ذاكرة حدث

على حين غارة

كعادتي أفقت من نومي مذعوراً، فإذا لم يوقظني كابوسٌ مملوء بعناصر النظام يقتحمون بيتي، فسأفيق على صور من فارقتهم حتى وإن نسيت أسماءهم، وفي أحسن الأحوال كان سيهتك سريرتي صوت قذيفة، ليبدأ معها نهارٌ من الهروب من الموت والرقص على خصر الموت الناعم.

عادة لا تغريني كوابيس أول الليل فهي تمضي دون ذكرى، ولكن ما يثير قلقي كل مرة هو كابوس ما قبل الاستيقاظ، فهو يحمل رسالةً واضحةً عما سيكون عليه يومي، فكيف لو كان الحلم عبارة عن فراتٍ مدمى أسبح فيه وملوحته تخنقني بحدة؟

ورغم أنه صباح كأي صباح يمر على الجزء المحرر من “دير الزور”، كأصوات القذائف هنا وهناك، وبعض الاشتباكات المتقطعة، إلا أني أحسست بضيق لا يوصف، حتى وأنا أحتسي كأس الشاي كان يمر علقماً في حلقي، حتى إنني بحثت في المنزل عمن يشاركني تلك الكأس علّي أجد فيه بعض المواساة تكسر سوداويتي غير المسبوقة فلم أجد وعلى غير العادة أيّاً من إخوتي في المنزل، حينها قررت أن أتحرك من المنزل لأتسلى قبل أن يبدأ دوام المدرسة التي تطوعت لإعطاء طلبة الصف الأول فيها اللغة الإنكليزية، ولأهرب من ذاك الشبح الجاثم على قلبي.

كان جدولي مكتظ بالدروس التي أحبها، وكيف لا أحب تواجدي بصف واحد مع 30 طفلاً جل همهم التفرقة بين الحروف، وأنا التائه بين الحق والباطل، والموت والحياة. كيف لا أعشق لحظات أقضيها في هرج الطفولة العبثية وتلك الورود المنتشية بالحياة؟!

بعد جولة طويلة بين المشفى الميداني ومقر المنظمة التي أعمل معها توجهت ظهراً للمدرسة في منطقة العمال المحاذية للجبل المطل على المدينة، والذي منه قامت قوات الأسد بدك المدينة خلال السنوات السابقة يومياً بالهاون وقواعد الصواريخ على أمل كسر شوكتنا دون طائل، ولكنها نادراً ما كانت تتعرض للقصف بسبب قربها منه، لذا كانت تعتبر من أأمن المناطق في القسم المحرر من “الدير” وأكثرها كثافة سكانية. كان جدولي مكتظ بالدروس التي أحبها، وكيف لا أحب تواجدي بصف واحد مع 30 طفلاً جل همهم التفرقة بين الحروف، وأنا التائه بين الحق والباطل، والموت والحياة. كيف لا أعشق لحظات أقضيها في هرج الطفولة العبثية وتلك الورود المنتشية بالحياة؟!

مضت الدروس وأنا اتنقل بين الصفوف وبين الوجوه البريئة، أكتب لها دروساً على السبورة لتكتب هي بابتساماتها دروساً في الحياة على روحي مازلت لليوم أذاكرها كلما احتجت لتعلم معنى الحياة، ولكن قلبي المتشح بالسواد مازال غير مطمئن. ما الذي حدث لي هل أصبحت كأمي أثق بحدسي ثقة عمياء، وهل سأصبح كبقية نساء “الدير” قد ألغي مشواراً لكون الباب لم يفتح معي من أول مرة؟ هل أصبحت عربياً أصيلاً الآن وأصبح التطير جزءاً مني؟ لا لن أستسلم لهذا التطير المزعج، سأنهي دروسي وأكمل حياتي وهذا ما لم يحدث ذاك اليوم، لم أكمل حياتي كما خططت.

بحدود الساعة الخامسة مساءً انتهت آخر حصة درسية لي، وتوجهت مسرعاً كالعادة نحو بيتي، لم ألق التحية على أحد، ودعت طلبتي وكددت بالمشي نحو حيي، وكانت الحارة تعج بالطلبة من كل الأعمار، والآنسات يخرجن طلبتهن بالدور حتى لا يسببوا ازعاجاً للجيران، خلية النحل اليومية تعمل كالساعة ودون أخطاء، خرجت من الزحام مسرعاً، وما إن أنهيت الزقاق حتى سمعت ذاك الصوت المخيف، الصوت الذي أهابه حتى الساعة، صوت إعلان الموت.

هذه المرة لم يكن الصوت بالقوة التي عهدتها، فأنا لم أسمعه، بل رأيته، قصفت الطائرة زقاق المدرسة، اهتزت الأرض تحتي بعنف، والهواء كاد يقتلعني من مكاني، جمدت للحظة من هول ما رأيت، ولكني احتميت بمدخل البناء الذي كنت بجانبه، ليختفي نظري داخل سحابة من الدخان والغبار والذهول.

سمعت صوت طائرة “السوخوي” وهي تهوي، ومن في سورية لا يعرف ذاك الصوت الجهير، الذي خلال جزء من الثانية ينقلك من عالم الراحة، لكون مملوء بالموت والشظايا والأشلاء، صوت يمثل الموت بأبشع صوره. صوت يرفع جاهزية المضادات والمشافي والإعلاميين وكفوف الأمهات التي تدعو بالسلامة للدرجة القصوى، ويتبع صوتها انفجار قوي، ولكن هذه المرة لم يكن الصوت بالقوة التي عهدتها، فأنا لم أسمعه، بل رأيته، قصفت الطائرة زقاق المدرسة، اهتزت الأرض تحتي بعنف، والهواء كاد يقتلعني من مكاني، جمدت للحظة من هول ما رأيت، ولكني احتميت بمدخل البناء الذي كنت بجانبه، ليختفي نظري داخل سحابة من الدخان والغبار والذهول.

ما هي إلا لحظات حتى بدأت استعيد السمع، وأول ما سمعت كان صوت الشظايا وهي ترتطم بالأرض والأبواب، وأسمع معها دقات قلبي التي كادت تشق صدري لشدتها، تلتها أصوات الناس والتكبير الممتزج بالخوف الممتد من القلوب للسماء، لعل فيها دعاء يشق صدر ذلك الطيار المجرم، أو حتى يشق السماء فتبتلعه إلى غير عودة. لا شعورياً بدأت أركض باتجاه المدرسة، غريزتي أخذتني لهناك، هي نفسها غريزة البقاء التي خبأتني في البداية، غريزتي كانت تقودني لمستقبلي ومستقبل الوطن ومستقبل الحرية بعدنا، هؤلاء الأطفال هم بقاؤنا للأبد.

شققت الغبار متجهاً للمدرسة، الناس تركض حولي ومعي ولا تعلم أين تتجه، أما أنا فبوصلتي واضحة، متجهٌ للمدرسة لإعادة الطلبة والآنسات للداخل، بدأت أصرخ:

– عودوا للمدرسة واختبئوا تحت المقاعد.

لم أكن أعلم إن كان يسمعني أحد، ولكني بقيت أصرخ وأصرخ علّي أبدد الموت الذي لف المكان برمته، حتى وصلت لباب المدرسة، لأجد مجموعة من الآنسات بدأن قبلي بإدخال المارة للداخل، وكثر الصوت من حولي لأناس تبحث عن أولادها، ونحيب الأطفال الخائفين يقطع نياط القلب من وقعه.

ما هي إلا لحظات حتى تجمهر عشرات الرجال والنساء، وبدأت المدرسة تفرغ من الطلاب، والكل يركض خوفاً من غارة أخرى تستهدف ذات المنطقة، أما عيني فكانت متعلقة في السماء بحثاً عن أي دليل لغارة أخرى قد تعيدني لنقطة الصفر، وذاكرتي تستذكر كل لحظة مررت فيها، ليقطع الذي فيه بكاء يأتي من شعبة قريبة مني توجهت مباشرة لمصدر الصوت، لأجد طفلاً يكاد نفسه ينقطع من البكاء، والدموع على وجهه ممزوجة بغبار العاصفة التي مرت يجعل من صورته الصورة المثالية التي قد تتقاتل عليها جميع وسائل الإعلام لتتصدر صفحاتها الأولى، تحت عناوين تجلب آلاف المشاهدات والقراءات، وكأن الإنسانية اختزلت بكم الأسى الذي تساقط على خد ذاك الطفل مع دموعه. عاجلته بسؤال سريع لمَّ لم يأت أحد لأخذك؟ أين أبواك؟ لتصعقني السماء عندما قال لي الطفل ليس لدي أبوين وجدتي كبيرة لا تقوى على القدوم.

لا شعورياً حضنت الطفل ورددت في أذنه: «لا تخف يا بني فأنا مثلك ليس لدي أبوان»، وأنفجرت بعدها ببكاء جعل مني صورة مكبرة عنه بكل تفاصيله، الأسى والهم والغبار الذي تشقه الدموع بكل وجع، والصورة التي ستتقاتل عليها وسائل الإعلام. حملت الطفل بين ذراعي وركضت به للخارج، وأخذته لبيت جدته التي كانت واقفة على الباب تترجى الجيران أن يأتوها بصغيرها، وحين وصلت للبيت أخذته من حضني بقوة، وبدأت بالنحيب وهي تردد: أخذت مني الحرب أبويك ولن تأخذك يا ريحة المرحوم يا صغيري.

صحيح أني لم ألحظ غياب مروة، وبأني أجزم بأني لا أتذكر شكلها حتى، ولكني كنت حينها متأكداً من شيء واحد، وهو أن جزء من مستقبلي قد تلاشى ولن يعود للأبد، ليس مستقبلي فحسب، بل مستقبل كل واحد فينا، وكل طفل أخذته الحرب أخذت معه قسماً من مستقبلي ومستقبلك ومستقبل سورية

مرَّ بقية اليوم ثقيلاً مرعباً متخماً بالتفاصيل التي تطاردني كلما هدأت لنفسي أو حاولت النوم، وفي اليوم التالي قررت أن أذهب للمدرسة، لأن الحياة لا تقطعها غارة لطيران أو صاروخ أو حتى الموت ذاته، دخلت الشعبة متفائلاً بيوم أفضل من الذي مرّ، لأجد طلبتي وعلى غير عادتهم صامتين حزانى، أحسست بأن شيئاً قد حدث ولم ألحظه، وحين سألتهم عن سبب صمتهم قامت فتاة في الوسط الشعبة وقالت لي:

– ألم تنتبه يا أستاذ أن مروة ليست هنا؟

حقيقة لم انتبه، أو إن ذاكرتي لم تسعفني بسبب التعب الذي أنا فيه، ولكني كذبت كعادة كل الكبار:

– نعم انتبهت ولكن كنت أريدكم أن تتكلموا. أين هي مروة؟

بصوت واحد وبغوغائية الأطفال المعتادة:

– ماتت البارحة بقصف الطيران يا أستاذ.

صحيح أني لم ألحظ غياب مروة، وبأني أجزم بأني لا أتذكر شكلها حتى، ولكني كنت حينها متأكداً من شيء واحد، وهو أن جزء من مستقبلي قد تلاشى ولن يعود للأبد، ليس مستقبلي فحسب، بل مستقبل كل واحد فينا، وكل طفل أخذته الحرب أخذت معه قسماً من مستقبلي ومستقبلك ومستقبل سورية، وأي سورية سنتحدث عنها بلا هؤلاء الأطفال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أربعة عشر − واحد =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى