التداوي بالكعك
كانت خديجة مريضة ربوية مزمنة، وكان ربوها من النوع الشنيع، الباعث على القنوط لدى كل من المريض وطبيبه.
وكانت تبدو لي أحيانا كما لو أنها تعرف عنه أكثر مما يعرفه متخصص في الأمراض التنفسية، وأحيانا كأنها تجهله مثلما أجهل الكيفية التي يصبح بها زعماؤنا أبطالا تاريخيين ورموزا وأصحاب رؤى وحكماء بهداهم نقتدي. ثم إنها كانت جارتي، منزلها يبعد عن منزلي بضع عشرات من الأمتار، وكان هذا أحد اكتشافات الحصار التي أدين له بها.
– هل أدلكِ على طريقة تريحك من حياتك دون ألم؟
– إي والله يا ريت!
– لن أفعل، فهذا يخالف أخلاق الطب.
حينها تسمعها تضحك بصوتها العالي الذي لا يعبأ بحرمة أي مكان، وترى في عينيها ذلك المزيج من الحنق والامتنان.
في عصر أحد الأيام ــ تخبرني مفكرتي أنه كان العاشر من أيلول عام 2016ــ فاجأتني خديجة بكيس من الكعك، فارتفع تركيز السيروتونين ــ الناقل العصبي ذي المفعول المضاد للاكتئاب ــ في دماغي.
لما جاءني الكعك، وكان طازجا، تذكرتُ فورا جدتي رحمها المولى. وجدتي، مثل جدة كل فلسطينية وفلسطيني، هي بالطبع أمهر صانعة للكعك، وهذا أمر لا يقبل النقاش. شيء معلوم من الطهو والشعائر بالضرورة. سلوا أي فلسطيني، وسيخبركم عن كعك جدته.
والكعك الفلسطيني ــ لمن لا يعرفه ــ تعويذة كنعانية محشوة بالعجوة أو جوز الهند. قيل: هو المهر الذي قدمه بعل لعشتار. ربما، لم أكن في ذلك الوقت. وقيل: بل هو رسالة مشفرة فيها كل تعاليم الثورة. ربما، لكن أكثرنا عاجز عن قراءة الشريط الإخباري نفسه، أو تذكر بند واحد من بنود الميثاق الوطني الفلسطيني. وقيل: بل هو فلسفة من يدخلون ملكوت السماء: “ألا ذوقوا ما أطيب الرب!” ربما، لكن الإخلاد إلى الأرض (أي الانتقاع بمياه الصرف الصحي) منهج وطيد مكين. وقيل: هو ــ أي الكعك ــ مخيم اليرموك نفسه، محشوّا بالجثث المتفسخة، ومُنكَّهاً بالكلاب والحشرات. ربما، لكنه طبق مقزز ووصفٌ منافٍ للذائقة الراقية. وماذا عليها إن كان مقززا مثيرا للإقياء؟ فالحقيقةُ طاهية متمردة، مريضة، لا تراعي حرمة الفن، ولا معايير الجمال، ولا الحس المرهف للقيادتين السورية والفلسطينية.
كانت رائحة الكعك الفلسطيني ــ الذي يمارس عليّ مفعول “كعكة المادلين” على “مارسيل بروست” ــ تأخذني دوما إلى أزمنة مغايرة، أزمنة ليس بالضرورة مضت. فكيف بكم بمذاقه؟ وهو يذوب طريا، شهيا، حلوا، مخدِّرا، مُنسيا إياي ــ وإن للحظات ــ قتلى، وبراميل، وقصفا، وحصارا، ومرضى، وإصدارات دموية، وتذكيرا للمارة بالصلاة ــ وكأن الأذان وُجِدَ لشيء آخر ــ وحواجز، وأشياء غيرها سئمناها ولم تسأمنا.
في عيدَي الفطر والأضحى، في أول يوم منهما، لم أكن أعمل. كنت أزور وأخي معارفنا من الأصحّاءَ والمرضى للتهنئة. في واقع الأمر لم يكن أحد منا صحيحا جسديا أو نفسيا، ثم إن التهنئة كلمة بايخة سخيفة. لكنه قصور اللغة، والرغبة في ممارسة معيشة تشبه المعيشة في حدها الأدنى. وما دخلتُ بيتا إلا خرجتً محمّلا بالكعك الفلسطيني. الصحن الطاهر الظاهر أعلاه يحوي عينة منتقاة من عدة بيوت. الكعكة الدائرية كأنها أفعى تعض ذيلها، أو خاتمُ الأبدية الفرعوني. المقببة تشبه نهد كاعب. أما تلك ذات الشكل التجريدي فجديرة بأن تكون نقشا على جدران كهف لأول إنسان فكر في توثيق ذاكرته، أو لوحةً في متحف اللوفر. متى تكتسب الحياة طعم هذا الكائن الخرافي ورائحته؟ تحار في تصنيفه: هل فرّ من حديقة عجائب مخلوقات “القزويني” وغرائب موجوداته؟ أم هو مرحلة انتقالية بين المَوَتَان والحَيَوَان؟ أم هو حرف أبجدي نسيت العرب أن تنطق به؟ أم لعله محاولة المخذول المنسي ليصرخ: هأنذا؟
بحساب يسير من ناحية الرياضيات، عسير من ناحية البيولوجيا والسايكولوجيا، مرّ علينا أربعة عشر عيدا إسلاميا في سنوات اليرموك تلك، كانت من أجمل ما عشناه من الأعياد. البهجة ترتسم على وجوه الأطفال، الألوان في كل مكان تكتسي حللا سوداء كالحة، التخمة تُطيح بالناس من فرط الطعام ، المرضى يتعافون بسبب براعة الرعاية الصحية السويسرية والمساعدات الطبية التي لم يبخل بها علينا نظام الأسد والكونُ الذي يتآمر عليه، كما صرنا نفهم الفلسفة الوجودية، بنسختها الفرنسية على الأقل. ألَمْ يخاطِب ألبير كامي النازيين ذات مرة: “لقد حاصرتمونا بشكل خانق، وخلّفتمْ لنا الجحافل التي بها سنهزمكم: اليأس”.
لكننا لم نهزم النازيين، بعضنا هَزمَ الموت، بعضنا هَزمَ الإعاقة الجسدية، بعضنا هزمَ إغواءات الشيطان العشرة آلاف، بعضنا هزمَ ضميره وأخلاقه
لكننا لم نهزم النازيين، بعضنا هَزمَ الموت، بعضنا هَزمَ الإعاقة الجسدية، بعضنا هزمَ إغواءات الشيطان العشرة آلاف، بعضنا هزمَ ضميره وأخلاقه بشكل منقطع النظير. أما خديجة فهزمت الربو، هي لم تُشفَ منه، وما كان لها ذلك. لكنها طوّعتْه، هذّبتْه، تحدّتْه. وهزمت اليأس والاستسلام: ستحتفل بالعيد وتُعِد الكعك، سيتعلم أولادها على الرغم من داعش و”حاجز العروبة”، ولن ترتدي النقاب، ولن تبالي “بالخلوة غير الشرعية” التي تجمعها وإياي في عيادتي، وسيظل صوتُها “العورةُ” يُلعلع في كل مناسبة، وليكن ما يكون.
ماذا أحضرتْ لي أيضا؟ أدويةً تفيض عن حاجتها كي أمنحها المحتاجين، زوجَها الذي كان يمقت الأطباء لسبب يمكنني تفهمه تماما، ابنَيْها المراهقَين كي أُسمِعهما كلاما قاسيا وأعالجهما من التهاب اللوزات، وروحَها المرحة وثرثرتهَا التي كانت تجبرني على طردها من غرفة المعاينة رأفةً بنفسي وبالمرضى المنتظرين المكتظين كحبات رمانة عفنة.
ما الذي حل بخديجة؟
أجهل مصيرها، لكنني على يقين ثابت أجوف أنها لم تمت من سبب طبي، ولم تتعافَ من ربوها، ولم تُشفَ من عزيمتها، ولا تزال تُعِدّ الكعك الفلسطيني كل عيد.