ذاكرة حدث

ذاكرة رجل مقتول

رأيتُني محمولاً على الأكتاف وأصوات العشرات تشيعني بحناجر ملتهبة، فيما جموعٌ تموج غاضبةً وهي تصرخ بالثأر لهولِ الجريمة التي ارتكبت بحقي، أو هكذا بدا لي..! إذ كنت غير قادرٍ على الحراك.  شعرتُ قلبي يتقاسم نبضه بين خوفٍ عميق وسعادةٍ غامرة لم أختبرها قبل الآن لكأنها لحظة استراحة النفس من زنزانة الجسد المنفردة. كذلك وجهي كان يضحك ويبكي فيما صوتي يغرق مستسلماً في فجٍ عميق. حاولت جاهداً أن أرفع يدي، إلا أن أحداً لم ينتبه من المشيعين المتأهبين للثأر، ولأنني أدرك جيداً ما تتركه رغبة الثأر العميقة في نفوس الناس فقد أيقنت بأنني ذاهبٌ إلى الهاوية.

ولكن من هؤلاء ؟!! حتى أنني لا أستطيع أن أميز وجوههم .. صرختُ أخيراً .. كان أشبه بصراخ قردٍ غاضبٍ في حديقة الحيوان .. هتف أحدهم .. “إلى المقبرة إلى المقبرة،.. الجثمان في حالة استعصاء” 

يا إلهي ما الذي يجري ..!  أصابني الهلع وأنا أراقب ما حولي علي أجد شيئاً أتشبث به .. عليهم أن يدركوا أنني ما زلت على قيد الحياة وأن اختيارهم للمقبرة كمكانٍ أخيرٍ أسجى إليه هو خيارٌ غير عادل وربما لو فكر أحدهم الآن بدغدغة قدمي لتبين له أنني أبتسم، لكنهم كانوا غاضبون ويطلبون الثأر، وليس لثأرهم أن يتحقق إلا إن أسرعوا في إجراءات الدفن. طفق الجميع يركضون بجثتي وهم يهلهلون بالتوحيد ” لا إله إلا الله لا إله إلا الله”.  وجدتني فجأة عند مدخل بهوٍ طويلٍ باردٍ وموحش فيما ما زالت الجموع تصرخ غاضبة وأنا أميز في آخر البهوِ وجه فتاةٍ بدا مألوفاً بالنسبة لي، رفعت رأسي قليلاً لأستوضح ملامحها أكثر حتى تبدت لي الفاجعة .. 

  • لينا .. !! (قلتها في نفسي)

تلك الفتاة السمراء الطيبة الجميلة التي أحبتني حتى الموت. عاودتُ الاستماع بانتباه أكثر لأصوات الجموع التي تتقدم اتجاه لينا بخطوات أبطأ. الآن فقط أدركت ما يجري..! أنهم يطلبون الثأر مني وليس لي. لا بد أنني ميت حتى أرى لينا متجسدةً أمامي بعد سبع سنواتٍ من انتحارها…! لقد أرادته انتحاراً ملحمياً مفاجئاً رومانسياً وفاضحاً. فعلت ذلك عندما صورت نفسها ضمن عرضٍ مباشرٍ على الفيس بوك شاهده مئات الآلاف حول العالم، كانت تستمع إلى إحدى أغاني البوب وهي تنتقل من الصالون إلى شرفة البيت، ومع أن الموسيقى كانت صاخبة إلا أن لينا كانت تتلوى بجسدها ضمن حركاتٍ بطيئة لكأنها تستمع إلى موسيقى الجاز، هذا التناقض بين حركات رقصها وصوت الموسيقى جسّدَ انفصالاً متقناً للحواس متمايلةً بجسدها النصف عاري ورقبتها الطويلة حاملة زجاجة البيرة بابتسامةٍ مغمضة العينين. لقد أرادت أن تجعل من انتحارها حدثاً عالمي، أو علّه احتمالٌ من الاحتمالات التي تكهن بها المتابعين الذين علقوا على حادثة انتحارها تحت الفيديو المعروض على صفحتها الشخصية، إذ أنها في تلك اللحظة وقفت عند سور الشرفة وهي تشعل سيجارة، ثم أوقفت الموسيقى وراحت تغني بصوتٍ شجي ما بدا أنها أغنية الجاز التي كانت تتراقص عليها، فيما ما زالت تسلط كاميرا الموبايل على وجهها ولكن لا شيء يوحي بأنها ستقدم على الانتحار، لكأنه قرارٌ كان ابن لحظته ودون سابق تصميم. 

ها هي الآن متجسدة أمامي في آخر البهو والجموع الغاضبة تسير بي نحوها، ولكن متى كانت تلك اللحظة التي فارقتُ بها الروح لأجد نفسي وجهاً لوجه قدام لينا وهي ترمقني بعينين دامعتين وحسرةٍ حاقدة، بدأتُ أتمنى أن يكون هنالك موتٌ آخر يستطيع أخذي أبعد من موتي الحاضر كي لا أقف أمامها هذا الموقف الجلل، إذ ما زلت أشعر بالذنب والخزيّ من ذلك الاستغلال الوقح لمشاعرها.  كان ذلك بدايات قيام الثورة في سورية، حيث كنت أعمل على تنسيق المهام بين جميع التنسيقيات الثورية في دمشق، يومها اتصلت بلينا وأخبرتها أنني أنتظرها في إحدى بارات دمشق التي اعتدنا أن نلتقي بها وقد استغربَت اتصالي حينها، خاصةً أنني كنت قد أنهيتُ علاقتي بها لشدة تعلقها بي.  فضمن حياتي السابقة كنت شخصاً أنانياً وفظاً في إنهاء علاقاتي الجنسية السريعة تحت مسمى سخيف يُكنى بالمصارحة،  وأن الجنس شيء والحب شيء آخر، وما ذاك إلا تشدقٌ مخاتل كنت أخبئ خلفه بداية ارتباطي بفتاةٍ أخرى  استحوذت حينها على رغباتي جميعها.  أما بالنسبة ل “لينا” فعلاقتها بي كانت أفضل شيء حدث لها في حياتها الرتيبة، مع ذلك، وبالرغم من القسوة التي تركتُها تتخبط بها وحيدة،  إلا أنها لم ترفض طلبي عندما دعوتها وجاءت مسرعةً تملؤها الفرحة إلى ذلك البار.

 أعلم تماماً أن كل اللطافة التي أحطتها بها ليلتها كانت من أجل شيء واحد، وهو أن تقبل عرضي في إيصال بعض أموال التبرعات إلى منطقة الحجر الأسود المحاصرة في جنوب دمشق آنذاك، حاولت إقناعها أن الكوادر الطبية هناك عاجزة عن إيصال الجرحى إلى المشافي وأن الناس فقدت أعمالها بسبب الحصار الجزئي المفروض من قبل النظام على المنطقة والمبلغ الذي سأرسله معها سيكون من أجل غاياتٍ إنسانية، يومها تفرست في وجهي وعيناها تطفحان بالدموع 

  • إنك لا تخشى علي (قالتها بغصة)
  • بالطبع أخشى عليكِ .. ولكن صدقيني لا يوجد أحد آخر أثق به أكثر منك 
  • لأنني علوية وابنة ضابط ولن يرتاب أحدٌ في أمري، أليس كذلك  (قالتها بغضب)

أجبتها وقد استبد بي غضب مماثل – كانت تحبه في شخصيتي- ، أنها إلى الآن غير مدركة لما يحصل في البلد، وأن هذه الثورة لأجلنا جميعاً فإن لم نكن نحن المتعلمين من سيتجاوز هذا الفكر الطائفي فإن البلاد ستذهب إلى الهاوية

  • هذا ما تؤمن به أنت .. ولكن ما الذي يضمن لي أن الجميع يفكر هكذا ؟! (قالتها مشككة ولكن مع نبرةِ موافقة بدت لي أسرع مما توقعت)
  • الشيء الوحيد الذي يكفل لنا أن نثق ببعضنا هو أن نثق ببعضنا لا يوجد هنالك سبيل آخر . 

ثم أردفتُ بتوتر ولهفة، كي أزيد مساحة شعورها بالأمان، أن جميع الذين يقودون الحراك هم من طلاب الجامعات كما أن هناك قادة رأي ومثقفون وطنيون وأنني أتعامل معهم جميعاً وبأن عليها التوقف عن الاستماع  لكل الاعلام الذي يسم هؤلاء بالخونة، ثم رحت أحدثها عن التغيير وأذكرها بآرائها السابقة التي كانت تتحدث عن ضرورة أن ينتهي الخوف من تفاصيل حياتنا اليومية، فلماذا الآن تتراجع عن حلمها. انتابتني نشوة طافحة اتجاهها من أثر الكحول في دمي بينما ارتفع من جهة البار صوت موسيقى astor” piazzolla” كانت الموسيقى حماسيةً بعض الشيء فأخذتها من يدها وبدأنا بالرقص مدركاً تلك الرغبة المكبوتة داخلها في احتضاني أثناء تبادلنا لحركاتِ رقصٍ عشوائية من التانغو والرقص الشرقي. غمرَتْها السعادة وهي تمارس كل دلالها ولمساتها التي لا تريد أن تنفصل عن جسدي وكأنها تسدد فاتورة ذلك الحرمان الذي عاشته بسبب جفائي لها شهرين كاملين . لقد كان عليّ أن أكون انانياً وثملاً لكي أُقبلها وأحفر بها قناعاتي عميقاً حتى تسير إلى حتفها الذي لم أكن أتوقعه. 

في ذلك اليوم الموعود لدخولها إلى المنطقة المحاصرة من أجل إيصال المعونات المالية تم إلقاء القبض عليها من قبل فصيلٍ جديدٍ لم أكن أعلم بأنه قد بدأ يتشكل في تلك المنطقة، كان يسمي نفسه “صقور الجولان” وهو واحدٌ من الفصائل التي بدأت تتشكل كوادرها من الشباب الصغار العاطلين عن العمل وبعض أصحاب السوابق من العاملين بتوزيع الحشيش وأعمال النهب الصغيرة. لوهلةٍ اعتقدَت لينا أن هذا الفصيل لربما يكون تابعاً لمليشيات النظام السوري في المنطقة، لذلك أخقت هويتها وأخبرتهم أنها قادمة لزيارة إحدى صديقاتها. اقتادوها داخل سيارة “بيك آب” واتجهوا بها إلى مكانٍ قصيٍ في أحد الأحياء المهجورة المحاطة بساحة تدريبٍ عسكرية. فجأة وجدت لينا نفسها مقيدة في قبوٍ مهجورٍ وهي محاطة بثلةٍ من الأوباش القساة الذين يراقبونها بعيونٍ شرهة. تقدم منها قائدهم ، كان رجل ملتحٍ ضخم البنية في منتصف الأربعينات، يرتدي زيّاً عسكرياً ويربط رأسه بكوفيةٍ حمراء، عرفت عنه فيما بعد أنه أمضى أحكاماً مختلفة في السجن بتهم اللواطة المتكررة، ثم مع بداية الثورة اتخذ قراراً بالتوبة والعودة إلى دين الله، وأنه نذر نفسه للجهاد ضد النظام السوري لكي يتطهَر من كل ذنوبه السابقة. بدون أي مقدمات صفع الرجل لينا بقوة طالباً منها الاعتراف عن سبب تواجدها في هذه المنطقة، ولأن لينا ما زالت غير مدركة من هم هؤلاء الأشخاص فقد أصرت وهي ترتجف بخوف على أنها قادمة لزيارة إحدى صديقاتها وراحت تخبرهم ببراءة أنها لا تعلم بأن هذه المنطقة محظورة، فصرخ أحدهم  

  • في هذه المنطقة لا توجد كافرات سافرات يتبرجنّ بهذه الطريقة 

نادى القائد على إحدى النساء المنقبات لكي تقوم بتفتيش لينا، كانت امرأة قاسية الطباع تقدمت من لينا وهي تخلع عنها ثيابها دون أن توفر شتائمها القذرة بحقها.  وجدت المرأة المنقبة محفظة صغيرة كانت قد خبأتها لينا في صدرها فيما عيون الجميع تتأهبُ بشراهةٍ اتجاهها لكأنها غزالة وقعت بين قطيعِ من الضباع. فتحت المرأة المحفظة التي كانت تحتوي على النقود، وراحت تلوح بها وهي تشير نحو قائدها بنشوةِ المنتصرة، ثم أخرجت هوية لينا الشخصية وراحت تقرأ محتوياتها ببرود وهي تهز رأسها بحركات مفتعلة توحي للجميع بأنها عثرت على ضالتهم. أومأ الشيخ للمرأة برأسه مستفسراً  

  • يا شيخ … مكان ولادتها قرية المسيفرة في اللاذقية .. إنها نصيرية كافرة (قالت المرأة المنقبة) 

بدأ الجميع يلهجون بالتكبيرات لكأنهم حرروا القدس، فيما راحت لينا تستجديهم وتخبرهم أنها أتت من أجل إيصال الأموال إلى التنسيقية وأنها في صف الثورة ثم راحت تذكر لهم أسماء الأشخاص الذين كنتُ قد طلبتُ منها أن تتواصل معهم وهي ترجوهم أن يبحثوا عن الأسماء في هاتفها المصادر، لكن غريزة التسلط التي استوطنت في نفوس أولئك الأشاوس الذي حملوا على عاتقهم تطهير البلاد من رجس النظام الكافر جعلتهم يصمون آذانهم وهم يكررون على مسامعها أن نظامها الكافر قام باغتصاب حرائرهم في سجونه مبررين كل الخراء الذي يهطل من نفوسهم وأنفاسهم النتنة، فيما راحوا يتناوبون على اغتصابها واحداً تلو الآخر  إلى أن سقطت لينا جثةً نابضةً بدون روح. 

بعد أن تواصلتُ مع التنسيقية وأخبرتهم بفقدان الاتصال مع لينا قام أحد المسئولين عن التنسيقية بإجراء اتصالاته المتحرية إلى أن توصل لمكان وجودها وأخبر فصيل “صقور الجولان” أن النقود التي تحملها الفتاة عائدة للتنسيقية، وأنها تعمل معهم، فقام الفصيل الذي كان مازال ينسق بعض أعماله مع التنسيقيات بإعادة لينا ليلاً إلى المكان الذي تم اقتيادها منه حيث كان في استقبالها شباب التنسيقية الذين قدموا لها الاعتذار عن الخطأ الحاصل وكأن ما حدث عبارة عن سوء فهمٍ عابر يتم حله باعتذارٍ سخيف. ما زلت أذكر إلى الآن جواب ذلك القائد الذي تواصلت معه وأنا أصب جام غضبي على هذه الأفعال التي لا ترتقي للغاية التي نناضل من أجلها. يومها صرخ في وجهي مهدداً وساخراً 

  • الحرية ادحشها بطيزك … الفتاة لم تكن عذراء، ما الضير في مضاجعة عاهرة ؟

بعد تلك الحادثة قطعت لينا صلتها بي نهائياً. حاولت جاهداً التواصل معها خلال ستة شهور بعد هروبها المفاجئ خارج البلاد، لكنها لم توافق على أي من طلبات الصداقة التي أرسلتها إلى كل حساباتها، كنت أدرك تماماً حجم المأساة التي كبدتها إياها وأعلم أنها لم تعد راغبة بأي نوعٍ من التواصل بيننا، لقد سببت لها جرحاً عميقاً في النفس ليس من السهل على فتاةٍ رقيقة ك “لينا” أن تتجاوزه أبداً. 

قفزت لينا أخيراً من شرفتها في الطابق التاسع دون أي تردد أو أصرار على الانتحار، لكأنها قفزةٌ طبيعية في بركةِ سباحة. كنت أراقب فيديو انتحارها مشدوهاً من السعادة والشجاعة التي كانت تغمرها وكأنها قد أقامت صداقةً حميميةً مع الألم حتى أن الجميع اعتقد للوهلة الأولى أنها تمارس نوعاً من الخداع وأنها لا بد ستظهر بعد هنيهةٍ على شاشة الهاتف وهي تضحك معلنةً أنها كذبة نيسان، إلا أن هاتفها المحمول الذي وقع بجانبها أوقف كل التخمينات عند حدها. كان الهاتف ما زال قيد التشغيل  إذ بدأت تظهرُ لقطات ثابتة لأناسٍ تركض على رصيف انتحارها تلاها قدوم سيارات الشرطة مع أصوات وصرخاتٍ متفرقة ملأت الشارع . لقد انتحرت لينا في مدينةٍ غريبة بعيدة عن سوريا، حدث ذلك في بدايات عام 2012.  أما الآن فها نحن ذا وجهاً لوجه .. رجل قتيلٌ مسجى على أكتاف الجموع التي تلهجُ بالانتقام، وامرأةٌ منتحرة تنتظرني في آخر رواق البهو المعتم.. الفارق الوحيد بيننا أنني لا أعلم كيف قُتلت.. ومتى.

اللوحة للفنان السلوفيني زوران موزيتش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

4 − واحد =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى