ذاكرة مكان

شرفة على طرقات خاوية

 لم يكن للقرار تغييرا جوهريا في حياتي هنا، كنت قد اعتدت على مراقبة الحياة من خلف نافذتي، رغم أني حاضر في الكثير من خيوطها، لكني كمن يعزل نفسه دائما خلف زجاج يراقبها دون أن يجرأ على أن يبتل بها. رغم قرار الحجّر الصحي، إلا أن الحياة عادت إلى بعض البيوت في حينا التركي؛ إنها مُنارة لأول مرة منذ شهرين، لقد عاد سكانها بعد أن قررت الحكومة التركية فرض الحجر لأسبوعين، فالشباب يتركونمنازلهم ويذهبون ليعملوا أو يدرسوا في ولايات أخرى، وهذا الحجر فرصة لهم ليعودا إلى بيوتهم وأهلهم. في عيد الأم شاهدت نوافذ تعج بالأولاد والشباب تُصفق وتصفّر وتصيح تحية للأطباء، لقد كانوا كثر ويحتفلون مع أمهاتهم غير عابئين بالمرض والتحذيرات منه، كان له مفعول عكسي فغالبا لمّ المرض شملهم مع عائلاتهم، وأتمنى أن يبقوا كذلك.  

لم ينل المشهد في الخارج جزءا من مشاعري، رغم أني صَفّقتُ وصديقي التركي معهم من على شرفة منزلنا؛ فكرت للحظة أن هذا الشعب جميل رغم كل انقساماته وملامحه القاتمة أحيانا، إلا أنه يستطيع أن يقف على رأي عموما في مصلحة بلده، ويدعم من يدافع وينوب بالدفاع عنه في وجه عدو مجهول. كنت أتأمل المشهد وفكري عند عائلتي حين كلمتهم ولم يجيبوني.   

فلقد اعتقل فرع الأمن أخي في سورية على أثر قانون الجرائم الإلكترونية منذ شهرين تقريبا، وخرج بعد ثلاث أسابيع مريضا يعاني من ألم في صدره؛ قال له الطبيب إن لديه التهابا في الرئتين. ليعاود الأمن اعتقاله بعد يومين في مكان ما، وبقينا شهرا كاملا دون أن ندري أين هو، كنّا نظن أنه أراد أن يبقى لوحده فترة، فاختفى ريثما تخف زيارات الاطمئنان عليه من الأقرباء والمقربين، فهو غير معتاد على مخالطتهم؛ إلى أن جاء رجل وأطلع أهلي على مكانه، حيث كان معه معتقلا. من خلال نافذتي كنت أراقب التصفيق والجو الاحتفالي وأتحسر على مشهد نفتقده في بلدنا وهو الانتماء له. 

منذ ساعات حاولت أن أكلم أهلي، إنه يوم الأمّ، وأبي وأمي مسنين، حاولت الاتصال بهم ولم يجيبوا، وبُعيد محاولة استغرقت ساعة، استطاع والدي الرد على الهاتف، لقد كان أخي ينوب عنهم في هذه المهمة، فهم لم يعودوا قادرين على استيعاب هذه التكنولوجيا. كلمت والدي وكان تعبا ومشتاقا، وفي قلبه حسرة أنه لم يعرف كيف يجيب على الهاتف وأنا أتصل به مرارا، وزاد الأمر سوءا ضعف الاتصال وتقطعه. سألته عن أمي، فقال لي: “تغط في النوم بسبب الدواء!”، “دواء! أي دواء؟ لم الدواء؟”، “الأمر بسيط، لديها أعراض إنفلونزا، سعال جاف وحرارة وألم في البلعوم وارتخاء في البدن”؛ نسيت بلحظتها أن أسأله عن الخبز، وكيف يتدبرون أمورهم وفق إجراءات التوزيع الحكومية الجديدة لهذه المادة، وهم المسنون ولا جلد لديهم على الزحام، وخطر انتقال العدوى إليهم أشد في هذه الحالة!؛ أحسست بالاختناق، وضغطت على حنجرتي لأصدر صوتا وطلبت منه بإلحاح أن يوقظها، ولما أفاقت، صوتها أربكني، وسعالها جرح روحي؛ وتعب عيونها من بكائها وهمها كاد أن يُفلت مني دمعة، من خلال نافذتي أنا لا أفعل شيئا ولا حتى أراقب الحياة، أنا شبح أو وهم ليس له أي أثر أو تأثير، أنا هَلَسٌ في عقول من يعرفوني فقط.  

هواء قاتل دون جواز سفر يقطع الحدود وحواجز الأمن، ينسل تحت بنادق العسكر وفوق قرارات السياسيين، لا تستطيع البوارج ولا البروج إيقافه، أحسده كيف أسقط عن نفسه جواز السفر وأخذ كل الجنسيات، بل خطر لي أنه ربما يكون طوفانا سومريا جديدا، ولا بد لنا من طوق نجاة. ترى ما هو حال أخي الآن؟، التقارير تقول إن الفيروس انتشر في السلك الأمني بسبب اختلاطهم مع الإيرانيين، وأخي دخل المعتقل قبل الحجر الصحي في سورية، وهو أساسا لديه مشكلة صحية؟ والآن أمي تعاني من أعراض أتمنى أن تكون أعراض حساسية الربيع. طلبت منها أن تحبس نفسها لعشر ثوان، فضحكت وقالت لي: “لن أستطيع بعد هذا العمر التقاط أنفاسي وليس حبسها”. هزئت من نفسي، ماذا أحاول أن أفعل؟ 

أنهيت بشكل حميمي الاتصال كما يجب أن يكون في عيد الأمّ، مُطَمْئِنَاً ومُشَجِّعَاً وداعما ومهنئا؛ أمسكت هاتفي لأرى ما بوسعي فعله، فتحت على سجل الأرقام، كان عدد جهات الاتصال في هاتفي عندما كنت في سوريا يزيد عن الألف بعضها خارج سوريا، اليوم عدد الجهات لا يصل إلى خُمسها وبعضهم في سوريا. ليس بيدي الكثير، ربما ينفعني الفيسبوك! في ذلك الإطار الرقمي خزنت كل عمري؛ وعلى جداره قرأت: أرقام الطوارئ في تركيا عند اللزوم، الإجراءات والقرارات التركية، عدد الحالات والوفيات في تركيا، الوقاية والحملات في تركيا؛ وسخرية!.. ممن؟! من النظام السوري الذي لم يعلن حتى وقتها عن أي إصابة!، وتمني بتفشيه حتى يستيقظ الناس إلى مقدار سفالة النظام!، ودعوات أخرى ألا يبقى أحد دون أن يطاله المرض ممن يعيش في مناطق النظام!  

الحيوانية أيضا مفهوم نسبي من حيث الوعي والزمن. أن تُحسّ بعجز تام تجاه أعزّ الناس عليك، دون وجود أحد يمكن أن يشاطرك همومك وهواجسك، ثم ترى من يتمنى السوء لمن تعجز عن مساعدتهم وهم في سوء. وقفت من فوري وواجهت نافذتي، لا يوجد أناس في الشوارع، الناس تلتزم بالتعليمات الحكومية هنا، والحكومة أمنت كل شيء لتبقي الناس في بيوتها، وفي وطني! كيف سيتمكن أهلي من تأمين ربطة خبز دون أن يصيبهم مكروه؟

أدهشني ما قرأت، وكلٌ منا يندهش بطريقته، فالدهشة مفهوم نسبي حسب ردة الفعل، بعضنا يفتح فاه وينشده، بعضنا يبتسم ويتلفظ بعبارات جميلة، لكني بلحظتها تمتمت بكلام نَعَتَ من تمنوا مثل تلك الأمنيات؛ إنّا حين أدركنا طباع الحيوانات علمنا أن هذه الكلمة حسب معانيها الزمنية السابقة لا تعني السفالة التي نريد أن نصف بها بني البشر عندما يتصرفون بطريقة لا إنسانية، الحيوانية أيضا مفهوم نسبي من حيث الوعي والزمن. أن تُحسّ بعجز تام تجاه أعزّ الناس عليك، دون وجود أحد يمكن أن يشاطرك همومك وهواجسك، ثم ترى من يتمنى السوء لمن تعجز عن مساعدتهم وهم في سوء. وقفت من فوري وواجهت نافذتي، لا يوجد أناس في الشوارع، الناس تلتزم بالتعليمات الحكومية هنا، والحكومة أمنت كل شيء لتبقي الناس في بيوتها، وفي وطني! كيف سيتمكن أهلي من تأمين ربطة خبز دون أن يصيبهم مكروه؟ تذكرت حين سمعت أصوات الصحون تعلن موعد وجبة العشاء التقليدية التركية أجواء الإفطار في رمضان إنها تماما هي، الناس تلتف حول الموائد وتخلوا الطرقات، وتسمع صوت الصحون والملاعق من بعيد، لكن القلوب غير مطمئنة كما في رمضان.. الناس ترتقب أخبار الحرب البيولوجية بقلق كما لو كانت حروبا كلاسيكية، لا يمكن أن نعلم أخبارها فورا مثل اليوم، بل كان على الناس أن تنتظر رسالة أو بيانا أو عابر سبيل ينقل ما جرى.. المعارك اليوم في المشافي، والعدو غير مرئي في العين المجردة، والخوف يفاقم الأزمة ويخلق ما يحاكي الوهم وليس الواقع. 

بين هذه العواصف كنت أحاول أن أبحث عن الهدوء في داخلي، أغمض عيناي وأتخيل نفسي في قمرة مكيفة من زجاج، تعزل الصوت وتعوضني عنه بموسيقى كلاسيكية هادئة، أرى الصحراء والرياح العاتية خارجها وأعلم أنه لن يصيبني شيء منها وأنا في داخلها. وبينما أنظر من شباك شرفتي في هذه السكينة المفتعلة، اخترق الصمت فجأة صفير وصفقات خجولة ما لبثت أن امتدت مكانا وشدة لتصبح في بنائنا وينقطع أي مصدر صوت آخر سوى صديقي التركي الذي دخل وفتح باب الشرفة ليخرجني ونقف مصفقين وهو يقول لي بما يشبه الصراخ لأسمعه: “تحية لأطبائنا وممرضينا الذي يواجهون الكورونا”. 

اللوحة لبابلو بيكاسو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنا عشر − 12 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى