ذاكرة حدث

رايات سود على “المبعوجة”

سقطت “تدمر”…

اتشحتْ هياكلها الأبدية بالرايات السود، دون مقاومة تُذكر، وحطّمت يد الجهل المدسوسة منحوتات لن يعيد التاريخ تكوينها أبداً.. كم الفعل الشائن مستنسخٌ عن فعل طالبان بتماثيل “بوذا العظيم” في “تورا بورا”.. وكم مسَحَ ذاكرة قومٍ تركوا لنا أمجادهم شواهد بادية وأفكاراً تتناقلها الأجيال، وتقول كنّا هنا نبني مجدنا.

منتصف آذار 2015

اتصلت بي “رجاء”، صوتها المتلعثم من بين دموعها وشهقاتها شتّت تركيزي فيما تقول، لا تكتمل جملتها حتى تقفز لغيرها، كانت مشتّتة أيضاً وتخونها التعابير في إيصال الفكرة…

– “رجاء” بهدوء أرجوك، ماذا تريدين أن تقولي؟ لم أفهم حتى اللحظة منك شيئاً، هل والدتك بخير؟

«شهدت قرية “المبعوجة” شرقي مدينة “السلمية” في ريف “حماة” في الحادي والثلاثين من آذار فجراً هجوماً عنيفاً لتنظيم “الدولة الإسلامية”، أعدم خلاله 46 مواطناً بينهم 3 أطفال دون سن الثامنة عشرة، و11 مواطنة فوق سن الثامنة عشرة، إضافة لستة عناصر من اللجان الشعبية، وتمت عمليات الإعدام حرقاً وذبحاً ورمياً بالرصاص.

– “الدواعش” يا “سلّامة”، يهاجموننا من الشرق والجنوب، اجتاحوا “عقيربات” و”كوكب السويد” و”أبو دالي” و”سوحا” و”جروح” و”جني العلباوي”، وصاروا على مشارف “صلبا” و”مسعود” و”أبو حنايا”.. بالتأكيد سيصلون إلينا في “المبعوجة” وقد يجتازون “عقارب الصافية” و”الصبورة”، لأن وجهتهم “السلمية” على ما يبدو..

– اهدئي قليلاً يا صديقتي، ربما يتوقفون أو….

– لا يا سلّامة، قوافل الهاربين من القرى والبلدات التي اجتاحوها تعبر منطقتنا وتتّجه غرباً إلى “السلمية” و”حماة”، وهم يروون عن جرائم “داعش” في مناطقهم ما تشيب له رؤوس الأطفال، يذبحون كل من يقع في أيديهم من شيوخ ورجال وأطفال، ويسبون النساء والصبايا، وينهبون البيوت والمحال…

– إذاً ماذا تنتظرين؟ خذي ما يهمّك حمله وارحلي إلى “حماة” أو “حمص” أو تعالي إليّ هنا في “دمشق”.

– أمي يا سلّامة، ليس معي سيارة ولا أستطيع تركها، فهي عجوز وعاجزة عن المشي، ومن معه سيارة أخذ أسرته وأقاربه وهرب…

– “رجاء”، انتظري قليلاً، سأتصل فوراً بـ”خالد”، صديقنا الشاعر أظنك تذكرينه، عرّفتك به مرّةً، هو في “السلمية”، سأطلب منه أن ينطلق إليكم، كونوا مستعدين للمغادرة فور وصوله.

أخبرت صديقي “خالد” ابن “السلمية”، الذي يعرف “رجاء” وقريتها جيداً، فانطلق بسيارته المتهالكة شرقاً. نصف ساعة من الزمن كانت كافية لينقذ “رجاء” ووالدتها العجوز وبعض الجيران وينطلق بهم إلى “السلمية”، تئنّ بهم السيارة القديمة وتتمايل منذرة بالانقلاب عند أول منعطف.

وصلت “رجاء” مع أمها في اليوم التالي إلى “حماة”، ونزلتا ضيفتين عند عائلة من أقاربهم تقطن المدينة. غير أن الأخبار جميعها أكدت أن تنظيم الدولة توقف عن هجومه عند القرى الشرقية ولم يتابع هجومه غرباً، وأن قرى “المبعوجة” و”عقارب الصافية” و”الصبورة” ما تزال تحت حماية جيش النظام والدفاع الوطني، وهي آمنة من غدر الدواعش.

بعد أسبوع اتصلت بي “رجاء”، وأخبرتني بأنها عادت بأمها إلى “المبعوجة”، عادت إلى بيتها وكأن شيئاً لم يكن، وضحكنا ونحن نستذكر ذلك اليوم العصيب، يوم التهجير.

بعد شهر وصلتني رسالة من “خالد” على الواتس أب تقول: «”يا أيتها النفس المطمئنّة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي” صدق الله العظيم… انتقل إلى رحمته تعالى أمس والدي “خالد” إثر تعرّضه لحادث إليم بين إدلب وغازي عنتاب… إنّا لله وإنا إليه راجعون».

في صبيحة اليوم الأول من نيسان، ضجت وسائل التواصل الاجتماعي وأخبار الإذاعات والتلفزة بالهجوم المريع: «شهدت قرية “المبعوجة” شرقي مدينة “السلمية” في ريف “حماة” في الحادي والثلاثين من آذار فجراً هجوماً عنيفاً لتنظيم “الدولة الإسلامية”، أعدم خلاله 46 مواطناً بينهم 3 أطفال دون سن الثامنة عشرة، و11 مواطنة فوق سن الثامنة عشرة، إضافة لستة عناصر من اللجان الشعبية، وتمت عمليات الإعدام حرقاً وذبحاً ورمياً بالرصاص. وكان التنظيم قد هاجم القرية من الجهة الجنوبية الشرقية انطلاقاً من منطقة “محطة صلبا” ومن جهة البساتين شرقي القرية، إذ اشتبك مع عدد من عناصر الدفاع الوطني، ليتمكن لاحقاً من دخول القرية وارتكاب مجزرة بحق المدنيين… كذلك دخلت مجموعة كبيرة من التنظيم قرية “عقارب” ليلاً على الدراجات النارية، وقد أسفر الهجوم عن مقتل 15 مدنياً فيها، بينهم 5 أطفال، منهم 3 أشخاص؛ والد وولداه، ذبحا على يد عناصر التنظيم.. كذلك تسبب الهجوم بمقتل 27 مقاتلاً من قوات الدفاع الوطني ومسلحين قرويين موالين للنظام. وتم العثور أيضاً على 10 جثث أخرى لم يعرف بعد ما إذا كانت تعود إلى مدنيين أو مقاتلين موالين».

اتصلت بـ”رجاء” لأطمئن عليها، غير أنني لم أحصل على جواب، خطها خارج التغطية، وحسابها على الواتس أب غير متصل، كتبت لها على الماسنجر ولم تردّ… اتصلت بـ”خالد” لعلّ لديه خبراً عنها، فاجأني ردّه أنه أصبح مع عائلته في “إدلب” شمال سورية، وهو يحاول الدخول إلى تركيا «كما تعلمين صديقتي، لأنني معارض للنظام من قبل الثورة بكثير، فإني أتعرّض من أمنه وشبّيحته لمضايقات لا طاقة لي على احتمالها، وخوفي الأكبر على أبنائي وبناتي الثمانية وأمهم وليس على نفسي، ولم تشفع لي عندهم التهديدات المتتالية التي تلقيتها من الدواعش لرفضي التعاون معهم بأي حال، لكن يبدو لي أن الطرفين على مسار واحد وليسا متناقضين مطلقاً»… غطى الحزن كياني، وجَهِدتْ أعصابي لساعات وأنا أتسقّط الأخبار، علّني أعرف شيئاً أكثر تفصيلاً، أو أسماء الذين قضوا… دون جدوى، وبتّ ليلتي على جمر التخمينات والهواجس.

وجلّ ما حصلت عليه هو ما أفاد به ناشطون من “السلمية”، أن التنظيم دخل البلدة في الثانية بعد منتصف الليل، واستمرت الاشتباكات بينه وبين عناصر الحماية الشعبية والدفاع الوطني حتى الخامسة، وقد قام بقتل عدد من العائلات والأفراد في منازلهم، من بينهم 4 أولاد، بالإضافة إلى سقوط 80 جريحاً، وسط انتشار كثيف لمسلحي التنظيم في شوارع القرية، قبل أن ينسحبوا قرابة السادسة صباحاً.

الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، أصدر بياناً بعد يومين أدان فيه ما ارتكبه عناصر التنظيم. وجاء في البيان: «تنظيم داعش يستمر بنهج نظام الأسد في القتل والإجرام، وارتهان الكرامة الإنسانية، وخرق القوانين الدولية، فما إن تتوقف مجازر نظام الأسد بحق المدنيين حتى يجددها التنظيم الإرهابي بمجازر لا تقل بشاعة وإجراماً في مناطق أخرى».

«عزيزتي سلّامة، “رجاء” بخير وما تزال في مشفى “حماة” الوطني، فقد تعرّضت لكسور وجروح شديدة ومرّت بحالة حرجة، لكنها أصبحت الآن أفضل حالاً وتماثلت للشفاء، وستغادر المشفى خلال أيام قليلة، لكن والدتها العجوز، لك العمر، فقد قضت ذبحاً على يد المجرمين الدواعش صبيحة دخولهم القرية».

وطالب البيان التحالف الدولي باتخاذ “خطوات حاسمة” من أجل حماية المدنيين بالتعاون مع الجيش الحر، مشدداً على أنه يجب عدم نسيان «الدور الرئيسي الذي لعبه نظام الأسد في دعم التنظيمات الإرهابية وإتاحة المجال لها للتمدد، واعتبار أن خطر الإرهاب لن يزول من المنطقة ما لم يتم إسقاط الأسد الراعي للإرهاب وتفكيك آلته الإجرامية».

ضحكتُ في سرّي رغم حزني على هجرة “خالد” مع عائلته، وعلى “رجاء” وعدم معرفتي ما حلّ بها. فجأة لمعت الفكرة برأسي، فقد تذكّرت أنني تعرّفت على قريبة لـ”رجاء” تسكن في “دمشق” منذ سنوات، “فرح” صديقتي على الفيسبوك، تواصلت معها على الماسنجر وسألتها عنها، وخاب ظنّي أيضاً، فهي تحاول التواصل معها دون جدوى، لكنها وعدتني أن تخبرني بأي جديد تعرفه عنها لاحقاً.

بعد شهر وصلتني رسالة من “خالد” على الواتس أب تقول: «”يا أيتها النفس المطمئنّة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي” صدق الله العظيم… انتقل إلى رحمته تعالى أمس والدي “خالد” إثر تعرّضه لحادث إليم بين إدلب وغازي عنتاب… إنّا لله وإنا إليه راجعون». وقع الخبر على رأسي كالصاعقة، كم من أمسيات شعرية جميلة شاركتنا بها بشعرك العذب الفصيح يا “خالد”، وكم كان حضورك جميلاً وبديهيّتك متوقدة.. من لم يمت بالسيف مات بغيره… عليك رحمة الله ورضوانه. اتصلت على رقمه، فردّ علي ابنه وتلقّى تعزيتي.

الرسالة الثانية كانت من “فرح”، في مساء اليوم ذاته: «عزيزتي سلّامة، “رجاء” بخير وما تزال في مشفى “حماة” الوطني، فقد تعرّضت لكسور وجروح شديدة ومرّت بحالة حرجة، لكنها أصبحت الآن أفضل حالاً وتماثلت للشفاء، وستغادر المشفى خلال أيام قليلة، لكن والدتها العجوز، لك العمر، فقد قضت ذبحاً على يد المجرمين الدواعش صبيحة دخولهم القرية». رغم آلام الأخبار وسوداويتها، إلا أنني شعرت ببعض الارتياح، لأن صديقتي ما تزال بخير، وسوف أزورها حين تسنح لي الفرصة. لكن الأمر الذي يضع العقل في الكفّ، هل قدر السوريين أن يطاردهم الموت في البرّ والبحر والجوّ، في داخل البلاد وخارجها، وكأن لعنة الفراعنة قد حلّت بين ظهرانيهم، فلا تغادرهم ولا هم منها ينفكّون؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ثلاثة × 4 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى