عيد بلاستيكي
لست وحدي، معي سبع وثلاثون سنة مكدسة في ذاكرة إلكترونية وفي صور مخفية على الفيسبوك لا يستطيع رؤيتها أحد غيري، قبل الأجهزة الذكية لم يكن الفلاحون يكترثون لألبومات الصور أو الجلاء المدرسي أو الهدايا غير المفيدة، لا دروج خاصة، لا تذكارات أو لوحات على الجدران، لذلك فر عشرون عاماً من قبضة العالم الرقمي، لكنها محفورة في الشرارات بين فروع الأعصاب وفي أنبوب الكيمياء الذي يحول الأحداث إلى ذاكرة في خلايا الدماغ/الإسفنجة.
يبكي الأطفال كثيراً في الريف ليلة العيد قبل أن تيأس الأمهات من كرم الآباء المفلسين، فيستدنّ سراويل وقمصاناً لأطفالهن، ثم ينتقمن لكبريائهن المسفوح أمام الباعة الصغار في القرى الصغيرة بالأعذار المطولة عن كثرة الأولاد ومرض الأبقار وموت الدجاج وقلة المطر، فينقعن أولادهن بطشوت نحاسية ويفركن وجوههم بالليف المقلوب وأقدامهم بالسِّيف، وبين هذا وذاك صفعة هنا وصفعة هناك ولعنات لا تنهي على الأب والأم والجدود، بالنسبة لأمي، كانت أرق قلباً من أن تضربنا فكانت تشد خدودنا بين إبهامها وسبابتها المعقوفة، ومن ذلك أورثتنا وجوهاً مستديرة وكوتها شموس الصيف المتعاقبة فأصبحت كأرغفة خارجة من التنور، ما أجملنا معبئين في ثياب النايلون الرخيصة وقد تدرج اللون في وجوهنا من الأحمر إلى الأسود، ذات مرة وصفت لي صديقة في كلية طب الأسنان جمال الطلاب الآتين من الريف وقد لفحت سمرة الحصاد وجوههم في عطلة الصيف حتى أن في سمرتهم من الإثارة ما يكفي لجعلها تحبهم لعام دراسي على الأقل، منذ ذلك الوقت انسجمت مع لون بشرتي، وأحيانا أقف أمام المرآة فأهمس في سري: “تخيل أنك أبيض.. أبيض حد البرص”، فيميل فمي إلى اليسار ساخراً، أقسم أن أطفال الريف الفقراء يصبحون أجمل من غيرهم أيام العيد.
أما الآن يمر العيد حيادياً كأنه أحد المارة الغرباء في المدن المزدحمة، ربما لم يعد يعرفني فقد حولتني المياه الكلسية إلى كائن طبشوري أفقد جزءاً مني في كل خطوة وكلما احتك كتفي بأحد أو بجدار، حتى الكلام يحتّني من الداخل ولم يبق لدي ذخيرة كبيرة منه، لم أعد إلا جوفاً محاطاً بجدار رقيق من الطبشور الهش المثقوب من أسفل إبهام القدم اليسرى، الفقراء يخبئون ثقوب جواربهم تحت الأصابع كذلك، وحين يشتد فقرهم تتسع الثقوب فيظهرونها متجاهلين شزر النظرات، في العيد الماضي غامرت بخسارة 3 ملم من جدران قلبي فتكلمت إلى صديق دمشقي: “في العيد تجلي الأمهات الريفيات أطفالهن فيصبحوا جديدين كأطفال المدن”.
ثم سيتحد نشيجهم في المخيمات وفي الأحياء العشوائية على أطراف العواصم العريقة مؤذناً بكارثة قادمة، وغداً تعلو الشمس بمقدار رمح، لا جلبة في المنازل.. لا منازل، ستقام صلاة العيد بلا أطفال مكويين في ثياب من النايلون، لن يكون هناك مقابر تجمع الأقارب والأصدقاء، فلمن ستقرؤون الفاتحة؟!، وهل سترن قطع العملة المعدنية في جيوبكم معلنة دوران المراجيح وانفجار الفتيش والمسدسات المائية؟!
ضحك حتى ثار غبار أبيض من فمه: ” لقد أجاد أطفال المدن لعبة بيع المحارم عند إشارات المرور وأمام الملاهي وللثملين في بارات الأرصفة”.
لم يكد ينهي كلامه حتى وضعت فتاة صغيرة علبة محارم على الطاولة دون أن تنبس بكلمة، ولم يكن صمتها خجلاً بل ثقة بطفولتها التي لا تقاوم، كانت قمحية صافية كأنها مغطاة بقشرة شفافة من الكريما بعينين عميقتين كأنهما اصطدام المجرات، قلت:
- ما اسمك؟
- منى
- كم عمرك؟
- سبعة
- من أين أنت؟
- من فلسطين
- من أين من فلسطين؟
- من كل فلسطين
- لكن لهجتك سورية، ألست من سورية؟
- عمو، من أين أنت؟
- من سورية
- هل ستشتري المحارم إذا أخبرتك الحقيقة؟
- نعم، أعدك.
- انا من سورية
- لماذا كذبت علي؟
- لأن الناس لا يعطون السوريين مالاً، يقولون عنهم لاجئين شحاذين، اذهبوا و… (حركت يدها كأنها تنفض شيئاً عن أذنها)، إنها كلمة بذيئة
- من أين أنت من سورية؟
- من كل سورية، أليست سورية واحدة؟
- نعم واحدة، ولكن هناك الحوراني والشامي والحلبي والديري…
- آه، أمي من حمص، ولكني لا أعرف من أين أبي، فهو ميت، أما أنا فمن سورية، أنت من أي سورية؟
- أنا حوراني، وصديقي شامي
- إذاً أنا حورانية (ضاحكة من قلبها كعصفورة)
- هل تتركين أهلك وتذهبين معي؟ سأدخلك المدرسة
- أنا أذهب إلى المدرسة كل يوم
- لن أدعك تبيعين المحارم بعد اليوم
- أنا أحب بيع المحارم
- سأشتري لك عيداً
- هل معك مال كثير؟
- ما يكفي لشراء عيد بلاستيكي
- عمو، أيوجد عيد بلاستيكي؟! (اتسعت فتحتا عينيها أقصى ما تستطيعان فكأن نجوماً ستسقط منهما على الطاولة)
- من ماذا تصنعون العيد في العادة؟
- لا أعرف، أمي لا تصنع الأعياد، لكن العيد يصنع من المصاري، فأنا أجمع في أيام العيد ثلاثمائة ليرة تركية بينما لا أجمع في الأيام العادية أكثر من مئة وخمسين ليرة.
عمو، وأنت، ماذا تعمل؟
- أكذب على الناس
- إذاً، لن تشتري لي عيداً.
- بل سأشتري، أنا وعدتك خارج وقت عملي، فاليوم عيد كما تعلمين، أنا في عطلة، ففي العيد لا يحتاج الناس لمن يكذب عليهم، إنهم يكذبون على بعضهم كما لو كان الكذب صنعتهم وصنعة آبائهم.
سأعرض عليك خيارين: إما أن أشتري لك لعبة بخمسين ليرة أو أشتري منك علبة المحارم بعشرين ليرة.
- ألا تستطيع أن تفعل الشيئين معاً؟ (ابتسمت بمكر)
- لا، اختاري
- عمو، ما الذي تشربه؟
- ماءً أبيضَ
- أنت تكذب يا عمو، ألم تقل إنه يوم عطلتك، انا أعرفه، إنه عرق، أنت تصرف مالك لكي تفقد عقلك، المجانين لا يفعلون ذلك.
- إمممممم، أنا أشرب لكي أستطيع الاستمرار في عملي، الكذب يحتاج لتفكير عميق، والناس لا يحبون تكرار الأكاذيب ذاتها، صحيح أنها تنطلي عليهم دائماً، لكنهم يفتنون بالأكاذيب الحديثة.
أصبح عليك أن تختاري، أأشتري لك اللعبة أم أشتري منك العلبة؟
قلت هذا وأنا ألوح لها بعشرين ليرة تركية خضراء، فاختارت العشرين ليرة وأحست أنها خدعتني وظفرت بغنيمة، وأدارت ظهرها تاركة علبة المحارم على الطاولة، ثم قفزت عن حافة الرصيف وصاحت:
- عمو، أبي ليس ميتاً، إنه مصلح أدوات كهربائية، وأمي ليست من حمص، أعدك ألا أكذب في العيد بعد اليوم.
لست وحدي هذا العام؛ معي مستطيل ذكي لا يخذلني أبداً، يصنف الأيام ويجدول السنين، حتى أن الفيسبوك يذكرني بما كتبت قبل ثلاثة أعوام باليوم والساعة، إنه يختصرني بكبسة زر واحدة تكفي لرسالة جماعية لا روح ولا خصوصية فيها، للكثير من الإعجابات التي لا معنى لها، فساعة من كآبة تكفي لأوزع خمسمائة (لايك) هنا وهناك، كثيراً ما فكرت في العودة إليها وإلغائها، لكنها آخذة بالكثرة كلما ازداد المحتوى تيبساً وسخفاً، إن الكآبة تفسد الذائقة حد الميوعة.
وخارج هذا المستطيل سيبكي الليلة صغار اللاجئين حتى ييأسوا من كرم آبائهم المفلسين، ولن تسعفهم الأمهات أو يفركن وجوههم وأقدامهم، ثم سيتحد نشيجهم في المخيمات وفي الأحياء العشوائية على أطراف العواصم العريقة مؤذناً بكارثة قادمة، وغداً تعلو الشمس بمقدار رمح، لا جلبة في المنازل.. لا منازل، ستقام صلاة العيد بلا أطفال مكويين في ثياب من النايلون، لن يكون هناك مقابر تجمع الأقارب والأصدقاء، فلمن ستقرؤون الفاتحة؟!، وهل سترن قطع العملة المعدنية في جيوبكم معلنة دوران المراجيح وانفجار الفتيش والمسدسات المائية؟!
قولوا إذاَ لهذا الشيخ المتكرر جيئة وذهاباً في قاع جراحنا:
دع أطفالنا ينامون بلا بكاء، واترك لنا سنيناً تكفي لحزننا.