ذاكرة لجوء

قاب قرارين أو أدنى

 ألقيت التحية على الواقفين وراء الطاولات بالتركية والإنكليزية فأجابني بعضهم بها وآخرون أجابوا بالعربية؛ اتجهت إلى زاويتي التي اعتدت أن أستقر فيها طوال ثلاث شهور الماضية؛ أدخل غالبا بعد الظهر وآخذ هذا المكان حيث يمكن لي أن أشاهد أكبر كمّ من المتبضعين والمتجولين، ويمكن لي أن أسرح بنظري دون حواجز أخرى في حياتي. أطلب طلبا واحدا وأبقى أشربه لساعات ولم أكن أعرف حتى مكوناته، ربما لأني لا أعرف اسم منتج آخر غيره، وكي لا أقع بالإحراج أقول بكل ثقة أريد هذا المنتج وكفى.. حتى أنهم مرة سألوني لماذا لا تأخذ غيره فأجاب البعض بالنيابة عني: لأنه يحتوي على الحليب ولأني لاعب رياضي!؛ “همم!! يوجد فيه حليب إذا!” قلت لنفسي! 

التعليم هنا غاية في الصعوبة على الطالب الأجنبي فكيف إن كان يختص في قمة الهرم التعليمي لديهم، انكببت يوميا على الكتب والأبحاث أقرأ ثلثي يومي تقريبا؛ وهربت من منزلي بعد بضعة أيام قاصدا أي مقهى لأجلس فيه، لم أعد قادرا على تحمل القراءة في المنزل، حتى لو جلست لوحدي دون ان أتفاعل مع أحد، المهم ألا أحس بالوحدة. ليس بعيدا عن منزلي مجمع تجاري فيه سلسلة من أشهر المقاهي العالمية، دخلت أتجول فيه فراقني منظر أحدها من خلف البلور، أحسسته يشبه بعض مقاهي الأفلام، وصرت أتردد عليه بشكل شبه يومي. 

في البداية لم أحتك مع أحد من النُدُل وبقيت أطلب طلبا واحدا، وألتزم مكاني ساعات أقرأ أو أنظر من البلور إلى المارة أو إلى لا شيء. وفي يوم جاءت فتاة ووضعت لوحا إلكترونيا على الطاولة أمامي لتشحنه كهربائيا، وبعد ساعة أتى رجل مُسِنٌ ليأخذه، فاستوقفته وأخبرته أن هذا لغيرك، فأجاب أنها تعمل معه وشكرني؛ وعندما هممت بالمغادرة قام نادلٌ بشكري أمام الجميع على ذلك. في اليوم التالي لاحظت أن الجميع يبتسم لي، ذهبت لأطلب مشروبا فحدثني المسؤول عن فريق العمل بالإنكليزية ظانا أني أوروبي فسايرته، وقدمه لي بالمجان. ثم بدأ الفريق بشكل حذر وفضولي بالتقرب مني حتى اكتشف شاب أصله سوري أني عربي فكلمني بالعربية، وهكذا أصبح الجميع يتحدث معي بثلاث لغات. 

لسنوات اعتدت أن أعيش وحيدا، وفي جو هادئ؛ الجيران هنا لا يراعون أدب الهدوء وتعايشوا مع الضوضاء بطريقة مدهشة، كيف يمكن لهم أن يناموا وصوت التلفاز عند الجار عالٍ أو أثناء لعب الأطفال أو يصفقوا الأبواب بشكل عنيف مهما كان الوقت دون أن ينتابهم أي حس بأن أحدا سينزعج!؛ صرت متأكدا أن هناك سوريتين لا سورية واحدة. لا يسعني النوم كثيرا بسببهم وهذا يجعلني كثير القلق والاضطراب، ومع ضغط الدراسة والأبحاث وهي ستة أبحاث عليّ تقديمها في ثلاث شهور، لكم أن تتخيلوا حجم التوتر الذي مررت به. طول فترة البقاء وراء الكمبيوتر والقراءة تسببت لي بآلام في ظهري وخاصرتي، وتمر أيام لا أحدث أحدا بها إطلاقا ولا بأية طريقة، ولكني أصر على الاستمرار كُرّمى للهدف. 

عندما علمت أن الطالب يستطيع أن يُحضر عروسه من الوطن جوًا، تركت العمل وذهبت لأكمل تخصصي العلمي، هو حلم قديم نعم، ولكني تركت العمل وهو ضروري بالنسبة لوضعي كلاجئ، لأحظى بفرصة أن أحضر عروسي، ومن ثم سأعاود العمل مجددا؛ وبعد فترة علمت أن وضع الطالب لا يقدم ولا يؤخر في الأمر، والعمل لم يعد متوفرا كما كان، فوجدتني ملزما بالدراسة حتى لا ينقطع عني راتب المنحة الدراسية. ومع مرور الوقت وعجزي عن إحضار عروسي زادت المشاكل على البعد بيننا، ووصل الأمر إلى طلب الطلاق.  

يبقى الحل هو الجنسية، رغم أن شعوري بأن قرار تجنيسي سيأتي لكنه سيستغرق وقتا؛ هل أستبقيها وقرار التجنيس ليس في اليد؟ أم أتركها لقرارها وأخسر إنسانا لن يتكرر؟ ترى أيهما سيكون السابق؟، قرار القاضي بطلاقنا؟ سمعت أنه يستغرق أشهر.. أما قرار التجنيس؟

كانت تنتابني وأنا في المقهى لحظات من الانفصال عن الواقع أشرد فيها بوضعي وأطيل، وعندما أشرد كنت أنظر إلى زاوية معينة تلقائيا؛ بعد شهر تقريبا من هذا الوضع، ذهبت لأشتري قارورة ماء من البهو خارج المقهى لأول مرة، فوجدت الفتاة التي تبيع الماء مقطبة الجبين وكأنها تريد توبيخي، بعد أن قفلت عائدا فطنت إلى أنها تظن أني كنت أنظر إليها طوال الشهر الفائت، كونها على مرمى نظري وقت الشرود. 

التجنيس في تركيا للطلاب أمر شائع هنا، لكنه في وضعي مربك قليلا، لليوم لم يصلني تأكيد على الجنسية رغم أن الجميع أخبرني وأكد لي أنهم سيجنسونني، التجنيس سيحل كل مشاكلي، سأرى عائلتي في لبنان، أمي وأبي وأخوتي، سأستطيع إحضار عروسي لأنها ستصبح زوجة تركي دون تعقيدات الفيزا التي أربكتنا أربع مرات دون نتيجة إيجابية، كلهم لم أرهم منذ أربع سنوات. سيكون العمل أسهل لأني عندها لن أضطر إلى التقدم بطلب إذن للعمل وهو أمر معقد هنا لللاجئ؛ سأتجول في تركيا بحرية وأعمل في المكان الذي أجد فيه عملا، سأستفيد من شهاداتي كلها، قد أسافر للعمل خارجا.. كنت أفكر في هذه الأشياء عندما دخل شاب ومعه سيدتان، واتجه إلى طاولة تجلس عليها فتاة وتدرس؛ وقفت السيدتان وراء الفتاة دون أن تنتبه ووقف هو بجوارها وربّت على كتفها، قامت بابتسامة لتسلم عليه فتفاجأت بالسيدتين ورائها، صرخت بصوت شبه مكتوم، وغرت دمعة سريعة وحضنوا بعضهم طويلا، هي والسيدتان.. وقفت الدمعة على رمشي ومسحتها متذكرا أهلي وعروسي ومتخيلا كيف سألقاهم بعد هذه الفترة. 

في المساء، وصلني خبر أن دعوى الطلاق أصبحت جاهزة، وتم رفع الأوراق إلى القاضي، وأن الجلسة الأولى ستنعقد بعد شهر؛ خبر اليوم وضعني في مواجهة مع مرآة الواقع؛ المستقبل هنا مجهول، وأواجه صعوبة في الجامعة قد تدفعني إلى الانسحاب بسبب اللغة، وحاجتي إلى العمل، ولم الشمل ليس بالأمر اليسير علينا بعد أربع محاولات فاشلة، وعروسي ليست بالإنسان العادي لتأتي هنا وتبقى دون أن تعمل وتكنز كل تلك الإمكانات. لو كانت عادية لما أحببتها ولا زلت، يبقى الحل هو الجنسية، رغم أن شعوري بأن قرار تجنيسي سيأتي لكنه سيستغرق وقتا؛ هل أستبقيها وقرار التجنيس ليس في اليد؟ أم أتركها لقرارها وأخسر إنسانا لن يتكرر؟ ترى أيهما سيكون السابق؟، قرار القاضي بطلاقنا؟ سمعت أنه يستغرق أشهر.. أما قرار التجنيس؟ وهو أيضا يحتاج إلى أشهر. إن كان قرار التجنيس أسبق، سأفعل المستحيل حتى لا نترك بعضنا، سأحل كل المشاكل بيننا على سخفها وبداهتها، وسنكون مع بعضنا، وإن كان قرار القاضي.. لا أعتقد بعدها أن لقرار التجنيس نكهة فلن يكون له فرق في حياتي؛ لكني أظن أن قرارها هي هو الأهم، وهي قررت أن ننفصل.. إذا عساه خيرا لها. 

لم أنم ليلتها، كلما أدركت الغفو أقفز فزعا، هو القلق بلغ ذروته، تخيلت أسوء سيناريو قد يجري، أحسست أن السوداوية في قلبي أكبر من هذا السيناريو الذي قد لن يحصل، هناك شيء مفقود فيني، تخيلت أفضل سيناريو، أحسست بومضة خافتة تكاد لا تُدرك في عتمتي، عند الصباح هممت بالذهاب إلى المقهى وحملت كتبي، صارت الذكريات تنهمر علي بطريقة غريبة، تذكرت أن الكثير من حركاتي تقمصتها منها، نبرة صوتي، طريقة تعجبي، ملامح وجهي، همهماتي التي لم يفهمها أحد سواها وصارت لغتنا، ما أحب وما أكره، تذكرت كل ما ذكرني بها في الفترة الماضية وأنا في قمة غضبي منها، وكأن شيئا في الكون يقتص مني، صُدفٌ هندية حصلت في ظروف لم أكن أتوقعها، بت أحس بالضيق في هذا البلد، فكل زاوية كنت أود أن أخبرها عنها عندما تأتي إلى هنا، واليوم صرت أرى الزوايا فأتذكرها وأغصّ؛ أَمّر بجوار مطاعم أعرف ما تحب وما تكره فيها، كنت أحب من يديها نوع من الحلويات وهو بسكويت بالشوكولا يسموه بالتركية “موزاييك”، كانت تخبئ لي القطعة الأكبر عندما آتي لأسهر عندهم. دخلت باكرا إلى المقهى فشاهدني الشاب ذو الأصل السوري، وبدى أنه أحس بحالي، فسألني إن كنت قد تناولت فطاري؟ أجبته بالنفي، وبدأت بالعمل على بحثي؛ بعد دقائق وضع بجواري صحنا وفنجان شاي، وقال: “هذه تقدمة من المقهى”، نظرت إلى الضيافة وكانت قطعة حلوى مغلفة ومكتوب عليها “موزاييك!!” قلت له: “شكرا لكم، يبدو أنها تقدمة من الحياة أيضا”. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 × واحد =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى