ذاكرة شخصيه بورتريه

نجوت لأجلهم

“هل حقا أنا على قيد الحياة؟”، ابتدأت أم محمود البالغة من العمر 45 عاما حديثها أثناء جلسة العلاج النفسيفي تموز 2016، قبل أن تنهمر دموعها وتستفيض بِمُصّاباتها؛ كانت تنظر بعيون فيها تخبط بين الشك والخوف والرعب والألم والحزن وسرحان النظر المفاجئ إلى ذكرياتها العميقة.

                  في تلك البلدة الواقعة تحت سيطرة النظام السوري يحدثنا مختار البلدة وهو أول من استقبلها وآواها بمجرد وصولها من مناطق المعارضة المحاصرة: “لم تكن نظراتها عادية، أرعبتني هيئة المومياءات التي بدت عليها مجرد أن رأيتها، ملامح جافلة، بشرة صفراء، نحول الأشباح، وسحنة الأموات”،المختار قدم لها غرفة في مزرعته هي والأطفال الخمسة المرافقين لها فورا. ويلخص تاريخها بقوله: “أم محمود نجت من الموت مرات عدة وكل مرة كانت تخرج أقوى من السابقة، وفي اللحظة التي أحست فيها بالأمان انهارت دفعة واحدة.” 

                  لم تملك أم محمود سندا لها منذ أن قضى زوجها في تفجير استهدف سيارته لأنه كان سائقا لشخصية من عائلة الرئيس بشار الأسد؛ ولأن أم محمود من الطائفة “العلوية” وزوجها “سني” تنكرت عائلته لها بعد وفاته، وحَمّلوها وزر ما جرى له. بينما كانت علاقتها بعائلتها مقطوعة منذ أن هربت معه ليتزوجا حيث اعترضت عائلتها على طائفته.

                  ابنها الأكبر محمود وعمره كان يوم حضرت إلى مكتبي لتبدأ العلاج ثمان سنوات يعي عندما كان في الخامسة نوبة الهلع التي أصابت أمه حين سمعت صوت الانفجار بعد خروج والده من المنزل بخمس دقائق ليركب سيارته متوجها إلى العمل: “هرعت إلى الشباك بسرعة وهي تنادي باسم والدي بصوت مرتفع أخافنا أكثر من الانفجار الذي هز البناء، وتدعوا الله أن يحميه، وقفت على الشباك ثم صرخت ووقعت على الأرض”. 

                  تقول أم محمود: “بعد وفاته ضيق أهل زوجي عليّ في دمشق وصدتني عائلتي، ولأني حامل بشهري الثالث قررت أن أذهب إلى منزلنا في ضياع إدلب هروبا من الأجواء المشحونة”؛ وبعد وصولها سيطر الجيش الحر وجبهة النصرة على الضيعة، واضطرت أن ترضخ لأوامرهم بالتزام الزي الشرعي، وأن لا تكشف هويتها الطائفية أو عمل زوجها، خشية لأية عواقب محتملة، حاولت جاهدة أن تهرب لمناطق النظام، لكن كل المنافذ كانت مُستعرة بالمعارك، وبدأت مواردها تقل مع ارتفاع الأسعار وشح المصادر ومرت بفترة من الجوع والعوز، وزاد الأمر عسرا حبلها الذي منعها من العمل وانقطاع تعويض زوجها عنها، وخشيتها أن تكشف هويتها وأوشكت على الإجهاض وبدأت صحتها تعتل.

لحظة انعتاقها من العبودية كانت لحظة ارتباك وتوتر شديدين لأنها كانت قد نسيت حياة الحرية لهول ما حصل معها، وكان من الجيد أنها في تلك اللحظة لم تفقد رشدها نتيجة الموقف الجديد الذي أزال غمامة سوداء عنها فجأة

                  في آذار 2013 دخل تنظيم الدولة الإسلامية إلى ضيعتها بعد مجزرة بحق الجيش الحر وجبهة النصرة، وفتشوا البيوت كلها بحثا عن المغايرين في الدين ليقتادوها هي وأولادها الإثنان إلى الساحة حيث أرداوا تنفيذ حكم الإعدام فيهم، وتقول: “مشاعر الخوف على أولادي مترافقة بالتعب والوهن والبؤس كبل صوتي وحتى دموعي وحركاتي، كنت أواسي نفسي أن الموت أرحم لنا، وأدعوا أن يكون موتنا رحيما، بل وأن أموت قبل أولادي كي لا أراهم وهم يقتلون”، لكن أمير الجماعة ولسبب ما استثناها وولديها، ثم نقلوها إلى ريف حماة الشرقي، وهناك وضعت مولودها الثالث، وبقيت ثلاثة شهور في معسكر لتنظيم الدولة تخدم بذلٍ كالجواري في مطابخهم ومراحيضهم وتنصاع لطلباتهم مع اهانات شخصية وطائفية وضرب مبرح واعتداءات جسدية ولفظية بالجملة أحيانا وليس بوسعها شيء، ممنوعة من رؤية أطفالها، وفي سكن جماعي مع باقي نساء التنظيم غير المتزوجات، إلى أن سيطر النظام على المعسكر في تشرين الأول 2013، واقتادها جيش النظام مع اهانات متنوعة لا تراعى حرمة ولا حرام واصفين إياها “بمجاهدة النكاح” وناعتون لأولادها “بأولاد الحرام”، وعندما علموا أنها من الطائفة العلوية أفرجوا عنها دون أن يقدموا لها عونا غير 500 ليرة لتصل وأطفالها إلى دمشق. 

                  تقول: “أمسكت بالنقود التي أعطاني إياها ذاك العسكري ولا أدري ما أصنع، وكنت قلقة أكثر من الفترة التي قضيتها مع داعش” يُعقب على هذه النقطة الدكتور والمعالج  النفسي “س. ك” المشرف على علاجها لاحقا بقوله: “لحظة انعتاقها من العبودية كانت لحظة ارتباك وتوتر شديدين لأنها كانت قد نسيت حياة الحرية لهول ما حصل معها، وكان من الجيد أنها في تلك اللحظة لم تفقد رشدها نتيجة الموقف الجديد الذي أزال غمامة سوداء عنها فجأة”.

                  في دمشق كانت مُطالبةً أمام الحكومة السورية بتبرير اختفائها الطويل الماضي وإلا لن يعطوها تعوض زوجها، التبرير هذا غيبها خمسة أيام في فرع السياسية على ذمة التحقيق دون أن يراعوا أي اعتبارت نفسية أو جسدية أو اجتماعية لوضعها، ثم خرجت واستأجرت منزلا من غرفة واحدة في عدرا العمالية قرب دمشق. وفي كانون الأول 2013 شاهدت بأم العين المجزرة المروعة التي نفذها المتشددون الإسلاميون مثل جيش الإسلام والنصرة بحق العلويين القاطنيين في عدرا، تقول: “نجوت بأعجوبة، نزلنا من البناء سويا أنا وجيراني وركضنا والرصاص والانفجارات حولنا، وكنت الوحيدة التي هربت في اتجاه الجيش الحر المرابط بعيدا والمشاهد دون حول ولا قوة للمجرزة، فحماني الجيش الحر ودافع عني، بينما اعتقل التنظيم جيراني وأعدموهم رميا بالرصاص كلهم”.

أم محمود لم تكن تملك شيئا عندما أتت، وكانت خائفة من جيش النظام أكثر من الجيش الحر رغم أنها من الطائفة العلوية، وسكنت منزل أخيها دون علمه لأنه غير راض عنها

                  بعد أن عرفها الجيش الحر تبرع شاب اسمه “محمد” الملقب “أبو زيد” أن يوصلها إلى منطقة السبينة التي فيها منزل أخيها الطبيب العسكري دون مقابل. لكن السبينة كانت تعيش حالة عسكرية فظيعة وحصارا غذائيا.

                  تقول جارة أم محمود واسمها (بديعة.ن) وقد رافقتها من السبينة: “أم محمود لم تكن تملك شيئا عندما أتت، وكانت خائفة من جيش النظام أكثر من الجيش الحر رغم أنها من الطائفة العلوية، وسكنت منزل أخيها دون علمه لأنه غير راض عنها”. كانت جاراتها تشاطرنها بعضا من الطعام الممكن أن يتحصلن عليه في البداية، وخصوصا زوجة أبو زيد، لكن الحال ضاق على الجميع فاضطررن أن يذهبن إلى مطاحن القمح البعيدة لجلب التموين، الذي كان يأتي من الغوطة عن طريق بعض المنظمات المحلية، وبقيت على هذه الحالة شهورا حتى تقدم جيش النظام وصار طريق المطاحن مقنوصا، وحوصرت المدينة تقريبا، فكانت تعطي أولادها وبنات جارتها الفيتامينات من منزل أخيها مع القليل من الطعام والحشائش المطبوخة، حتى انتهى مخزونهم من كل شيء، تقول بديعة: “هنا اتخذت أم محمود وأم زيد قرارا، بأن يذهبن إلى المطاحن من طريق المدارس المقنوص فإما أن يعشن ويأتين بطعام لأطفالهن أو يمتن، ولذلك أخذن أطفالهن معهن”.

                  لم يكن التدخين مسموحا في جلسات العلاج النفسي إلا ما ندر؛ بل لم يكن مسموحا في المركز كله، لكن أم محمود ليست ممن يمكن لي أن أطلب منها بعد هذه المصائب أن لا تدخن، تأخذ نفسا عميقا وتنفث دخانا من بين بضعة أسنان صفراء باقية في مقدمة فمها بطريقة تعبر عن غضب مكبوت وحزن عميق يلبس ثوب الهدوء؛ وتقول: “هربنا من القناص ورصاصه التحذيري في الذهاب، ووصلنا إلى مركز التوزيع لنأخذ حصتنا، وفي العودة كنت أحمل أغراضا على رأسي وبين أسناني وكتفي وفي يدي الأخرى أحمل طفلي، وجارتي مثلي ونسرع خطواتنا عند طريق المدارس”. تلقت أم زيد رصاصة في الرأس فسقطت من فورها وتناثر دماغها على أم محمود التي تلقت رصاصة في خصرها خرجت من الجانب الأخر ورمتها أرضا، قبل أن يغمى عليها طلبت من الأولاد أن يحملوا أخاهم ويهربوا إلى الجانب الثاني من الشارع ليحتموا بالجدار.

                  غابت عن الوعي لمدة لا تعرفها، تتذكر لحظة وتقول: “سمعت صوت الأولاد في نومي يستغيثون، فتحت عيوني لأراهم يصرخون ويبكون وكلهم أمل أن أعود إليهم، حاولت تحريك نفسي وبمجرد أن اتكأت على يدي غبت عن الوعي مجددا”. عنما استيقظت مجددا على رصاصة قناصة قريبة من رأسها كأنه يداعبها برصاصه؛ تخيلت أم محمود أولادها وبنات جارتها بدونهما، وفجأة تخيلت نفسها مكان الأولاد ينظرن إليها وهم لا حول ولا قوة لهم فآساها هذا المشهد وشجعها على عمل شيء فخطر لها أن لا تحدث أي حركة حتى غياب الشمس الذي لم يكن بعيدا لتزحف نحوهم. يقول الابن الأكبر: “كنا نشاهدها تزحف ونخشى أن تصيبها رصاصات القناص مجددا.”

وفجأة تخيلت نفسها مكان الأولاد ينظرون إليها وهم لا حول ولا قوة لهم فآساها هذا المشهد وشجعها على عمل شيء، فخطر لها أن لا تحدث أي حركة حتى غياب الشمس الذي لم يكن بعيدا لتزحف نحوهم. يقول الابن الأكبر: “كنا نشاهدها تزحف ونخشى أن تصيبها رصاصات القناص مجددا.”

                  وصلت أم محمود بمساعدة ابنها الأكبر إلى مشفى ميداني ساعد في علاجها وكانت إصابتها غير مميتة، وبقيت في السبينة حتى تمت المصالحة مع النظام السوري ثم عبرت أخيرا مصطحبة بنات جاراتها من حاجز النظام غير هائبة رصاصهم الذي انتصرت عليه.

لوحة “الحياة والموت” لغوستاف كليمت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

2 + عشرة =

زر الذهاب إلى الأعلى