وُلِدت من جديد

الرابع من أيلول من عام 2015، كان يوماً تاريخياً وكارثياً على محافظة السويداء، يوماً أضحت فيه الحياة في المدينة أشبه بحالة هستيرية، وكما يقول (قسطنطين جيورجيو) في روايته الساعة الخامسة والعشرون: “هي اللحظة التي تكون فيها كل محاولة للإنقاذ عديمة الجدوى، بل إن قيام المسيح نفسه لن يجدي فتيلا، إنها ليست الساعة الأخيرة بل هي ساعة ما بعد الساعة الأخيرة”.
نعم كانت السويداء تشهد ساعة ما بعد الساعة الأخيرة، الساعة التي كانت خارج الزمن وخارج الحياة نفسها.
عندما التقيته كانت الدموع تسبق كلماته، وهو يتذكر ذلك اليوم المشؤوم، قال لي: هل سمعتِ بقصة العائد من الموت؟ أجبته مستغربة، وكيف ذلك؟
لحظة صمت طويلة بددتها كلماته التي بدأت تنساب من فمه بكل ألم…
سمعت دوي انفجار قويٍ يهز كيان المدينة وكأنها شهدت زلزالاً مدمراً أتى على البشر والحجر، النوافذ والأبواب تحسبها آيلة للسقوط من عمق الصوت الذي لا يمكن تقديره جراء ذلك الانفجار.
في البداية لم أستوعب أو أفهم شيئاً، هرعت الى السطح لأرى مصدر الصوت، وإذ بدخانٍ أسود شرقي المدينة، باتجاه منطقة ظهر الجبل. وردني اتصال هاتفي يقول: “موكب الشيخ وحيد البلعوس تعرض لتفجير ومصيره مجهول، ويقولون إنه نُقِل إلى المشفى”.
لا أعرف حينها كيف ارتديت ملابسي وماذا ارتديت، وكيف وصلت بغضون دقائق للمشفى الوطني، دخلت ساحة المشفى، لأرى وجوهاً أعرف معظمها من رجال الكرامة، وحالة الغضب بادية على وجوههم، فتوجهت لمجموعة كانت تقف بالقرب من مبنى الاسعاف، أعرفهم سابقاً، وفي طريقي إليهم يعلو صوت شابٍ يقول: “جماعة الأمن العسكري يلي فجروا الموكب”، فوصلت لمجموعة الشباب وأنا مذهول مما حدث، ولا أعرف شيئاً حتى الآن. سألتهم عن الأمر؟!
توقفت عن التصوير وجلست مذهولاً أفكر بعدد الضحايا، فهذه المرة الأولى التي أكون فيها في قلب الحدث، طوال سنوات الحرب أسمع وأقرأ عن التفجيرات وقصف الطائرات، والسيارات المفخخة، وغيرها، ولكن أن أكون ضمن التفجير يعني أن الموت قد جاءني، والقَدَر فقط وحده الذي نجّاني.
فقالوا بأن سيارة بيك آب مفخخة كانت تقف جانب الطريق عند (طلعة عين المرج) وهي التي تفجرت عندما أصبحت سيارة الشيخ وحيد البلعوس بالقرب منها، فسألتهم عن الشيخ، فأجابوا بأنهم لا يعرفون وضعه حتى الآن، نقلوه مباشرة إلى العناية المشددة. لم استوعب شيئاً مما قالوه، حالة الرعب والذعر سيطرت عليّ.
فجأة وبعد دقائق قليلة، يهز المكان دوي انفجارات متتالية، أي في ساحة المشفى، في هذه اللحظة لم أعرف ماذا يحدث، الدخان الأسود أطبق على المكان، وسمعت عدة انفجارات قوية أرعبتني، أصبحت السماء تمطر أشياء تحرق جسدي، والرؤية معدومة، وصوت الرصاص بعد الانفجارات، قد أفقدني للحظات حاسة السمع لمعرفة ما الذي يجري…
لحظات من الزمن لا أعرف مدتها، حتى خفّ الدخان الأسود، وبِتّ أجاهد كي أستطيع فتح عيني لأرى أين نحن، ولكني لا أسمع غير أصوات الرصاص، وأرى شباباً يحملون البارودة الروسية ويطلقون النار الى السماء كردّة فعلٍ على الانفجارات وحالة الهلع الشديد الذي أصابتهم.
بدأت أتلمس جسدي لأدرك أنني ما زلت حياً، غدت قدماي ثقيلتان على المشي، أجر جسدي كي أستطيع الوصول إلى أي أحد ليخبرني ما الذي حدث، وأسمع أصوات تقول، بأن سيارة مفخخة كانت موضوعة أمام المشفى الوطني، وقد تم تفجيرها بالتزامن مع وصول الجرحى من تفجير موكب الشيخ البلعوس، كان الهدف منها القضاء على العدد الأكبر من رجال الكرامة.
جلست أمام مبنى الاسعاف، ولا أزال تحت الصدمة من هول ما حدث، فكانت تفصلني بضع أمتار عن التفجير، ولولا سور المشفى، لكنت مع الأشلاء التي يتم حملها بالبطانيات من خارج وداخل المشفى..
نعم هي أشلاء حقيقية، لجثث محترقة تمر من أمامي، هي المرة الأولى التي أشاهد فيها هذه المجازر، فهل أنا أحلم؟!
أسمعتِ يوماً أنين ميت؟ نعم أنا سمعته، عندما أفرغت الأرض من هوائها، كان لا وجود لأي صوت، ولا صوت نفس، ولا نبض قلب، كأن صوت الضمير نفسه قد توقف، عندها سمعت أنينه وشهقاته المخنوقة، كان الصوت واضحاً لدي، أحسست بأن رأسي سينفجر، أصوات وأفكار، أريد أن أصرخ.
راودتني فكرة الموت والحياة في هذه اللحظات القصيرة، كم هو مجرم وسفاح الذي وضع السيارة المفخخة أمام المشفى، وأتساءل هل يمكن أن يكون هذا العمل من صنع البشر؟
دقائق حتى صحوت من الدهشة والرعب، وتوجهت أبحث عن الأشخاص الذين كنت أقف معهم، فهل هم أحياء؟
وجدتهم وحالة الرعب واضحة عليهم، ويصرخون بأعالي أصواتهم، فلتخرج كل المجموعات من محيط المشفى، وليتوجهوا الى أحد البيوت خوفاً من تفجيرات جديدة، وعليه خرج معظمهم، ولم أعرف وجهتهم..
بقيت واقفاً مصدوماً من هول ما حدث، وأشاهد الأشلاء يتم حملها بالبطانيات لداخل الاسعاف، فراودتني فكرة التصوير، فتحت هاتفي المحمول، وقمت بتصوير عدة صور، وبتّ أسأل نفسي لماذا أصوّر، ومن أصوّر؟!
أحد الممرضين الذين كانوا يعملون في الإسعاف، كان منزله مقابل مدخل المشفى، فوجئ بأشلاء زوجته وابنه من بين ضحايا التفجير الثاني الذي وقع أمام المشفى، رأيته يبكي ويصرخ، فلم يتوقع يوماً أن يراهم في هذا المشهد، لم أعرف كيف أواسيه أو أخفف عنه مصيبته، كان الجميع في لحظتها لديهم مصائبهم، لا أحد يستطيع أن يواسي الآخر أو يخفف عنه أو يقف بجانبه، كان الموت وحده هو من يقف بجانبهم.
توقفت عن التصوير وجلست مذهولاً أفكر بعدد الضحايا، فهذه المرة الأولى التي أكون فيها في قلب الحدث، طوال سنوات الحرب أسمع وأقرأ عن التفجيرات وقصف الطائرات، والسيارات المفخخة، وغيرها، ولكن أن أكون ضمن التفجير يعني أن الموت قد جاءني، والقَدَر فقط وحده الذي نجّاني.
شعوري في هذه اللحظة، هو شعور الناجي من الموت، شعور من كُتِبت له حياة جديدة، بين الحياة والموت كانت شعرة واحدة فاصلة فقط، أن نولد من جديد، فهل هذا ممكن؟!
بتُّ أتجول بساحة المشفى، فحالة الفوضى كانت تُقلق الجميع، والضحايا من التفجير الأول لم يعد معروفاً مصيرهم، وعدد الضحايا من التفجير الثاني كانوا بالعشرات، وليس معروفاً أيضاً عن مصيرهم شيء، فمنهم من أهالي التفجير الأول، ومنهم من الناس الذين تجمعوا أمام المشفى، وعائلات من أصحاب البيوت المجاورة للمشفى..
أحد الممرضين الذين كانوا يعملون في الإسعاف، كان منزله مقابل مدخل المشفى، فوجئ بأشلاء زوجته وابنه من بين ضحايا التفجير الثاني الذي وقع أمام المشفى، رأيته يبكي ويصرخ، فلم يتوقع يوماً أن يراهم في هذا المشهد، لم أعرف كيف أواسيه أو أخفف عنه مصيبته، كان الجميع في لحظتها لديهم مصائبهم، لا أحد يستطيع أن يواسي الآخر أو يخفف عنه أو يقف بجانبه، كان الموت وحده هو من يقف بجانبهم.
خرجت من المشفى باتجاه منزلي، وفي الطريق كانت عائلات الضحايا تبحث عن مفقوديها، لم أعد أرى شيئاً، وكل محاولاتي حينها هي الوصول للبيت لرؤية عائلتي، التي عرفت بأني في المشفى أثناء الانفجار الثاني، وبتُّ أفكر فيهم بأني كدت أفقدهم.
لكن طريق العودة إلى البيت كان أطول من طريق وصولي الى المشفى.
صورٌ كثيرة لا تزال في ذاكرته عن ذلك اليوم، لا يمكن أن تُمحى، صور تتراكم يومياً عندما يمر بجانب المشفى ويستذكر المشهد وحالة الهستيريا والرعب التي سيطرت على المكان، ومازالت آثارها لغاية هذا اليوم.
ومازال يتساءل حتى هذه اللحظة، هل وُلدت من جديد وعدت إلى الحياة؟