو ذاته الشعور بالتفوق الذي انتابني عندما امتلأت دمشق باللاجئين العراقيين الذين كلما صادفت واحداً منهم أخبره على الفور بأنيَّ فلسطيني وأنا على يقين تام بأن ذلك الاعتراف سيخفف من شعور غربته ولجوئه أمامي، لكأن الفلسطيني حالة ضابطة ومعيارية لكل أنواع اللجوء الذي ابتلي به العرب في القرن الحادي والعشرين.
قابلت أحد الأصدقاء الحلبيين في مدينة عينتاب التركية وقد كان جالساً مع مجموعة من الأتراك وبعد أن سلمت وجلست، انحنى مني هامساً وهو يخبرني أن جميع الأتراك هنا يعرفونه على أنه لبناني وطلب مني أن لا أخطئ أثناء حديثي فأكشف هويته السورية. انتابني ذعرٌ لا أعلم مصدره لم يخلُ من احتقار شديد لهذا الشخص الذي راح يبرر لي فيما بعد أن مشاكل السوريين وسلوكياتهم السيئة ورفض الأتراك لوجودهم هو ما دفعه لأن يكذب بشأن هويته. علماً أن كل هذا الرفض التركي الذي يتحدث عنه يكاد يكون معدوماً على أرض الواقع الاجتماعي وحالة نفور الأتراك التي يشعر بها اللاجئ السوري هي بأساسها سياسية الأسباب، لكن حساسية اللاجئ بشكل عام تجعله يعمم من مواقف صغيرة لطالما عايشتُ ما هو أكثر عنصرية منها أنا الفلسطيني بين أبناء جلدتي من السوريين . ولكن حتى لو كان لهذا الشخص أن يختار هويةً أخرى ليهرب بها من وطأة هويته السورية فهل يعقل أن يختار هويةً لشبه دولة تسمى لبنان تمتاز بأنها من الدول الأشد عنصريةً وكرهاً للسوري اللاجئ .؟!
يتعب اللاجئ حيناً ويحاول أن يصمد طوراً، يخبئ صوته في وسائل النقل، يواري كل ما يُظهر حروفاً عربية على موبايله أو أوراقه، وكأن عاراً سيشي به ويجعله محطاً للأنظار، ولا أدعي أنني لم أفعل ذلك يوماً ولكنني كنت أتجاوز “عاري” أغلب الوقت كلما تذكرت أبطال الثورة السورية من غياث مطر حتى عبد الباسط السارووت فأصاب بنوعِ من الفخر يستطيع أن ينفخ هويتي السورية على مساحة الأرض. فالأبطال الحقيقيون هم من يغادرونك بعد أن يتركوا في داخلك سورية كاملة شاهقة وحاضرة في الذهن لتواجه بها كل خواءِ هذا العالم وهذا هو تماماً السلاح الذي كنت أواجه به لجوئي الفلسطيني في سوريا متذكراً تاريخاً شاسعاً من النضال الفلسطيني المدهش بأبطاله الذين لا يغادرون الهواء. ولكنني مع ذلك أعترف بأنني خنت فلسطينَ مرةً وسوريّا مرة.
في الأولى كان عليّ أن أغوي فتاةً سورية تكره الفلسطينيين بشدة، فأخبرتها بأني سوري، وفي الثانية كان عليّ أغوي فتاةً تركية تكره السوريين بشدة، فأخبرتها أني فلسطينيّ. وفي الحالتين ..
كنت ثائراً من الدرجة الأولى.