ذاكرة حدث

بين استبدادين

 

سلطوا أسلحتهم باتجاهي وكأنهم قبضوا على أصل الشر، أو كأنني أنا وراء القصف العشوائي والبراميل والحصار، يبدو أنني محاصرة الآن بين أسلحتهم مثلما يحاصرون الأهالي أيضاً فوق حصار النظام لهم، يا لخيبة أحلامي وانهيارها.

كان ذلك عندما دخلت إلى الغوطة الشرقية، حيث اعتدت ومنذ بداية الثورة أن أتسلل إلى هناك حاملةً بعض المساعدات من أدوية وأدوات طبية وما تيسَّر لي من الأغذية الخاصة بالأطفال، أمررها عبر طرقٍ سرية لا تخلو من المغامرة بحياتي، فثمن اكتشافي من قبل قوات الأمن فيما لو ألقوا القبض عليَّ هو الاعتقال والتعذيب لسنوات إن لم ينته بالموت.

لكن وعلى الرغم من كل تلك المخاطر لم أكن آبهة لشيء بل أذهب متسلحة بإيماني بثورةٍ وعدت نفسي أن أمنحها كل ما أستطيع، فصورة الأطفال تحت القصف وحاجتهم للغذاء كانت تدفعني للوصول إليهم بأي ثمن، خاصة بعد أن تكرر ذهابي وبات لي علاقات شخصية مع بعض الأهالي هناك وبتّ أشاهد أطفالهم والخوف الذي يعيشونه ومدى فرحتهم بلقائي في كل مرة.

لكن تلك الحالة لن تطول وستصل أخبار للأجهزة الأمنية عن مشاركاتي في المظاهرات وعن كلامٍ معارضٍ للسلطة صدر عني على حد تعبيرهم، لكن دون معرفتهم بذهابي إلى الغوطة، حينها سيدخلون إلى بيتنا في صحنايا، ولكونهم يدَّعون حماية الأقليات ويتجنبون الصدام معها سيكتفون بتهديد أهلي ويختصرون حديثهم بعد طول توبيخ: “ضبوا بنتكن أحسن ما نضبها نحنا”.

تلك اللحظة كانت فاصلة بالنسبة لمنزلنا، وسيسود القلق والتوتر في جو المنزل بعدها، لتزيد معه رقابة أهلي تجاهي وخوفهم من أي مغامرةٍ جديدةٍ لي على الرغم من أنهم يوافقون ضمنياً على ما أفعل.

لكن، ما أصعب أن تُمنع عن إرواء حلمك وقضيتك، فامتناعي عن الذهاب مجدداً إلى الغوطة جعل من دمشق سجناً كبيراً بالنسبة لي، سجنٌ جدرانه هي حواجز النظام الفاصلة لدمشق عن ريفها. فقررت وكي أخفف من شعوري بالذنب أن أتوجه للعمل في دعم ومساعدة النازحين من الغوطة في صحنايا، والتحقت بمنظمة تدير برامج ودورات مهنية للنساء وتساعدهم معنوياً أيضاً على إيجاد سبل تأقلم مع حياتهم الجديدة.

عملت لأشهر في تلك المنظمة وعلى الرغم من أني وجدت فيها إلى حدٍ ما ضالتي في مساندة قضيتي التي أؤمن بها ودعم المتضررين من تهجير النظام، إلا أنني شعرت بأعماقي أن ذلك ليس أكثر من محاولة مني لإقناع نفسي بأنني ما زلت أقوم بدوري، خاصة مع كل قصة أسمعها من بعض النازحات عن القمع والتنكيل الذي طال مناطقهم حين كانوا فيها.

لكن لاحقاً يبدو أن تقريراً جديداً وصل للأمن حولي، حينها أخذوني من أمام عملي حيث كانوا ينتظرونني، على أن أعود معهم بعد ساعة، لكني لم أعد إلا بعد شهرين. ذهبت والرعب يخفق في كامل جسدي، لأجد نفسي مرمية في أحد أقبيتهم لساعات قبل أن يبدأ التحقيق معي ويسألوني عن مشاركتي في المظاهرات سابقاً ويدلون فوق مسامعي أني أحرض على التظاهر دفاعاً عن الغوطة، وعلى الرغم من رعبي حينها إلا أنني تنفست الصعداء لأنهم لم يعرفوا على ما يبدو بذهابي إلى الغوطة، فلم يسألوني عنها أبداً، ومع ذلك كانت مشاركتي في المظاهرات والدعوة لها كافية لأعيش أياماً لم أكن أتوقع أن أعيشها يوماً وأبكي من القهر والألم كما بكيت حينها. تعرضت للضرب والإهانة والتحرش والصعق بالكهرباء، وأكثر ما آلمني ما كنت أسمعه من أصوات التعذيب لأخريات، وما يحكينه لي عن أساليب التعذيب التي تعرضن لها.

خرجت من المعتقل بعد شهرين، وقد زاد حقدي على النظام وإصراري على الثورة ضده أكثر من قبل، فما رأيته وشاهدته كان يكفي لأن يغذيني بالتصميم والإرادة لفعل أي شيء للسير على طريق سوريا التي نرغب أن تكون.

لكن ما حصل أن المركز الذي أعمل فيه على مساعدة النازحات لم يعد بمقدوره استقبالي، فعمل شابة معتقلة وملاحقة فيه قد يجلب وجع رأس للمركز على حد تعبير المشرفة على المركز. كانت تلك من أولى تبعات الاعتقال التي بدأت تظهر لي، بالإضافة إلى معاتبة ونظرة المجتمع المحيط بي والتي أرخت بظلالها على وضعنا العائلي وعلى علاقة عائلتي بمحيطها، ليزداد شعوري بالوحدة والعزلة والنبذ.

في المقابل لم أقطع تواصلي مع الغوطة وكانت تصلني أخبارهم وأخبار القصف المتزايد هناك، وعلمت بحاجتهم المتزايدة للأدوية والأدوات الطبية التي شح وصولها إليهم مع تضييق خناق الحصار أكثر، وقلة عدد من يوصلونها إليهم، خاصة بعد انكشاف الكثيرين واعتقالهم أو هجرة آخرين خارج البلاد.

عزمت على الذهاب إلى هناك، فضيق وضعي الجديد وقهري الذي ازداد بعدما رأيته في المعتقل زاد من إصراري على التمسك أكثر بقضيتي التي أؤمن بها. لم أستطع العيش بعيداً كثيراً عن هناك، كنت أشعر وكأنه المكان الوحيد الذي يمكنني أن أتنفس فيه بحرية، كيف لا وهو المكان الذي اعتدت منذ بداية الثورة أن أهتف فيه بشعارات الحرية حتى بات وكأنه أرض أحلامي ومنصة انطلاقها؟

لكن وبمجرد وصولي إلى هناك، أتى مسلحون من الفصائل المعارضة ليخبروني بأن عليَّ الذهاب معهم لإجراءاتٍ بسيطة، لكن حين أظهرت قلقي من الذهاب معهم أنا ومن كان معي من قاطني المنطقة، أشهروا أسلحتهم وأظهروا الوجه الآخر العنيف وأخذوني عنوةً مكبلة اليدين.

سلطوا أسلحتهم باتجاهي وكأنهم قبضوا على أصل الشر، اتهموني بالخيانة والعمالة للنظام وبأن مجيئي إلى منطقتهم ليس أكثر من مهمة استخباراتية. لم يشفع لي اعتقالي لدى النظام بل اعتبروه تمويهاً ومسرحية متفق عليها. شعرت بأني عاجزة عن الرد أكثر من عجزي في معتقلات النظام، فهناك كنت أجابه من أعتبرهم أعدائي وكان ما يتهموني به من تحريضٍ ضدهم أقوم به فعلاً، وكنت أعتبر ذلك الاعتقال مصير متوقع يمكنني تحمله جراء القضية التي أحملها وأؤمن بها، أما هنا فماذا أقول وكيف أدافع عن نفسي لمن يشكك بإيماني.

تعرضت للإهانة أيضاً والتهديد بالقتل، ليخرجوني بعد بضعة أيام دون أن يثبتوا عليَّ شيء، مع تهديد بألا أعود إلى هنا مرةً ثانية.

عدت إلى منزلي مكسورةً كما لم أُكسر من قبل، منبوذةً من المجتمع ومن العمل، إرهابية أو مساندة للإرهابيين بنظر النظام، وعميلةً ومساندة للنظام بنظر معارضيه، منكفئة على نفسي بين أحلامي وبين واقعٍ صادمٍ لا ضوء فيه لحلمٍ أو رغبة في التحرر، أجر خيبة أحلامي المتكسرة على صخور ذاك الواقع المولد لألف مستبدٍ ومستبد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

17 − سبعة =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى