ذاكرة حدث

ذكريات محجورة في الرأس

أصبحت أكلم نفسي كثيراً، لم أعد أكلم الورق، ما عدت أرغب أن أثقل كاهله بكل الذكريات المؤلمة التي تجول مخيلتي كل حين.. تآلفتُ مع تلك الذكريات وألفتني، ولكنني نسيت كم أني هشٌ أمام الوحدة، وكم أني ثرثار أمام الجدران المغلقة.

في اليوم الثامن من الحجر الإرادي لنفسي بسبب فيروس “كورونا”، بدأت تظهر علي أعراض الذكريات جلية؛ وعادت دموعي لتكون أقرب وأقرب للانفجار، والذكريات تعصف برأسي، وبركان الوجع بدأ بالثوران.

جلست خلف نافذتي المطلة على الشارع الخالي إلا من بعض المارة بين الفينة والفينة، صدقوني حينها لم أكن أرى من يمر، بل كنت أرى ما مرَّ خلال تسع سنوات خلت، واتضح أن ما حجرته في عقلي بدأ بالتسرب، بدأت “كورونا” الذكريات تتفشى بحاضري، وما كنت أهرب من ذكره داهمني مرةً واحدةَ في ثمانية أيام من الوحدة فقط، توصلت حينها لمعلومة طبية خالصة وهي: أن حجر الذكريات يزيد من تفشيها..!

أول ما اقتحمني آذار 2011 عندما كنت محجوراً في علية بيتنا في حي الحميدية لثلاثة أيام متتالية، هروباً من “كورونا” الأمن السوري في مدينتي، عندما قام بمداهمة الحي للبحث عن عناصر للجيش الحر كانوا قد لاذوا بالفرار بعد مجزرة “الرصافة” الشهيرة، خبأني والدي بعد علمه بأن الحي محاصر ولا أمل لي في الخروج منه، وبقي في البيت ليكون خط الدفاع الأول عني في حال حاول أحدهم تفتيش العلية، كم كرهت وقتها تلك العلية المتروسة بالكتب وقدور النحاس، لم أكرهها بقدر كره نفسي.

في اليوم الأول من جلوسي في العلية لم يأت أحد، كان صمت المكان يطبق على نفسي، وسيناريوهات الاقتحام المرتقب تحتلني، كيف سيدخلون؟ وما سيفعلون بي؟ هل سيعيثون بالمنزل الذي تحافظ أمي على نظافته أم سيدَّعون الاحترام؟ مرَّ اليوم الأول دون أن يحدث ما خشيته.

أما اليوم الثاني كان أقل توتراً، فقد أحسست بأنهم لن يأتوا حينها، بدأت بتقليب الكتب التي أمامي لأسلي نفسي، وحوالي الساعة الرابعة مساءً سمعت أبي يقول لي:

-اختبئ يا بني ..الكلاب في الحارة.

التزمت الهدوء الكامل خلف خزان الماء، كان قلبي يدق بعنف، وكل جوارحي في حالة تأهب قصوى. سمعت صوت أبي وهو يرحب بهم ويدعوهم لشرب فنجان قهوة، تكورت في مكاني، أغمضت عينيّ، وادعيت الاختفاء!  تكورت كما تتكور الآن آلاف العائلات في منازلها خوفاً من ذاك الفيروس الذي يدخل منازلها دون استئذان، نعم أيها العالم نحن قبلك تعلمنا الهروب من المحتوم، نحن قبلك نتقن فن الخلاص.

لم أعلم كم لبثت على حالتي تلك، ولكن الذي أعلمه أن الطمأنينة أتت دفعة واحدة، وبكلمة واحدة، حين قال والدي اطمئن لقد رحلوا ولكن لا تنزل من عندك فهم في الحارة الآن.

بقيت في العلية بقية اليوم، واليوم الذي يليه خوفاً من مداهمة أخرى، ولكن الأمور مرت بسلام، ولم يتمكن فيروس الأسد من إصابتي حينها.

أخرجت نفسي من وهم الذاكرة للشارع مرة أخرى في فاصل بين الذكرى وأختها، راقبت وجوه من مروا لأرى المارة وهم يرتدون الكمامات الطبية في الشارع. منظر تلك الكمامات أعادني مباشرة لذكرى أخرى أشد رعباً من سابقتها، وتحديداً للمشفى الميداني الذي عولجت فيه حين أصابتني قذائف الأسد، والتي كانت تهطل على الأحياء المحررة كزخ المطر دون توقف ولا هوادة محاولةً حصد أرواحنا الثائرة وبقايا ربيعنا.

مشهد الممرضين والأطباء وهم يحاولون معرفة مكان الإصابة، وكلامهم غير المفهوم، وأنا بين الواقع والخيال، والألم الذي سكن جسدي لأشهر بعدها، وصورة أمي وهي تحوم فوق رأسي كملاك حارس تبعد عني شبح الموت،ما زالت تلازمني حتى الساعة.

ارتسمت على وجهي ابتسامة صفراوية لا تخلو من الغرور، فشتان بين شعب كان يحاول الاختباء خلف الجدران والبيوت هروباً من فيروس الهاون وراجمات الصواريخ، وبين عالم يختبئ من فيروس خلف كمامة! كم هم مساكين وكم كنا مظلومين، أحببت ولأول مرة غروري أمام هذا العالم الشاسع، فأنا كنت أمتلك الموت والحرية معاً في حيي الصغير، وهم الآن يمتلكون الخوف والعزلة في كون شاسع.

للحظة ما عادت تلك الذكريات تزعجني، وأنا من بدأ يستحثها للخروج، ما الذي يحدث معي الآن؟ هل سادية ما مررت به تمكنت مني أخيراً؟ قلبت بين الذكريات لاستحثَ أكثرها رعباً وعزلة، لم تكن ذكرياتي الأخيرة مع “كورونا” الأسد، بل كانت مع “كورونا” داعش ذلك الفيروس الأكثر فتكاً بين فيروسات الاستبداد والوحشية.

ففي أواخر عام 2014 وحين سيطرت الغربان السود على مدينة ديرالزور، كان لابد لي من حجر أخير، حجر رغم قسوته إلا أنه كاد ينهي حياتي، فعملي في منظمة إنسانية كان جريمة لكل عدو لتلك الإنسانية، ومن قد يكون عدواً لإنسانيتنا أكثر من ذلك التنظيم الوحشي، ذاك الوباء الذي لم تعلن المنظمات الطبية عن تفشيه في الأرض، ولم تجد له علاج حتى اللحظة، وباء يصيب العقول ليحول البشر لقتلة أقرب ما يكونوا لأكلة لحوم البشر في الدموية والقتل.

أشفقت هذه المرة على العالم، فأنا تمكنت من الهروب من وباء داعش، ولكن هذا الكون حوصر بوبائه دون مقدرة منه أن يهرب حتى من منزله، فجأة تحول غضبي وحقدي على هذا العالم لسيل من الشفقة، وكأني لست معنياً بما يحدث فوق تلك الكرة الأرضية، أو أن ما حدث معي كسوري أو يحدث مع إخوتي جعل مصيبة العالم تلك تبدو لنا كرفاهية لسنا بحاجة لها، فما الذي سيحدث لنا أكثر من كوننا محجورين في مدينة إدلب ومن كل العالم، وبقيتنا محجورون في كم من الوجع والألم لا يعلمه إلا الله.

اختبأت منهم لحوالي الشهر كي لا تطالني اعتقالاتهم التي طالت معظم أفراد منظمتي، وهربت من تحقيقهم والذي وصفه جميع من حضره باستنساخه من تحقيق الأمن السوري بقسوته وذله، ولكن أعينهم كانت تلاحقني وتراقبني وتترصد كل تحركاتي –وإن كانت قليلة– والنية كانت واضحة، سيأخذون رأسي مرغماً، إما لتعبئته بأفكارهم، أو لاقتلاعه من مكانه.  في حالتي لم يكن الحجر المنزلي نافعاً ولا الاحتياطات الطبية، وحتى الكمامات لم تكن لتردع ذاك الفيروس من غزوي في قعر داري، وهو ما جعلني أهرب بعيداً عن مدينتي التي أقسمت مراراً على الموت فيها مهما حدث.

أشفقت هذه المرة على العالم، فأنا تمكنت من الهروب من وباء داعش، ولكن هذا الكون حوصر بوبائه دون مقدرة منه أن يهرب حتى من منزله، فجأة تحول غضبي وحقدي على هذا العالم لسيل من الشفقة، وكأني لست معنياً بما يحدث فوق تلك الكرة الأرضية، أو أن ما حدث معي كسوري أو يحدث مع إخوتي جعل مصيبة العالم تلك تبدو لنا كرفاهية لسنا بحاجة لها، فما الذي سيحدث لنا أكثر من كوننا محجورين في مدينة إدلب ومن كل العالم، وبقيتنا محجورون في كم من الوجع والألم لا يعلمه إلا الله.

لأول مرة منذ سنين أحسّ بهذا الكم من الرضا والسكينة، شكراً كورونا لأنك أخرجت ذاك السواد من رأسي، شكراً لك لكونك كنت عادلاً حتى في ظلمك، شكراً لأنك حجرت الجميع وساويتهم بنا، ولكن أتمنى منك ألا تطيل ذاك الظلم، فمن عاش الظلم لا يرغب فيه حتى لعدوه، أرجوك ابتعد عن الإنسانية.. الآن فقد تعلم العالم درسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ستة عشر + 4 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى