حدثَ في “كفر بطنا”
كنتُ أسمع عن هؤلاء الوحوش وعن قصصهم وتصرفاتهم الحيوانية من
خلال الحكايات التي يتداولها الناسُ ما بينهم، وأحياناً أشاهدهم في الأفلام، أو،
أقرأ عنهم عبر القصص الخرافية التي لا يمكن أن تتحققَ في أي عصرٍ من العصور بتاتاً…
لكنّني اليوم، أشعر أنهم حولي في كلِّ لحظة. أشعرُ بأن
لعابهم يسيلُ بين نهديَّ، تحت لباسي؛ يتذوّق دمي نجاستهم. أشمُّ روائحهم القذرة، التي
تملأ كلَّ مكانٍ في غرفتي … في ثيابي، وتحت الأغطية وبين شقوقِ خشبِ الخزانة!
إنها تحتلني؛ وتصرخ في مرآتي!
تملأ صدريْ، وتضعُ كفّيها على عنقي بشدّة.
إني أختنقُ … أختنقْ!
– هل أنا أحلمُ؟
عندما كنتُ أقرأ عنهم في الماضي، أو أسمع، كنت أنسجُ لهم صوراً أعتقد أنها لا تقلُّ بشاعةً عن الأعمال التي يقومون بها!
وهي أيضاً، مشوّهةٌ، لا تحتملُ المرايا التفكير بأنْ تعكسَ
ماهيتها، أو يكون لديها رغبةٌ بتفسير ملامحها.
نعم… هي صورٌ مشوّهة، تنافسُ وجهَ الشيطانِ دمامةً،
أو إنها أصبحت أكثر رعباً وعرياً فاضحاً!
فالشيطانُ له وجهٌ آخرُ؛ وجهٌ لا يتحرّك في الظلام، ولا يُــقْلِق. إنّـه ذاك الذي لا يحثّ الآخرين على الأعمال الشنيعة والمقزّزة؛ حيث يكتفي فقط بالنظر إلى أعمالهم، ساكناً، مُـطرِقاً، يراقبُ تلك اليدَ الوسخة، وهي تدخل إلى أحشاءِ البراءة وتجتثها!
تلك الطاولةُ التي كانت إلى جانب فراشي، أضعُ عليها كل أتعابي، وقد تضحكون… إن قلتُ لكم أنني كنت أضعُ الحقيقة أيضاً عليها.
الحقيقة التي أهربُ منها الآن!
أضعها وأهربُ إلى أحلامي عساني أعصي كلَّ شيءٍ جسّـني منها،
وأكسرهُ بحُلمٍ يكون لي فقط، عالمي وحدي؛ عالمي هذا الذي دمرتّه وحوشُ النهار…
الوحوشُ التي كنت أحسبها تأتي فقط في الليل متسللةً،
اليوم، كَسَرت كل قواعدها؛ أنْ أتتني في وضح النهار ونهشتْ أحلامي!
وأيقظتِ الحقيقةَ التي ركنْتُها على تلك الطاولة!
حتى مراياي، صارت تلاحقني في الغرفة! وفي البيت، أيضاً أسمعُ صوت انكسارها، لتتشظى أصابع تشير إليَّ
بأني مُـتّـهمةٌ بكلِّ شيءٍ سيئ في هذه الدنيا، وكلِ عار ٍ حصل في التاريخ هو جزءٌ مني!
وكلّ سوءةٍ ملتصقةٌ بي، بجسمي، باسم عائلتي؛ وعليّ أن أهربَ إلى العدم ؟!
- هكذا يريد كلُّ شخصٍ يعرفني أو سمعَ عني!
إني… أسمعُ أصواتاً مقزّزة …
وحتى الحيوانُ الأليف، الذي كنتُ أطعمهُ على
أسطوحنا لم يعد يقفزُ نحوي حينما يسمعُ صوتَ خطواتي على الدرج!
يقولون… إنّ القطَّ “يجحد”؛ نعم، أعرفُ ذلك، إنما
يجحدُ بعد أن يأخذَ حاجته من الطعام والدلال.
لكن اليوم، لا أعلم ما دهاه!
- هل عرفَ بأمري أيضاً، وتبرّأ مني؟
صار يموءُ نائياً عني!
قافزاً إلى الأسطحِ الأخرى التي كان يخشاها لوجودِ كلابِ الحراسة!
لم يبقَ لي في الدنيا غيرك يا صديقي… عُد، وسأصبحُ كلبةً، ذليلةً لكَ؛ أحرسكَ من الكلابِ النابحة ، ويا ” ليتني كلبة ولم أصبح إنسانةً كلبة لدى الذين يمتلكونَ الحقيقة! “
ألمسُ وجهي مرتجفةً!
أضعُ رأسي بين ركبتيّ وأحاول النوم على هيئةِ السجينات!
لكني أكثر من سجينة!
أنا سجينةُ جريمةٍ تاريخية لن يُحاسبَ مرتكبها، أعرف ذلك.. فهو أكثرُ من شخص!
هو ذاك الشخصُ الذي أعطاه الأمرَ لاقتحام عالمي النظيف ودفنه تحت جدار العفونة!
هو ذاك الشخصُ الذي نقلهُ بسيارته وهو يعضّ على عقبِ سيجارةٍ رطبٍ بلعابٍ قذرٍ ويقهقه!
هو ذات الشخصِ الذي وشوشَ في أذنه:
-لا ترحم أحداً في هذا المنزل… أو ذاك.
هو الرأسُ الكبيرُ الذي أوعزَ لهم جميعاً استباحة
عفّتيْ، وتلويثها بالدمِ والانكسار!
هو الذي حملَ (الكاميرا) ليصورَ ركبتينِ تكسرتا بعد أن رفضتا الانفراجَ أمام عالمٍ من اللعابِ والشهوةِ الحيوانية!
البيتُ الذي كان يحتضنُ ابتساماتِ أبي ورائحةَ
قهوتهِ الصباحية، ها… صار رمادياً.
النوافذُ مخلوعةٌ مثل أكتافِ الحطابين!
دراجةُ أخي الصغير الهوائية، لم يبقَ منها سوى صدى
عجلاتها في ذاكرتي يتكسرُ على الحصى ؟!
تلكَ اللكمةُ التي نجمَ عنها بعضٌ من الأسنانِ على
بلاطِ منزلنا ونزيفٌ قانٍ، تلاها صوتُ رصاصاتٍ متتاليةٍ
أرْدَت جسدَ أخي الكبير مع صوتِ ارتطامِ جمجمةٍ يشبهُ تصادمَ
قطارينِ وجهاً لوجه!
يدٌ ثالثةٌ لم أدرِ من أين تسللت ببطءٍ حَذِرٍ إلى
فمي لتلجمه عن الصراخِ المتحفّزِ؛ وأنا، أشاهدُ كلَّ هذا!
كمن سُـحبَ لسانه، أو خُـلقَ دون حبالٍ صوتية!
” لابد أنها يدُ القدرِ التي
أنقذتني من الموتِ، لترميني بين مخالبِ هؤلاء الحيوانات !! “
يقولون: ” إن القدرَ رحيم! إذ لم تكُ سيئاً؛
وقد يمْهلكَ وقتاً شاسعاً لتراجعَ الأخطاء التي سوف ترتكبها بعد حين! “
وها هو سبقني الآن، وارتكبني خطأً ولم يراجع نفسه
قطعاً ؟!
نـضجَ عنبُ ألمي في شتاءٍ بارد ٍ مليءٍ بالوحلِ
والدمِ والخطواتِ القادمة نحو غرفتي!
منذ عامٍ… لم يستطع أبي أن يبنيَ هذه الغرفة، لولا إلحاح والدتي عليه أن يستدينَ من الأقاربِ أو الجيران
كي يفصلني عن إخوتي بعد أن برزتْ أنوثتي تحت ثيابي.
- ليتني بقيتُ صغيرةً لم أراهق …
أو، ليته لم يبنِ هذه الغرفة اللعينة التي كانت
حاجزاً بين موتي معهم، وبقائي أتخبّطُ بين قبضاتِ أولادِ الزانياتِ مثل سمكةٍ مَجّـها
الموجُ فوق شاطئٍ جفّ ريقه!
بُـترت تلك اليدُ التي كانت تسدُّ عوالمَ من الصراخ
والذهول؛ مع كلِّ خطوةٍ تصعدُ الدرجَ، كانت سكاكينُ تركضُ في جلدي، وكنتُ أقارنُ
بين خطواتهم، وخطواتِ الأناسِ العاديين، الذين زارونا من قبلُ …
- حقاً… إنها خطواتٌ مختلفةٌ حتماً!
تحكي قصصاً مجهولة عن درجاتٍ صعدتها! تشبه درجَ بيتنا، وعن طرقاتٍ مكتظةٍ
بالضحايا التي مشتْ فوقها، وعن أفواهٍ ذاقت طعمها اللعين.
لم يكن أمامي سوى أن أتخيّـلَ جديلتيْ التي قطعها
ذاك النذلُ بحربةِ بندقيتهِ وهو يضحكُ على أنها مشنقتي المربوطة إلى الشجرة التي
زرعها خالي وسطَ باحةِ بيتنا …
لكن هيهات؛
لم تمرّ تلك اللحظةُ من الخيالِ مثل “شريطِ الفيديو”
المعطوب، حتى رأيتني مرميّةً على سريري بين شدٍّ وصراخٍ وضحكاتِ غرباءٍ ما كان
عليّ أن ألتقي بهم حتى ولو صدفةً في شارعٍ ما …
فكيف لي أنْ ألتقي بهم في غرفتي، وعلى فراشي أيضاً
؟!!
هل هذا هو القدر ؟!
أمْ همُ من يصنعونَ القدرَ ويتحكمون به!
- كم أرغب بالتقيّؤ …
سمعتُ صوتَ قدِّ ثوبي بكل أذان المُغتصبات!
تمزّقتْ قطعةٌ منه؛ وكأن قطعةً من جسمي صارت بين أصابعِ ذاك الشاب العشريني صاحب الأنف الكبير والسن المكسورة!
- لقد امتلكَ الآن أولَ مفاتيحِ شرفيْ؛ وعذريتي !!!؟؟
ورفاقهُ يتدافعون بين بعضهم، وصوتُ تصادمِ أعقابِ البنادقِ على أكتافهم يعلو كلامهم الذي فهمتُ منه أنهم سيتناوبون عليَّ!
- أين اللهُ الآنْ ؟!
توسلتُ بجميع الأديانْ، وكلِّ الكتب السماوية…. لم
يجب أحد !!
بل ازدادوا ضرباً بي، وتقدّماً نحوي، وأنا أدفعهم
بقدميّ… لكن، لا جدوى!
حتى إنني اخترعتُ أنبياءَ لا أعرفهم، وأدياناً جديدة لم تنزل على البشرية، أتضرّع بها وأتوسل، وأستحلفُ…
لكن، لا جدوى!
- مثلَ ذبيحةِ العيد ثُـبّـتت يداي، ووضع اثنان منهم بسطارهما على قدميّ، هكذا… لأكثر من دقيقة، وأنا دون حراكٍ، وهم يقفون فوقي بعيونٍ لونها غريب!
حتى أمرَ ذو اللحيةِ العشوائية والرأس الكبير الحليق:
- – “قف أنتَ على بابِ المنزل وراقب قدومَ أيٍّ كان ريثما يأتي دوركَ.”
هربت حنجرتيْ!
لتلتصقَ بكل جدارٍ في المنزل وتصرخ ملئها:
- لا … أنا ابنةُ الشيطان مثلكم …
لكزني بصوته:
- – نحن آباءَ الشياطين …سوف نعلّـمكِ درساً بنزّع اللباسِ، وهذا الشرف.
لا أدري عندها، لا إرادياً، خيولٌ ركضت في جوفي لتصهلَ
وتقذف بصقةً ألصقتها بلحيتهِ…أظنّ أنه سيتذكرها طيلة عمره، بعد أن ينتقمَ
لكبريائه المزعوم!
تضاحكَ مَن حوله …فصفعني بظاهر يده وتراجع عني
ليقول لهم:
- هي لكم، يكفي أنْ أستمتعَ برؤيتها تــ”غ…تصب”
.
.
شيءٌ ساخنٌ على زاوية فمي يسيلُ!
لم أستطع مدّ يديْ إلى وجهي ، فجسمي مضرّجٌ
بالأماكنِ والذكرياتِ الموجعة!
قلبتُ خدي على الفراشِ، ونهضتُ برأسي، قليلاً، لأشاهدَ
بقعَ الدماءِ على الغطاء السماوي!
صرتُ أدعو ألاّ أرى بقعةً عند أسفل السرير بين ركبتيّ …
لم أشعر بجسدي
لم أشعر بالعالم حولي!
هدوءٌ خام!
الذئابُ من حولي رحلتْ
ولم تترك سوى عواءٍ يتغلّب عليه نباحُ كلابٍ جرباءَ وأنثى سُـلبَ منها هذا الوصف.
غرقتْ عيناي في السوادِ، ونمتُ دهراً… ولم أحلم!
لم أرَ شيئاً؟
كنتُ أريد ألاّ أستيقظَ وأرى ما أنا عليه؛ لكن حينما
نظرتُ إلى السقفِ، كان مثل المرآة يعكسُ صورةَ الأسفل!
أرى فتاةً بثيابٍ ممزقةٍ ودماءَ جافة كأنها رُسمت
بريشةٍ عبثيّة!
لم أستطع إغماض المشهد …
كل شيءٍ يلاحقني!
صرتُ أروحُ بذاكرتي إلى مكانٍ بعيدٍ بعيد لا أعرفهُ، ولم أطأهُ
يوماً …
فيه ضبابٌ وليلٌ وأشجارُ غريبة!
-إنهُ القَدرُ… فأسٌ في ظهرِ الحُـلمِ!
هو ذاته …
الحقيقةُ التي يريدها العالمُ وكلُ الجثثِ المتثائبةِ في القبورِ، وكل الناس الذين يبحثون عنها، لكسرِ عنقِ الباطل …
أما أنا، لا أريدها…
أتمسـّـكُ باللاشيء، بجسم الفراغ؛ فما هذه الحقيقة
التي أتجرّعها الآن؟
ما هذه الحقيقة التي يبحث عنها كلُّ العالم ؟!
أنْ أستيقظَ لأجسَّ رائحةَ جسمي فأراها تفوحُ
بالفضيحةِ والخذلان!
أنْ أستيقظَ لأسترجعَ ذلك المشهد في أرض منزلنا التي صارت مسرحاً يُـمثّـلُ عليه أمي وأبي وأخي الصغير والكبير دورَ القتلى ؟!!
- أعرف أنهم يمثلونَ بإبداعٍ الآن…
حقيقةً يمثّلون!
وأنا مثّـلتُ دورَ المُـغتَصبة على فراشي ؟!
أليست هذه هي الحقيقة ؟
ليتني مثّـلتُ معهم على مسرحهم ؛ لكن القدر يريد
ممثلاً متميزاً… أعلى، فوق، في الغرفة !
كي تكونَ الجوقةُ متكاملةً والأعضاءُ لهم خطواتٌ فارقة؛
هي الحقيقة
هي الحقيقةُ التي تصيبُنا فقط
نحنُ فقط. ..
ولا تصيب الذئابَ وأسيادهم !!
.
.
ـــ أسمعُ الآن خطواتهم على درجٍ في مكانٍ ما .