ذاكرة مكان

شُخُوصُ الحَكَايَا

ما جرى لم يكُ حلماً

هكذا أُسرُّ للجدار النائم, للنافذة التي لامَسَتْهَا أناملُ كثيرة لا تُحصى وهي توقِظ المسترخي في أحلامه, الغارق في موسيقاه الداخليَّة, الشارع الطويل الذي كانَ يحوي البيت ما زالَ قائماً مع تغيراتٍ طفيفة, أرفضها, وأبقى محتفظاً في ذاكرتي بصورتها الأولى, غرفة اسمنتية صغيرة تحوي نافذةً مطلّة على الشارع, ستارةٌ شفّافة, وأصواتُ الموسيقا مسموعة آنَ تخطّو الخطوة الأولى في الشارع المؤدي إلى البيت, (هايدن) أو ربمّا أحياناً أناشيدُ كارمينا بورانا لـ (كارل أورف) وأحياناً أُخرى حينما يكون التذكّر على أشدّه تسمعُ (أم كلثوم) وهي تصدح في وضح النهار على النقيض مِمَّا هو معتاد, الصّامتُ دوماً مسترخياً على كنبةٍ قديمة حيثُ تتبعثرُ الكتب على سطحها الخشبيّ المهترئ, مجموعة أوراقٍ بيضاء مخطَّطة بالأزرق الناشف أو أغلفةُ كتبٍ, الرفوف الخشبيَّة التي تتضمّن أشرطة كاسيتٍ يعلوها الغبارُ القديم, “إنّها لشقيقي الذي يقيمُ في أوروبا حاليَّاً وبعضها لي”, يقولُ الصَّامت الذي يضحكُ بصوتٍ هامس لا يكادُ يُسمع.

طُرِدنا من الثقافة, ثقافة السلطة التي كانت فوق كلّ سلطة, كما تفوَّهَ بها القائدُ الخالد!, زُرعت الفوضى بدواخلنا عنوةً, وأسوةً بالفوضى العامّة جرفنا السيلُ نحوَ الظَّلام الذي أعجَبَنَا ومن ثمّ أتلف أرواحنا.

(قُسطنطين بيتروس كافافيس) الإسكندرانيّ, كانت قصيدته “المدينة” هي أولى القصائد التي تعرّفت من خلالها على شعرٍ حقيقيّ وإن كان ذلك ترجمةً قديمة لا يمكنُ النظر إليها, ومن ثمّ اليونانيُ أيضاً الذي كنّا نشبهه (يانيس ريتسوس), إلّا أنّ البدايات دائماً ما تكونُ ذات نكهة, أحاديثُ الطبيب الصديق عن دمشقَ وعن أسماءَ تدوِّنُ الشعر بعيداً عن المدينة الصغيرة التي تأوينا, عن المديريَّة العامة للسينما كذلك الأمر ومديرها الذي يفتحونَ له أبواب السيَّارة لحظة هبوطه الدرج المُفضي للخارج, الدخولُ إلى عالمها الذي يشبه عالم البوليس السرّي, كلّها أحاديث ما زلتُ أسمعها الآن بجلاءْ, هل يكفيني السردُ كي أنسى الآن؟, لا أعتقد, ما جرى ليس ذكرى إنّها حياتي التي كانت ولا تزال تحيا وإن في مكانٍ آخرَ بعيد, إلّا أنني أتحسُّسها, ستعودُ, أصرخْ.

-هذا ما قاله السّردُ لي همساً, وأنا أتفحّص زوايا غرفتي التي نعتها يوماً الرجل الصّامت بالأليفة, المدفأةُ ما زالت في مكانها, والوسائِدُ التي استخدمناها, لو تكلّمت!!, إلّا أنّ لها لغتها الصّامتة في سرد الأحداث العتيقة, فناجينُ الشاي التي كانت تحتضِنُ عصائر منوّعة يبتدعها الصّامتُ في لحظاتِ الفراغْ المُغبِطة, ولكن هل هذا كلُّ شيء؟, كلّا بالتأكيد, ثمّة غشاوة تحولُ دونَ الرؤية, كلُّ رؤيَةٍ ضبابٌ, على غرار ما كان يقرأه الصامت من وريقاتٍ للمتصوِّف النفّري, المتصوّف الأوّل الذي عرفته خَلل حياتي السابقة, كنتُ أعشق الكلمات وهي تخرجُ مصفوفَةً ومُشكَّلةً من فم الصامت حتّى وإن كانت اللغة أغلبَ الأحيان تعاندني ويستعصي الذهن على الفهم, لقد فَهِمتُ الآن فقط ما كان يجري, اللغةُ سؤال الغريب وسلواه, اللغةُ عنصرُ الإيضاح في زمن الغموض الذي أعيشه, هذا كلّ ما في الأمر إذن, اللغةُ أداةً لاستحضار ما كانَ قبل سنواتٍ بعيدة.

**

-أعي تماماً أنَّ الأماكن لها أرواح تشتاق ومن ثمّ تلهو لوحدها بعيداً عن كلّ ضجيج, وأنّ الأشجار الحاضرة على الكلام تشتاقُ هيَ الأخرى بكل بديهيَّةٍ, هل كانت لنا قلوبٌ قاسية حتّى تَلقَى هذا الجَزَاءَ غير العادل؟, أمضي وأنا أرَى ما لا يمكن لأحدٍ أن يراه في عيني طفلٍ قديمٍ كنتُهُ, يا آلهة الذكريات أنقذيني, وانتشليني من وِحدَتي, دعيني أتنفّس ولو لبرهةٍ عابرة, أن أستعيد قوايَ التالفة مُذ ولَج العالم إلى هذه الألفيَّة العَفِنَة.

قريباً من الماضي وعلى مقربَةٍ من الضحكات الواسعة, أُبصر الرجلَ الطويل ذا اللقب الآتي من كتب الحكايا القديمة بعد تحويرٍ بدعوى اللفظ المستمرّ, (شهرزاد), أستمعُ إلى اللهجة المبتدعة التي لا تشبه أيّ عالَمٍ حيّ, لغةٌ من الأزمانِ التي ولّت, أرى الشاعرةَ الوافدة من الداخل السوريّ وهي محتقنة لضحكاتنا على القصيدة اللا (قصيدة), هل كانَ لنا أن نضحك؟, أستنطقُ روحي المدهوشة الآن, أجل, كانَ علينا جميعاً أن نقهقه لأنّ القصيدة لا تَهِبُ نفسها لأنثى كاذبة, ولا تنكشفُ المفردةُ ببساطَةٍ لامرأةٍ لا تقرأ سوى مجلّة “الطليعيّ” وتدعُ زوجها دون غَداءٍ أو ربمّا تنسى أن تعير طفلها الوحيد انتباهاً!!, طُرِدنا من الثقافة, ثقافة السلطة التي كانت فوق كلّ سلطة, كما تفوَّهَ بها القائدُ الخالد!, زُرعت الفوضى بدواخلنا عنوةً, وأسوةً بالفوضى العامّة جرفنا السيلُ نحوَ الظَّلام الذي أعجَبَنَا ومن ثمّ أتلف أرواحنا.

**

سنكبر لوحدنا, لا أحد سوف يحمل عنّا الألم, سنهاجر ونملك ما يكفي من الذكريات, الآن أتذكّر, فقط بعد سنواتٍ من الغياب, لستُ هنا في وارد أن أتحدَّث عن الذكريات وحدها, فهي ليست ذكريات, بل إنّها الرّاهن الذي أبصره دونما توريَةٍ أو إخفاء, سنعلمُ جيداً أنْ لا مدن تحوينا سوى الذاكرة, أنْ لا مدن تستطيعُ أن تكتبَ عنّا سوى مدينتنا, لم أكُ أستطيع أن أعرف ماذا تعني الأغاني لولا مجموعةٍ من الأشخاص الذين اجتمعنا مصادفةً في مرحلةٍ معيَّنة من العمر, كانَ الفارق بيني وبينهم في العمر والثقافة كثيراً وجليَّاً, وبانَ هذا الفارق واضحاً بعد فتراتٍ طويلة خَبِرتُ فيها الموسيقى الجيَّدة والكتاب الجيّد ومن ثم أطلقتُ للفوضى عنانها وتركت عمري يسير على هداه دون أن ألجم أيَّة رغبةٍ بداخلي كما الآن وأنا لوحدي.

**

كانت الليالي تعني الكثير على عكس الرّاهن الذي لا رائحة له سوى الدمّ المسفوك, كانت الليالي تعني القراءةَ والضحك على ما جرى في النهار بأسره, اللهو والموسيقى والقراءة والكتابة, كان لكلّ ذلك وقتٌ كافٍ, كان للسخريةِ مكانها الأبرز بين مفردات الحياة/حياتنا, أتساءل الآن, ماذا لو كانت الحياة على ما كانت عليه سابقاً ولم نشهد ثورةً أو ترحالاً؟, ماذا كنّا سنصنَع وبأي شيءٍ كنّا سنلهو, يسردُ داخلي الكثيرَ ويثرثر دونما رادٍّ له, الليالي كانت تعني الشخوصَ الذين مرّوا في حياتي, دون أن أعي أن هناك يوماً ما قريباً سيكون متوفِّراً بكثرة كي أتحسَّر عليهم وعلى ابتساماتهم, هناك المزيد من الوقت كي أبكي, أقولُ في سرّي كي لا أبدو هشَّاً لهم حينما أتكلّم عبر الإلكترون, الكلام الذي يكونُ جافَّاً ولا يتعدَّى التحيَّةَ والاستفسار عن عراكٍ ما جرى بالقرب من مكان إقامتي بين فصيلين مسلّحين لا يعرفان على ماذا يتعاركان ويخلّفان الدمَ!!, هو اطمئنانٌ فقط على ما تبقّى من الأيَّام لديّ, هكذا أفسِّر الأمر ومن ثمّ أمضي إلى عملي الذي لستُ مقتنعاً به مطلقاً, هو عملٌ كي لا أهاجر أنا أيضاً وأبقى وحيداً إلى الأبد في معسكراتٍ للاجئين لم أعتد عليها أو ربمّا خَبِرتُهَا يوماً ما في بيروت العاصمة, الموسيقى هي ذاتها والكتبُ أيضاً, الكتبُ/الأرواحُ التي ترفرف, ثمّة رائحة للمكان أتحسسها بيديّ الناعمتين, ثمّة سكاكينُ للوِحْدَةِ أُبصِرُهَا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة × 5 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى