إنـذار الـمـوت

“طلعت…. طلعت…. طلعت.. واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة…… خمسطعش.. (صوت انفجار) خلص نزلت”.
لكن البعض لم يُحالفه الحظ ليلفظ “خلص نزلت”، فكانت هذه الثواني هي الأخيرة في حياته، كان يعدّ العد التنازلي للحظة تمزّق جسده، للحظة أن يتحول فيها إلى كتلة ثقيلة لا حراك فيها، خاوية لا روح تسكنها وباهتة لا دماء تسري في عروقها.
وعلى الرغم من تحول الإنسان في سورية إلى آلة تتحسّس الموت في أي لحظة، وتترقب مصيبة قد يسمع بها أو يراها أو يشعر بها إن تركت له شيئاً من الإدراك والإحساس، إلا أنه بقي متماسكاً، مقاوماً ومتفائلاً حتى في تلك الثواني التي ينتظر فيها أن يموت أو لا يموت.
أن تكون من سكان أحد أحياء مدينة “درعا”، فيجب أن تكون حذِراً سريعاً وسمعك قوي، وألا تتفاجأ عندما ترى أشخاصاً يختفون من أحد الشوارع المزدحمة خلال 15 ثانية، وإن رأيت سكاناً يركضون فلزاماً عليك أن تتبع خطواتهم، كما يجب عليك أن تستخدم أذن واحدة في عملك، أما الثانية فصوّبها نحو مصدر ذلك الصوت دائماً، ولا تحاول أن تكون بهلوانياً تبتسم وتتظاهر أنك غير مهتم، وتذكّر دائماً أن “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”.
لأكثر من عام عاشت مدينة “درعا” في رحم الثواني، في الصباح وفي المساء، بعد الغداء وقبل العشاء، أثناء القيلولة ومع قهوة المساء، يصدر ذلك الصوت الذي ينقلك خلال لحظة واحدة من الحياة الطبيعية إلى مضمار تُسابق فيه الوقت للحصول على نتيجة محدودة الخيارات، فإما أن تنفيك من الوجود أو أن تبقى في منحة مؤقتة حتى تدخل في سباقٍ جديد، وتعرف النتيجة عند سماعك للصوت الثاني لتظهر كالمنتصر، في الوقت الذي حصل فيه أحد ما على النتيجة الأخرى، فأصبح من الماضي.
ليس صدفة أن يقصف النظام السوري أحياء مدينة “درعا” من قلب المدينة، كان قادراً أن يجعل موت سكانها خاطفاً لا مقدمات أو تنبيهات له بالقصف من خارجها، لكنه وكما أثبت لنا براعته في اختيار أشكال الموت والتعذيب، اختار أن يُسمع السكان صوت ضجيج موتهم، يمنحهم ثواني معدودة للحياة، تتجدد مع كل قذيفة تخرج من مدافع قواته المتمركزة في حديقة “حميدة الطاهر”، أيضاً ليس صدفة أن يختار هذه الحديقة.
المجتمع الدولي لن يصمت على استخدام مثل هذه الأسلحة، لا أستغرب من هذا التفكير لأننا كنا في البداية، إنه العام 2012. أما أنا فقد كنت استذكر خبراً سمعته سابقاً قبل بداية الثورة في نشرات الأخبار «مسلحون يستهدفون المنطقة الخضراء وسط “بغداد” بقذائف الهاون»، كانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها بالهاون.
لم تكن “حميدة الطاهر” عنواناً للشجاعة والمقاومة بالنسبة لسكان “درعا”، لم تكن عنواناً للمحبة فضلاً عن أنها لم تكن رمزاً يفتخر به السوريون، هكذا أرادوا لها أولئك الذين خطفوا سيرتها وألصقوها بحزب البعث سابقاً، وخطفوا اسمها وألصقوه على مدافعهم حاضراً، ليرتبط اسمها بالإجرام ولتتوارث الأجيال القادمة أن “حميدة الطاهر” قتلت المئات من سكان درعا.
هم ذاتهم من كانوا يتغنّون بالشهيدة “حميدة الطاهر” التي فجّرت نفسها بموقع اسرائيلي جنوب لبنان عام 1985، جعلوا من اسمها ذكرى سوداء لأهالي “درعا”، بعد أن تحولت الحديقة التي تحمل اسمها إلى ثكنة عسكرية، يتواجد فيها أخطر مجرمي النظام السوري، الذين ارتكبوا عشرات المجازر وعمليات التعذيب بحق المعتقلين الأبرياء، حتى إنهم كانوا يُطلقون على أنفسهم لقب “جماعة حميدة”.
كانت حديقة “حميدة” المصدر الوحيد لقذائف الهاون التي كانت تتساقط على أحياء المدينة طوال العام 2012، ويُسمع صوت إطلاقها من المدافع في معظم أرجاء المدينة، حيث كانت تستغرق حوالي 15 ثانية لسقوطها في أحياء “درعا” البلد والمخيم وطريق السد التي كانت تخضع حينها لسيطرة الفصائل المقاتلة.
بدأت قصة الثواني المعدودة في مطلع العام 2012، في إحدى الليالي التي قطع سكونها صوت لم نعتد عليه من قبل، حتى في الحملات العسكرية على المدينة، الساعة التاسعة ليلاً، أجلس مع عائلتي على التلفاز لمتابعة آخر الأخبار، نسمع صوت انفجار أول ثم الثاني ثم الثالث بفارق بسيط من الزمن، خلال لحظات نطفئ الإنارة ونخرج من الغرفة التي تُطل على الشارع، أقرر الخروج لمعرفة ما يجري، أحمل حقيبة اللابتوب والكاميرا، يُقابلني والدي بكيس أسود لأضع الحقيبة فيه، خشية أن ألفت انتباه أحد من المتعاونين مع النظام، حينها كان العمل سرياً ولا بدّ من الحذر، وعلى الرغم من استغرابي وعدم قبولي لأضع حقيبتي بالكيس، إلا أنني مضطر.
عبرت حينها إلى حي المخيم حيث كان المشفى الميداني الوحيد في مدينة “درعا”، التقيت بعض الأصدقاء والناشطين فيه وكانت الحيرة تسيطر على وجوهنا، ولم يكن أحد يعلم ما يجري، حتى الآن وبعد مرور حوالي 25 دقيقة من صوت الانفجار الأول، كان الهدوء المخيف يسيطر على المخيم، لأن صوت الانفجارات كانت من جهة منطقة “درعا” البلد المجاورة، دقائق معدودة ونسمع صوت هدير سيارات مسرعة وضجة كبيرة تقطع سكون الحي، توجهنا إلى المشفى الميداني وإذ بعدد ليس بقليل من الشهداء والجرحى قد وصلوا منها، وعليهم آثار شظايا تسببت بجروح كبيرة وأخرى صغيرة.
تأكدنا بعد ذلك أن صوت الانفجارات كان لقذائف الهاون التي تم استخدامها في تلك الليلة للمرة الأولى، وتبيّن لاحقاً أن الصوت الخفيف الذي كان يصدر قبل الانفجار هو لحظة خروج القذيفة من المدفع. أثار منظر الشظايا في أجساد الضحايا استهجان كل من رآهم، أحد الجرحى كانت تغطي جسده عشرات الثقوب، حتى هو كان مندهشاً من منظر الدماء التي تخرج من جميع أجزاء جسده، كأنها ينابيع تتفجر، خلال دقيقتين غاب عن وعيه، وخلال دقائق غاب عن الحياة، كان أحد أفراد عائلة “الدلوع” التي قضت كلها بسبب القصف بقذائف الهاون، يُضاف إليهم عشرات الشهداء والجرحى في تلك الليلة التي لم تنم فيها درعا، ولم نكن نعلم أنها بداية قصة الثواني.
على الرغم من خطورة الموقف، واستمرار تساقط القذائف، كان المشهد الأبرز لأولئك الشبّان الذين تطوعوا لنقل المصابين والشهداء إلى المشفى الميداني، يركضون باتجاه كل منزل يتعرض للقصف لتفقّد من بداخله، وعند سماع صوت إطلاق القذيفة يصيحون لبعضهم “طلعت.. طلعت”، ليسابقوا الزمن في الاختباء تحت سقف وخلف جدار
ثلاثة أيام أو أربعة من الهدوء، كان الشغل الشاغل خلالها لأهالي المدينة تفقّد مكان القصف، وتحليل القذائف وجمع المعلومات عن “الهاون”، واختار آخرون البحث في أسباب استخدامها ضد أحياء المدينة، في حين انشغل البعض في توقّع ما سيكون لذلك من ردود فعل عربية ودولية تُحدد المدة المتبقية لنظام الأسد، وأن المجتمع الدولي لن يصمت على استخدام مثل هذه الأسلحة، لا أستغرب من هذا التفكير لأننا كنا في البداية، إنه العام 2012. أما أنا فقد كنت استذكر خبراً سمعته سابقاً قبل بداية الثورة في نشرات الأخبار «مسلحون يستهدفون المنطقة الخضراء وسط “بغداد” بقذائف الهاون»، كانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها بالهاون.
بعد أيام الهدوء.. ليلة أخرى تعرّفت فيها كباقي السكان، على قذائف الهاون، كان الأبلغ تسميتها بقذائف الجحيم، هذه المرة كانت مع حلول المساء، أجواء من اللاطمأنينة يرافقها حذر ممزوج بالخوف وهي حالة أشبه بالموت مع القليل من الحياة، وفجأة يخرج ذلك الصوت البعيد، ليس بغريب، لقد سمعته من قبل، لكن الغريب والجديد هو صوت مرور القذيفة من فوقنا لتُكمل طريقها إلى صاحب النصيب، إنها الإشارة لليلة لم نكن نعلم أنها تُخبّئ الكثير من المآسي وكمّاً كبيراً من الصراخ الذي يدفع إليه القهر.
هذه المرة كان الهدف مخيم “درعا” وحي “طريق السد” المجاور، خلال دقائق كانت الشوارع خالية، الجميع في المنازل، في تلك الليلة بدأت بعض الأمور تتوضح حول قذائف الهاون، مثلاً أنها تثقب الجدران وتسقط في الأزقة الضيقة وفي حدائق المنازل، كما أنه ينتج عنها عدداً كبيراً من الشظايا التي يمكن أن تصيب الأشخاص على بعد أمتار، وأبرز ما تم معرفته في ذلك الوقت أنها تستغرق 15 ثانية للوصول إلى الهدف من لحظة إطلاقها، فكان الصوت الأول بمثابة إنذار، الجميع يصوّب مسامعه إلى جهة حديقة “حميدة الطاهر” مصدر القذائف، كنّا نعدُّ الثواني على أصابعنا خشية أن نقع في خطأ بثانية أو ثانيتين، فيكون الخطأ القاتل.
على الرغم من تحول الإنسان في سورية إلى آلة تتحسّس الموت في أي لحظة، وتترقب مصيبة قد يسمع بها أو يراها أو يشعر بها إن تركت له شيئاً من الإدراك والإحساس، إلا أنه بقي متماسكاً، مقاوماً ومتفائلاً حتى في تلك الثواني التي ينتظر فيها أن يموت أو لا يموت.
وعلى الرغم من خطورة الموقف، واستمرار تساقط القذائف، كان المشهد الأبرز لأولئك الشبّان الذين تطوعوا لنقل المصابين والشهداء إلى المشفى الميداني، يركضون باتجاه كل منزل يتعرض للقصف لتفقّد من بداخله، وعند سماع صوت إطلاق القذيفة يصيحون لبعضهم “طلعت.. طلعت”، ليسابقوا الزمن في الاختباء تحت سقف وخلف جدار، ومع بدء العد التنازلي تتسارع دقات القلب أكثر، وينكمش اللسان وتتعرّق الجباه، يقترب الموت أكثر فأكثر، من التالي؟ إصابة أو موت؟ شلل أو بتر أطراف؟ كن رحيماً أيها القدر.
وبموازاة الشبّان المسعفين، كانت مهمتي مع صديقي “أحمد”، تصوير تفاصيل تلك الليلة بمساعدة بعض سكان المخيم، بكاميرا واحدة وصلت منذ فترة وجيزة، مع كل صوت لانطلاق القذيفة، أضغط على زر التشغيل، لتوثيق لحظة انفجارها، ثم نتوجه مسرعين لمكان سقوطها لمعرفة الأضرار والتحقّق من عدم وجود ضحايا، يمرّ أمامي شريطاً من مشاهد تلك الليلة، الزاوية التي اختبأت فيها مع “أحمد” وكانت تحت درج أحد المنازل.. الرجل المسن الذي كانت قدماه تنبع دماً بسبب الشظايا.. القبو الذي امتلأ بالأطفال والنساء وصيحاتهم.. وأخيراً ذلك الرجل الذي صاح لي لأصور شيئا يحمله بيده في أحد شوارع المخيم، وعندما اقتربت كان دماغ طفل أُصيب بشظية كبيرة برأسه أدت إلى وفاته وتفجّر رأسه، كان حامله ينادي مناشداً الأمة العربية للتحرك من أجل سورية، لقد كان المسعف “حسام الترعاني” الأخ الفلسطيني الذي قُتل فيما بعد برصاص قناصة النظام، وحتى هذا الحين لم يتحرك من كنت تناديهم يا “حسام”!!.
عام كامل مضى كأنه خمس عشرة ثانية، وما بين الثانيتين الأولى والأخيرة قصة حياة أو قصة موت، حتى انقضى ذلك العام وتحولت فيه تلك الثواني إلى لحظة بعد أن تعدّدت مصادر قذائف الجحيم، ليعود الموت خاطفاً عاجلاً دون إنذار.