بلاد أضيق من الحب

“الله يخليكي إهدي”، تصرخ زينة بكل حرقة قلب وعجز بوجه طفلتها ذات السنتين. الطفلة لا تكف عن البكاء والصراخ، دون أن تفهم ما حل بأمِّها التي تذرع الغرفة جيئةً وذهاباً، وهاتفها الجوال لا يفارق يدها وهي تحاول الاتصال بزوجها إيهاب دون جدوى. تنظر إليَّ بحرقة وهي تردد: “يا ربي دخلك ليش رقمو مقفل”. تعيد المحاولة المرة تلو الأخرى علَّها تنجح، لكنها لا تلبث تزداد قلقاً وتوتراً ويزداد صراخ ابنتها التي استشعرت قلق أمها ولم تعد تهدأ. أحمِلُ الطفلة وأخرج بها قليلاً، وتسرح ذاكرتي في تفاصيل حياة زينة وتخبطاتها، يا إلهي يالحظها العاثر.
القلق عينه واجهته زينة قبل أربع سنوات حين تقدم إيهاب لخطبتها من أهلها، إذ عارضوا حينها زواجها منه بسبب ضيق وضعه المادي على حد تعبيرهم. لكن زينة لم تستسلم لردِّهم وظلَّت تحاول بشتى الطرق لإقناعهم، سواء بالحديث معهم أو مع عمها كي يقنعهم.
لم يفارق الخوف والقلق زينة طيلة أسابيع من المحاولات لإقناع أهلها، وهي ترى مستقبلها مع من تحب يبتعد من أمام ناظريها. لم تشعر بمثل ذاك الضيق من قبل يجثم فوق صدرها، وكأن “ضيق وضعه المادي” حسب تعبير أهلها بات يلف صدرها.
تراجعت صحتها لاحقاً، وشحب وجهها المفعم بالحب وباتت تغدو كغصنٍ ذابل في زاوية البيت، دون أن تتراجع عن إصرارها على الزواج من إيهاب، الأمر الذي سيرضخ له أهلها أخيراً رأفةً بحالها وخضوعاً لتصميمها، ولإلحاحي المستمر كوني صديقتها المقربة وجارتها أيضاً.
“وأخيراً رح نصير مع بعض” تقول زينة لإيهاب لتخبره عن موافقة أهلها وهي تقفز من فرحتها فجأة كأرضٍ تفجَّرت ينابيعها بعد جفاف سنين.
لم يشعرا بثقل العرس وتكاليفه لشدة فرحتهما بالنصر أخيراً بالسكن مع بعضهما، رغم ضيق حالة إيهاب المادية ستمر تلك التفاصيل تحت غلاف الحب ورغبة اللقاء، وكأنها حجارة تتدحرج تحت أقدامهما في طريق الصعود إلى جبل الأحلام.
ستحاول زينة تدبُّر أمور المنزل بأقل الموجودات والتكاليف لتخفي عن أهلها ظروفها المعيشية الصعبة، إذ لم تكن على استعداد لسماع العتب على ما قررت وأصرت عليه، فلا يهمها اليوم سوى أنها تشعر بالراحة والسكينة معه وإن كانت ظروفهم تثقل تلك الراحة من حين لآخر.
بعد قرابة السنة من زواجهما سيُثمر حبهما عن طفلة، يسمونها حنين وتبدأ رحلة جديدة من تأمين متطلبات الحياة للطفلة وحاجياتها، ويزداد ثقل الحياة أكثر فأكثر خاصة مع ازدياد ضيق الوضع في البلاد عامةً. فالطفلة لا يمكن إغفال تدفئتها شتاءً ولا يمكن تأجيل متطلباتها اليومية من طعامٍ ولباسٍ وأدوية.
“الحياة ما بترحم، وبدها تضحية” يقول إيهاب الذي بدأ بالتفكير في السفر إلى لبنان بحثاً عن عملٍ أفضل، فعمله في مهنة التمديدات الكهربائية في قريته (الكفر) لم يعد يكفي لسد حاجياتهم. لم توافقه زينة على اقتراحه في البداية فلم يكن بمقدورها تحمل العيش وحيدة بدونه.
“وين بدك تروح وتتركني لحالي بين هالحيطان” تقول زينة لإيهاب رافضةً مغادرته وهي تنظر إلي علني أساعدها بإقناع إيهاب دون أن أجيب وأنا المقتنعة بطرحه، لكن الأيام ستتكفل بتهدئتها وإقناعها بضرورة سفره وعمله في الخارج بعد أن ضاقت به السبل داخل البلاد.
“وجودي هون ما رح يعطيكن دفا، بس إذا بسافر بقدر دفيكن” يقول إيهاب لزينة كي يبرر دوافع سفره وضرورته، شارحاً لها أنه مهما كان لهم قدرة على تحمل الظروف السيئة والاحتيال عليها لا بد من مجاراتها والخضوع لما تفرضه، فهذه البلاد لطالما نبذت أبناءها للسفر خارجاً حتى بات المغتربون عماد اقتصادها وأهم مصدر دخلٍ في المحافظة التي لم تنشئ السلطة فيها أية معامل أو مصانع تنهض بها، ولم تستثمر في زراعتها وأراضيها، بل حاربت فلاحيها وتسببت في هجرتهم لأراضيهم إلى ضواحي العاصمة أو أبعد من ذلك إلى خارج البلاد كافة. تلك السلطة التي تركت إيهاب مذهولاً كغيره من الرجال أمام حيرة الجملة التي قالها: “وجودي هون ما رح يعطيكن دفا”. مذهولاً أمام عجزه عن تدفئة طفلته الرضيعة وهو أمامها، متسائلاً بداخله “يا إلهي كيف استطاعوا إيصالنا إلى ذلك الحد من العجز”.
سيصل إيهاب إلى لبنان ليسكن مع أحد أقربائه هناك بالإضافة إلى آخرين حالهم مثله جاؤوا لسد رمق عيشهم وإطعام أطفالهم أو أهاليهم.
يتابع إيهاب تغيرات نمو ابنته وحركاتها الجديدة عبر اتصال الفيديو على الإنترنت، وتخبره زينة بكل جديدٍ عنها وعن الطفلة، يرسل إيهاب قبلاته لهما ويقترب من شاشة جواله ليُقبِّل ابنته التي تظهر على شاشة الجوال فيطِنُّ الجوال بسبب لمسه له، يضحك إيهاب من حركته، ويقول بينه وبين نفسه: “يا إلهي متى أستطيع لقائهما وتقبيلهما بكل حرارة، أتلمَّس جسديهما وأشعر بنبضهما وأنفاسهما دون أن يعتقد هذا الجهاز (الذكي) أنني أقلِّب بين تطبيقاته”.
لم يحتمل إيهاب الصبر كثيراً على تلك الحالة، عمله استنزف صبره، واتصالاته لم تكن تزيده إلا حرقةً واهتياجاً، فقرر أن يفعل المستحيل للنزول صيفاً إلى بيته ورؤية زوجته وابنته حالما يجمع مبلغاً يكفي لتكاليف إجازته.
يأتي الصيف ويأتي موعد إجازة إيهاب التي لن تتجاوز العشرة أيام يأتي ضمنها عيد الأضحى، يجتاز الحدود اللبنانية لتجتاز لهفته للقاء حداً جديداً وكأنه سيراهما للمرة الأولى في حياته.
يصل إيهاب إلى الحدود السورية، يناديه الشرطي ليذهب معه فيمضي إيهاب مأخوذاً بلهفته، ليقولون له وبكل برودة أعصاب وحيادية عن أية مشاعر إنسانية: “إنت مطلوب احتياط”
مجرد جملة من ثلاث كلمات كان لها وقع الصاعقة فوق رأسه وقلبه، تركته مكبلاً لا يدرك ما عليه فعله، بل لم يعد يدرك كيف يتنفس أو يتكلم، يضع يده في جيبه ليخرج الهاتف دون وعي منه لحركاته ثم يعيده لينظر باتجاه السيارة التي أقلته، يهتاج بحركات لا إرادية كعصفور وقع في شباك الصيد. يتسمَّر في مكانه مثقلاً بتلك الجملة أكثر مما تثقله القيود التي وضعوها حول يديه وكأنه مجرمٌ له باعٌ طويل في قتل الأبرياء وتشريدهم. يستسلم إيهاب لمصيره إذ لا مجال للتهرب من ذلك المصير، فقوة القيد هنا أعتى من كل ما عرفت البشرية، وذلك القيد فوق يديه ليس أكثر من اختصارٍ وتجلٍ للقيد الذي يلف البلاد، وهوعينه القيد الذي دفعه للسفر.
كان إيهاب قد أخفى عن زوجته خبر نزوله إلى البلاد كي يفاجئها بقدومه، لكن البلاد التي طالما فاجأت أبناءها بقيودها وضيقها، أبت إلا أن تظهر له أنها أضيق من أن تبصر عبرها ما تريد مهما كان طموحك متواضعاً. ستعرف زينة ما حصل من رفاقه في لبنان، حيث كانوا يعلمون أنه اقتيد إلى الاحتياط، بعد أن صدرت قوائم جديدة ضمت اسمه بين سطورها.
بعد عدة أيام يتمكن إيهاب من الحديث من قطعته العسكرية مع زينة، بعد أن سمحوا له باستعادة هاتفه الجوال، سيبرد قلبها قليلاً وتنفجر دموعها من جديد بعد سماع صوته، يُهدئها إيهاب ويطمئنها بأنه سيفعل ما بوسعه لرؤيتها قريباً، وبأنه بات بإمكانهما الآن الاتصال ليطمئنا على بعضهما البعض.
لم تكف الطفلة عن البكاء والصراخ دون أن تفهم ما حل بأمها التي تذرع الغرفة جيئةً وذهاباً، وهاتفها الجوال لا يفارق يدها وهي تحاول الاتصال بزوجها دون جدوى، تنظر إليَّ بحرقة وهي تردد: “يا ربي دخلك ليش رقمو مقفل”. تعود وتسأل نفسها دون أن تلقى جواباً، بعد أن خرج رقمه عن الخدمة منذ الأمس على غير عادته.
هي محرقة الحرب إذن، تدور وتدور لتحصد أبناءها كالطحين، تنثرهم بين غياهب المجهول، تفتق عُرى عائلات بأكملها وترمي بمن بقي من أفرادها هائمين على وجوههم، محرومين من مجرد العيش في كنف أسرة مكتملة القوام تنعم بأقل قدرٍ من الاستقرار النفسي.
لا تزال زينة تذرف دموعها كلما تذكَّرت إيهاب دون جدوى محاولات تهدئتي لها، تلك الدموع التي لم تعد تفارقها مُذ فارقها إيهاب منذ ثلاث سنوات، وهي تحمل ثقل تدبير أمورها وأمور طفلتها بعيداً عن مساندة إيهاب الذي غادرها هذه المرة إلى الأبد.
تلك الدموع التي تشبه دموع سعدالله ونوس حين تحدث في وثائقيٍّ عن بلاده التي يقلقه مصيرها الجاثم أمام ناظريه، تلك البلاد التي رآها قبلنا ورأيتها مجدداً مع إيهاب وزينة رغم مضي السنين، بأنها “بلاد أضيق من الحب”.