ليس كمثله وداع..

منذ المكالمة الأولى التي أخبر فيها محمد أمه أنه عائد إلى سوريا، طالباً منها الرِضا والدعاء، تشكّل لدى أم محمد خوف ورهبة من مكالمة قد تأتي في أي لحظة، لا تسمع فيها صوت ابنها، ولا تُسمعه دعواتها التي كانت تصل إلى مسامع من حوله أحياناً عندما كان يتحدث معها عبر الهاتف، فالنار مشتعلة لا يُخمدها إلا صوت محمد.
كان ثائراً، صوته مطرقة تدق على رؤوس الظالمين فتطرب جُموع الثائرين حوله، مكافحاً بحجارة تنطلق كأنها قنابل من مدفع، يلفُّ على رقبته رمز هويته، لم يجرِّب النضال في بلده فلسطين، لكنه أضاف النضال إلى هويته في سوريا، فكان الفلسطيني السوري المناضل.
اضطر “محمد المصري”، إلى اللجوء مع عائلته إلى الأردن أواخر العام 2011 بعد إصابة شقيقه الأصغر برصاص قناصة النظام في مخيم درعا للاجئين الفلسطينيين، حيث كان المعيل الوحيد لعائلته بعد وفاة والده، بعد أشهر فاجأ محمد أمه بعودته إلى سوريا، هادفاً بذلك استئناف نضاله الذي بدأه بهتافات مطالبة بإسقاط النظام.
في هذه الأثناء كان النظام السوري يحشد قواته لاقتحام مخيم درعا، و حيّ طريق السد المجاور بعد أن تصاعدت وتيرة الاشتباكات في المنطقة، فما كان من محمد إلا أن اشترى قطعة من السلاح والقليل من الذخيرة، رافضاً الانضمام لأي مجموعة مقاتلة، فهو يميل دائماً للاستقلالية.
تمرّ الأيام وتزداد فيها لقاءاتي مع محمد، حتى أصبحت شبه يومية، مع مجموعة من الأصدقاء في المخيم لتنسيق العمل الإعلامي في حالة الطوارئ، كانت أيام انتظار، فهناك شيء ينتظرنا لا نعلمه، نترقب مع ساعات الصباح الأولى في كل يوم ما قد يحدث، نحاول الحصول على أي معلومة لمعرفة ما يخططه النظام للمنطقة، لكن دون جدوى.
في الشهر السابع من العام 2012، أرسل النظام بقوة عسكرية لتأمين انسحاب حاجز المخفر الذي كان يقع في منطقة سكنية بين المخيم وحي طريق السد، لتكون بذلك المنطقة خالية من قواته للبدء في حملة القصف ومن ثم الاقتحام، فما كان من فصائل الجيش الحر إلا مهاجمة القوة العسكرية والحاجز معاً، وانضم إلى القتال حينها محمد لأول مرة، بدأ نضاله بصوته ثم بالحجارة والآن بالسلاح، كأنه يمثل القصة الفلسطينية.
يندفع مع آخرين بسرعة إلى البوابة الرئيسية للمخفر، أشاهده عبر شاشة الكاميرا من البناء المقابل للحاجز كيف كان متحمساً فرِحاً لتمكّنه من الوصول إلى البوابة، يصيح لرفاقه للتقدم والدخول معه، نزلت من المبنى في طريقي إلى مبنى المخفر، يختفي محمد عن أنظاري لدقائق، يصل إلى مسامعي صوت أحدهم يقول: “شيلوه شيلوه بسرعة”، أرى ثلاثة أشخاص يخرجون من المبنى يحملون شخصاً يلبس ثياباً كثياب محمد، تفاصيل جسده توحي بأنه محمد، وعندما نظرت إلى وجهه أيقنت أنه محمد.
أُصيب بطلقة في الرأس من أحد جنود النظام داخل مبنى الحاجز، عندما نظرت إليه كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، ذهبت معه وصديق آخر إلى المشفى الميداني، ومع وصولنا إلى المكان كان قد فارق الحياة، حتى الآن كان كل شيء طبيعي، يتجمع البعض حوله بهدوء، فما زال بعض رفاقه لا يعرفون ماذا حدث، والأهم من ذلك أن من ينتظر اتصاله أيضاً لا يعرف ماذا حدث، جاء اليوم الذي كانت تخشاه أم محمد، واقترب الاتصال الذي لن تسمع فيه صوت ابنها.
انضم محمد إلى ثمانية آخرين قُتلوا يومها في الهجوم الذي انتهى بالسيطرة على الحاجز، ومع حلول المساء تقرّر تأجيل دفنهم إلى اليوم التالي لكثافة قصف النظام واستهداف الطرق المؤدية إلى المقبرة الرئيسية في منطقة درعا البلد، ليلة لا تشبه سابقاتها، كان عنوانها في مخيّلتي “كيف سوف نُخبر أم محمد بموت ابنها”، تبرّع أحد الأصدقاء واسمه “عبد الرحمن” بإخبارها عبر هاتف محمد، كان صوته مرتجفاً لا يعرف ماذا يقول لها، لكنه لم يكن يريدها أن تقرأ اسم ابنها بين أسماء الشهداء على الإنترنت، فاتصل بها وحصل ما كانت تخشاه، لم تسمع صوته، كان صوتاً آخر يملأه الحزن، كان يناديها يا أمي ظناً منه أنه يخفّف عنها، لكن هذه الكلمة كانت تزيدها حرقةً، لأنها كانت يجب أن تخرج من ابنها الذي غاب عنها، فأخبرها بما هو أشدُّ عليها من سكرات الموت، لكنها لم تودعه.
مع فجر اليوم التالي كنّا على موعد مع حملة عسكرية بدأت بمحاصرة المخيم وطريق السد وتقطيع الأوصال مع المناطق الأخرى، بدأت دبابات النظام بالتوافد إلى أطراف المنطقة، صوت هديرها يصل إلى مسامعنا، الجميع بدأ بالاستعداد للمواجهة وكلٌ انشغل في مهامه، لكن هناك أمراً لم ينتهي بعد، لم تُدفن الجثث، والطريق الذي يصل إلى المقبرة تم قطعه، ولا بوادر على حسم الوضع العسكري خلال ساعات، فتقرر دفنهم في حديقة المخيم التي تحولت فيما بعد إلى مقبرة رئيسية للمخيم.
مع ساعات الظهيرة والشمس عامودية، اشتدت المواجهات بين الطرفين والقصف بالمدفعية والصواريخ، كانت قوات النظام تحاول الوصول إلى المشفى الميداني الذي تتواجد فيه الجثث التسعة، فكان يجب نقلها إلى الحديقة التي كان يُحفر فيها لدفنهم، ذهبت حينها ضمن مجموعة من سكان المخيم لنقل الجثث بسيارة أحد المسعفين، كانت قوات النظام تبعد حوالي 300 متر فقط عن المكان، حتى الطريق أثناء خروجنا كان مستهدفاً بعد تقدمهم إلى أحد المباني المجاورة، الجثث معنا في الخلف، ومحمد أيضاً معنا.
كانت لحظات أستطيع وصفها بالأهوال، الناس كانت قد نزحت عن المخيم، لا يوجد أحد حتى لحمل الجثث، كنّا ستة أشخاص فقط، لا شيء سوى صوت الرصاص والمدافع، لا تزال صورة ألعاب الأطفال في حديقة المخيم وهي خاوية، مطبوعة في عقلي، والجثث بجانبها نستعد لدفنها، لكن نحتاج لمساعدة، فذهب أحد الأشخاص وجاء بمجموعة آخرين، أنزلنا الجثث إلى حفرة كبيرة، تتسع لـ 11 جثة، فاقترح أحدهم بأن لا يتم إغلاقها حتى المساء، فإذا مات أحد ما يتم دفنه فيها، كانت هذه العبارة بمثابة تنبيه لكل شخص حاضر بأنه قد يكون هو من سوف يملأ الفراغ المتبقي في الحفرة، لا ندري فهي مهمة القدر.
بعد إنزال الجثث، أخرج عبد الرحمن هاتفاً من جيبه، وبدا منشغلاً وكأنه يحاول الاتصال بأحد، أخذت أراقبه لما أثار ذلك استغرابي، فهو فوق جثة صديقه محمد ويعبث بالهاتف، فجأة يتكلم بالهاتف ودموعه تسبق كلماته، قال جملة سمعها كل من في المقبرة:
“خذي يا أمي احكي مع محمد، محمد شهيد، محمد شهيد”
ووضع الهاتف على أُذن محمد، هذه اللحظة تستغرق ساعات للتفكير بها، كيف تُكلّمه أمه وهو ميت؟، ماذا تقول له؟، ماذا تهمس في أذنه في وداعه؟، لا أحد يسمع ماذا يدور بينهم، فقط محمد وأمه، يسمعها لكن لا يجيب، يُخيّم السكون في المكان احتراماً لهذه اللحظة، لم نعد نسمع أصوات القصف والاشتباكات، حتى صوت حفيف الأشجار في الحديقة توقف، وكأن كل شيء يريد أن يعرف ماذا تقول الأم لابنها المُمدّد في قبره، الجميع في صدمة، لم أرى مثل هذا المشهد من قبل ولا حتى من بعد، لم أتوقع يوماً أن أرى مثل هذا الوداع، إنها الحدود يا أمي، عندما تقف عائقاً بين الروح والجسد.
مع ولادة الأم لطفلها تبدأ مخيّلتها برسم المشاهد التي تتمنى أن ترى فيها فلذة كبدها، فتتخيله وهو يخطو أولى خطواته ثم أثناء دخوله إلى المدرسة وتخرجه من الجامعة، إلى أن تراه في زفافه وهي تقف بجانبه تودّعه ليدخل إلى منزله الجديد، لكنها حتماً لن تتخيل كيف سوف تودعه إلى قبره.
بعد الوداع الأخير، نضع ألواح حديدية فوق القبور، لكن ما زال لدينا متسع لشخصين حتى المساء، قبل تغطيتها بالتراب، نفترق ويذهب كل شخص إلى مهامه، نصطحب معنا لحظات ترسَّخت في عقول من بقي على قيد الحياة حتى الآن، لا زالت ترسم على وجوهنا ملامح الحيرة والصدمة.
ثلاث ساعات بعد ذهابنا كانت كفيلة بأن تضع أحدنا في الحفرة ذاتها، إنه عبد الرحمن، يُجاور صديقه محمد في قبره، قُتل برصاص قناصة تسلّلوا إلى سطح أحد المنازل في المخيم عندما كان يقود سيارته في الشارع الرئيسي، كان أشد من حزن وتألم على فُراق محمد، حتى أنه تمنى الموت كي لا يفارقه في قبره، قالها عندما كان يودّع محمد ولا يزال صداها يتردّد في مسامعي حتى الآن:
“جاييك يا محمد والله جاييك”.