ذاكرة لجوء

آخر نقطة في مذكراتي

أنهيتُ كتابة آخر جملة في يومياتي صباح ذاك اليوم: “إنهم في الخارج لوداعي؛ أنا ذاهب الآن.” أربعة عشر عاماً وأنا مواظب على كتابة مذكراتي. أغلقت الدفتر ووضعته في صندوقي، وأقفلته. تنكبتُ حقائبي، والتقطت آخر صورة لي في غرفتي التي احتضنت على جدرانها أجمل ذكريات أصدقائي ومراحل حياتي، وخرجت. 

                  الساعة العاشرة صباحاً، حان موعد المغادرة؛ وجوه أعرفها منذ أربعة وثلاثين عاماً، تنظرني وتنتظرني لأودعها. عندما حضنت والدتي وهمستُ في أذنها: “فضلك على رأسي” ثنت ركبتها تحتها فجأة وكادت أن تسقطت، ثم تمالكت نفسها لأبقى متماسكاً. أخي الصغير لم يرد إفلاتي، فشدني إليه وكأنه يريد إدخالي لصدره. بالأمس أقمت لأقربائي حفلة صغيرة بمناسبة عقد قراني، وجالست الجميع دفعة واحدة؛ لأودعهم دون أن أخبرهم أني مسافر غداً صباحاً. 

                  السيارة في انتظاري؛ وقفت على بابها ولوّحت للجميع؛ لكن شيئاً يخبرني أنه علي العودة إلى غرفتي! هممت لأعود وأتفقدها إلا أن يداً دفعتني وقالت لي: “اذهب الآن لم يعد أهلك قادرين على احتمال الموقف!” صعدت على عجل ومعي أخي وعروسي. وانطلقتْ السيارة.

                  مررت بجوار المدينة التي أجرت مصالحة مع النظام وصار موعد تسليمها اليوم. أعمدة الدخان تصعد منها؛ إنهم يحرقون كل أسلحتهم ومستنداتهم والدلائل التي يمكن أن يستفيد منها النظام. لقد حان موعد مغادرتنا فالنظام توعّد لمعارضيه في بلدتنا أن يبدأ بهم بعد أن يفرغ من المناطق المجاورة.

                  بدأت السيارة الأمنية التي أستقلها تجتاز الحواجز العسكرية والأمنية بسلاسة، وقلبي يخفق من الخوف، لكن ملامحي باردة كما تعودت أن أكون عند وجود مواقف مشابهة خلال السنوات الخمس التي قضيتها متنقلاً بين حواجز النظام وأنا مطلوب للأمن العسكري.

                  توقفنا على حاجز الأمن الجوي قبل المطار وطلب العنصر هويتي فأخرجت له البطاقة النقابية؛ التي لطالما كانت كلمة السرّ والحصن الحصين في أي موقف. ولما وصلنا إلى المطار، كلمني المهرّب وقال: “لقد حدث تفجير قريب من نقطة خروجنا على الحدود، سنأجل العملية أسبوعين.” تنفست الصعداء وكذلك عروسي وأخي؛ لكن صديقي في الجزيرة السورية كلمني وقال لي: “أكمل، وستبقى عندي حتى يحين الموعد.” واتخذت القرار بالمغادرة. 

                  كلمت الضابط فأتى بسرعة كبيرة وأخذني من يدي؛ لم يكن لدي متسع من الوقت لأقول لأخي وداعاً. قفزت عروسي إلى صدري وعانقتني، ولأول مرة أنتبه أنها بهذا النحول؛ كانت تقفز في مكانها رافضة رحيلي كالأطفال.. وأحسست في يديِّ أخي قوة تكفي لتحطيم الزمن الأسود الذي يحيطنا لشدة تأثره! لحظة الوداع هذه لم تتجاوز الدقيقة، وأهرب دائماً من تذكرها. 

                  وضعني الضابط في مفرزة الأمن الجوي في المطار وطلب من العناصر أن يهتموا بي لحين موعد طائرتي، ولكنهم أجروا تحقيقاً مُبطناً معي – جرت الأمور كما اعتدتُ عليها – ولكم أن تتخيلوا بُطءَ الزمن الذي مرَّ.

                  عندما أقعلت الطائرة، وبدأتُ ألمح البيوت من الأعلى، استرجعت طعم الوداعات التي عشتها طوال حياتي منذ أن ودعتُ زملاء أول معسكر شبابي في الصف العاشر، وحتى وداع أصدقاء البلدة، والجامعة والطفولة الذين هربوا لجوءاً كما حدث مع فئة كبيرة من شباب الوطن؛ هو لم يتغير، لكنني بتُّ أعرفه أكثر الآن؛ الوداع ليس له طعم، لكنه خدر في الحواس ومرور خارج الزمن كما الحلم الثقيل الذي ترافقه نبضات مضطربة وهلاوس الحمى.

                  في المطار الآخر كانت تنتظرني سيارة أجرة وشاب كوردي هرب بي من حواجز الشرطة الكوردية “الأسايش” وأوصلني إلى منزل صديقي في قلب منطقة النظام العسكرية؛ واختبأت عنده أسبوعاً حتى طلب مني المهرب أن أذهب إلى مدينته، وزودني برقم شاب سيقلني. في طريق ذهابي إليه كنت أخبر الحواجز أني ذاهب إلى دمشق فلا يسألني أحد شيئاً آخر أو يفتشني. عند وصولنا استقبلنا الشاب بسيارة “جيب” سوداء النوافذ، وفيها زوجته وأخته وأمه وأطفاله، فوضعنا في المقعد الخلفي وبدأت رحلة اجتياز حواجز الشرطة الكوردية حتى بلغنا سبعة عشر حاجزاً؛ لم يسأله أحد، أو يفتش سيارته، إلا الحاجز الأخير؛ حيث وقفت شرطية وطلبت التحدث مع النساء في السيارة، وعندما أنزلوا زجاج النافذة، لمحتني في الخلف لكنها لم تتكلم. مررنا وبقيت خائفاً أن تقوم بالتبليغ عنا؛ وفجأة سمعتُ صوت صافرة حسبتها للوهلة الأولى صافرة سيارة الشرطة.. وعندما التفت، مرقت سيارة إسعاف بجوارنا مسرعة، فتنفستُ الصعداء.

                  سمعنا فحيح الأفاعي! عبرنا ساقية مائية، تعثر الأطفال وبكوا.. توجّعت الفتيات من آلام أقدامهن، وتمزق حذائي العسكري من وعورة الطريق؛ تخلى البعض عن أمتعتهم، وسرنا سبع ساعات دون استراحة، حتى وصلنا إلى نقطة كان فيها شاب آخر أخرج من ملجأ قارباً مطاطياً وانطلق بنا إلى النهر. المراصد التركية بعيدة لكننا نراها. استغرق نفخ القارب ساعة استطعنا أخذ قسطاً من الراحة؛ وعندما بدأ عبور النهر إلى الأراضي التركية، كانت اللحظة التي يمكن القول عنها: إنها الولادة.

                  نقلنا أمتعتنا إلى سيارة أخرى، وأكملنا طريقنا حتى اجتزنا آخر نقطة عسكرية في البلدة الحدودية التي تفصلنا عن تركيا؛ وسارت سياراتنا بسرعة جنونية ولحقتنا سيارة أجرة أيضاً؛ وفجأة، اصطفت السيارتان وأنزلونا بسرعة إلى سيارة الأجرة التي احتوت حقائبنا والمهرب شخصياً؛ وسارت بنا بسرعة كبيرة وأوصلتنا إلى بيت فيه سيارة “فان” ومجموعة من الأشخاص في سهرة عادية؛ لكن سيارة الفان كانت مليئة بالناس. وضعونا فيها فوق بعضنا؛ وانطلقت بسرعة.

                  بعد ربع ساعة أنزلونا وبدأنا بالعدو ثم طلب منا قائد المسير أن نجلس، ولما فعلنا، شاهدنا في العتمة ضوءاً أنار وانطفأ، كما وكأنها إشارات “مورس”؛ ثم توجهنا إليه وهناك استلمنا قائد رحلة جديد مع مجموعة أخرى. مررنا مشياً بين التلال الترابية التي على ما يبدو لم تطأها قدم أو تعمل بها يد إنسان منذ زمن – علمنا لاحقاً أنها نقطة اشتباكات بين حزب العمال الكوردستاني والجيش التركي.

                  سمعنا فحيح الأفاعي! عبرنا ساقية مائية، تعثر الأطفال وبكوا.. توجّعت الفتيات من آلام أقدامهن، وتمزق حذائي العسكري من وعورة الطريق؛ تخلى البعض عن أمتعتهم، وسرنا سبع ساعات دون استراحة، حتى وصلنا إلى نقطة كان فيها شاب آخر أخرج من ملجأ قارباً مطاطياً وانطلق بنا إلى النهر. المراصد التركية بعيدة لكننا نراها. استغرق نفخ القارب ساعة استطعنا أخذ قسطاً من الراحة؛ وعندما بدأ عبور النهر إلى الأراضي التركية، كانت اللحظة التي يمكن القول عنها: إنها الولادة.

                  أتى دورنا، جرى المهرب أمامنا وحاولت اللحاق به، فسقطت من على جرف وهشّمت أكواعي على الصخور استمررت بالعدو؛ صعدنا في القارب وجذف بنا. في الضفة المقابلة بدأ صديقي يعدو بدون وعي فذهب في الطريق المعاكس واستمر بالمسير بسرعة دون أن يستجيب لكلامي وكأن مسّاً أصابه وفقد وعيه ورشده حتى أنه عبر مستنقعاً وصل الطين فيه إلى ركبنا؛ واستمرينا في الصعود وكلما وصلنا إلى مصطبة نظن أنه الشارع فنتفاجأ بمصطبة أخرى؛ وبجوارنا يمتد على طول النهر حقل من الذرة، وعندما أضاء المرصد التركي الضوء تجاهنا، دخلنا في الحقل واختبأنا، وبدأنا السير فيه وبعد ساعة ونصف أصابنا الإعياء من شدة العطش والجوع والسير.. فقررنا وقد فقدنا الأمل أن نستسلم للمخفر الحدودي الذي نراه أمامنا. 

                  اقتربنا بحذر من المخفر، ولما وصلنا، سمعنا صوت سيارات الدفع الرباعي تسير بسرعة تجاهنا فاختبأنا مرة أخرى. وبعد مرورها، عدنا بالتوجه إلى المخفر بين الخائف وبين المتأمل وفاقد الأمل.. – شعور غير مفسر وقرار لا منطقي تماماً. وللّحظِ كان هذا المخفر هو بيت المزارعين الذين نسير في حقلهم منذ ساعة ونصف، والسيارات العسكرية التي شاهدناها من بعيد ما هي إلا أدواتهم الزراعية؛ الخوف يخلق أوهاماً لا وجود لها.

                  طرقنا الباب، وأخبرهم صديقي بالكوردية من نحن، فدخلنا واغتسلنا، واستبدلنا ملابسنا، ثم كلموا صاحب المزرعة ليأتي وينقلنا بسيارته إلى أقرب كراج؛ وبعد نصف ساعة شاهدنا المجموعة التي كانت برفقتنا قد وصلت إلى الكراج، حيث إنهم استمروا في البحث عنا مدة ساعتين ونصف. وفي الطريق من الكراج إلى “غازي عينتاب”، أنزلنا حاجز للأمن التركي، وحقق معنا، وبعد التأكد من هوياتنا عممَ أسماءنا على باقي الحواجز للسماح لنا بالوصول إلى عينتاب؛ وفي صباح اليوم التالي كنت وصديقي قد وصلنا إلى وجهتنا واستغرقت رحلة اجتياز الطريق عشرين ساعة تماماً.

                  بقيت سنة كاملة أنام على حافة السرير وبخجل كمن ينام في منزل مضيفه، رافضاً هذا الواقع، وصارت تنتابني نوبات من الهلع وأحلم بالشرطة وبالحواجز واستيقظ هلعاً من أبسط صوت أسمعه! وعندما ذهبت إلى المعالج النفسي، وبدأت أسترجع لحظات الوداع، علمت في تلك الجلسة أني كنت عائداً إلى غرفتي لآخذ مفاتيحي وأقفلها، قبل أن أغادر كما اعتدت على ذلك طوال عمري. 

                  منذ أربع سنوات وحتى اليوم، لم أكتب سطراً واحداً يتعلق بمذكراتي في تركيا؛ لقد توقف الزمن مع آخر نقطة في دفتر مذكراتي.

الصورة: عمل للفنان السوري محمد حافظ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تسعة عشر − خمسة عشر =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى