جاء في لسان العرب

الخيمة بيت من غرفة واحدة، غرفة تضع فيها فرشك وأغراض المطبخ وزوجتك وأولادك. وترتب هذه الأشياء بطريقة تحقق فيها الانسجام مع البيئة المحيطة، وتستثمر فيها طاقة “تشي” ــ التي تربط الكون والأرض والإنسانية جمعاء ــ بالشكل الأمثل.
بجانب الخيمة خزان معدني، لا يجمع الماء فحسب، بل يستخدم شكلا لاعضويا من التركيب الضوئي يلتقط به نور الشمس ويحيله إلى حساء ساخن غير صالح للشرب صيفا.
طفل عاري النصف السفلي يجر دراجته البلاستيكية ثلاثية العجلات. يتيح هذا العري للكائن الحي القيام بوظائفه الإطراحية بكل سهولة، وفي أي مكان أو زمان، بعيدا عن الآداب العامة التي تواضعت عليها الجماعات البشرية تحت مسمى المدنية.
هنا تمتزج مياه الشطف والغسيل والجلي والاستحمام … ومياه الأمطار. هذا ما يسمونه الصرف اللاصحي، أو بشكل أدق نظام اللاصرف. وهو شكل مائي من أشكال وحدة الوجود. كل شيء يخرج من الماء، وكل شيء يعود إليه. وحين تمطر، وهي حين تمطر هنا تفعل ذلك بسخاء، يمسي كل شيء طينا، ويعود البشر إلى أصولهم الأولى. شيء “ولا يوم الطين”.
لم أرسم منزل شجرة، ولا كوخا في مزرعة، ولا قاربا له بحيرة، ولا شقة فارهة من تصميم معماري مشهور، ولا قصرا بناه سِنِمّار، لا! ولا حتى خيمة، رسمت كَرَفانا.
هناك خيم مطبوع عليها نخلة يحفها سيفان، لا بد أنها من تبرُّع أرض نجد والحجاز. وهناك خيم مكتوب عليها UNHCR. وما هذه؟ المفوضية العليا للاجئين. اللجوء تجربة مهمة للتعرف على مؤسسات الأمم المتحدة. كيف يدّعي السوريون أن العالم تخلى عنهم في ثورتهم؟
في مدرسة المالكية، في مكان ــ كان ــ اسمه مخيم اليرموك، طلب أستاذ الرسم من الطلاب أن يرسم كل منهم منزل أحلامه. لم أرسم منزل شجرة، ولا كوخا في مزرعة، ولا قاربا له بحيرة، ولا شقة فارهة من تصميم معماري مشهور، ولا قصرا بناه سِنِمّار، لا! ولا حتى خيمة، رسمت كَرَفانا. الأستاذ الذي انتقد بشكل لاذع سوء استخدامي للخطوط، وشحّ ألواني، والانطباع العام الذي يتركه الكرفان بأنه خرج للتو من حرب طاحنة، لم يبخل بعرض اللوحة على الصف والإدلاء بتحليل نقدي: يمثل هذا الكرفان شعور الفلسطيني أنه بلا وطن، إنسان دائم الترحال واللجوء، بلا بيت ذي جذور تنغرس عميقا في كبد الأرض.
صحيح أني لم أفكر بشيء من هذا القبيل ساعة اجتراحي تحفتي الفنية، لكن أعجبني تحليله. يمكن للغة أن تجعل من خربشاتي أطروحة فلسفية، لكن أيمكن لها أن تحول خيمة أو كرفانا إلى وطن؟
أصيب السوريون بعدوى الخيم، صارت مضاربهم كالشامات على خد بلاد الشام، كالوشم على ذقن بدوية. وكان كثير منهم في السابق يعاني إشكالية معرفية جديرة برسالة في الفلسفة: لم اسمه مخيم اليرموك وليست فيه خيمة واحدة؟ فاختاروا حلا لهذه المشكلة أن يجعلوا مخيماتهم مخيمات. ولكل مخيم اسم، اسم منتقى بعناية بحيث يُضادُّ معناه ــ حين يكون له معنى ــ مضادة كاملة.
لذا يمكنك أن تتخيل بسهولة أن أسوأها على الإطلاق سيحمل اسم “حياة كريمة”، فهو أبعد ما يكون عن الكرامة، والحياة. زرتُه مرة واحدة فقط. وحين عرف سكانه الأصليون أن طبيبا حل في ربوعهم خرجوا زرافات ليشاهدوا هذا الكائن الفضائي. كانوا قارة منسية، وكنتَ نسخة مهذبة من كولومبوس.
كل المخيم يعلم أن العجوز كفَّ بصرُها إلا العجوز نفسها التي تضحك هازئة ومستغربة من اتهامهم لها بهذه الجناية. أثق بها فأشك في نفسي. أرفع أمام عينها إصبعين. كم إصبع؟ تلاتة دكتور. تجيبني بكل ثقة. أرفع أربعا. واحد دكتور. تجيب بالثقة نفسها. ربما هو اعتلال شبكية. ثم أنظر جيدا في عينيها: العدسة التي تسمى لشفافيتها الجسم البلوري، اكتظت فيها الغيوم فمنحت حدقة العين لونا أبيض. كانت لها حدقتان بيضاوان كالموت.
في أحد المخيمات، تأتيك أمّ شابة تجر أولادها الأربعة. هذا مشهد يتكرر يوميا، وعدة مرات في اليوم، بشكل يثير الدهشة والسأم. الأم نازحة منذ ست سنوات، وأكبر أولادها في الخامسة من عمره. لم أحتج أي تكنولوجيا متقدمة أو منطق خارق للعادة لأستنتج أن جميع أبنائها ولدوا في المخيم. أهذا ممكن من الناحية الفيزيائية؟ ولّى ذلك الزمن الدقيق الذي كانت فيه الرياضيات نقطة قوتي. لكن الأكيد أن الخيم تصلح منتجعات مثالية لممارسة الحب والحر والبرد والبق وهموم المعيشة ومعضلات الوجود الكبرى والخوف من المستقبل. ثم ما مشكلتنا مع الإنجاب؟ ما سر هذه الحميمية التي تجمعنا والتناسل؟
كنت أسمع كثيرا عن القنبلة الديموجرافية سلاحا يستخدمه الفلسطينيون في صراعهم الوجودي مع الصهيونية، وكانت تعجبني الاستعارة بما يكفي لأسأل نفسي: وماذا لو انفجرت هذه القنبلة فينا؟
تزور العاملات في “قسم الصحة المجتمعية” المخيمات بشكل دوري. يزودن أولات الأحمال بحبوب الحديد وفيتامين B9، والمرضعاتِ بتوصيات تركز على فوائد الرضاعة الطبيعية (وكأن هناك بديلا)، والأطفالَ دون خمس سنوات بأكياس زبدة الفستق.
كانت بداية تعرفي بهذا الكائن الجميل في أيام حصار مخيم اليرموك حين دخلت السلال الغذائية. لا أذكر، أو لعلّي لا أريد أن أتذكر لم أسميناها زبدة الفستق. مكتوب عليها أنها متمم غذائي يعتمد المواد الدسمة أساسا، وأنها مخصصة لمنع سوء التغذية عند الأطفال من عمر ستة أشهر فما فوق. أطفال مخيمات النازحين يسمونها الحلاوة. يكفي أن تدخل أحد المخيمات متلحفا بشعار منظمة ما حتى يزدحم الأطفال عليك يستسقونك كما تستسقي جسد زوجتك: “حلاوة! حلاوة! حلاوة!” هي حلواهم، فاكهتهم، حيوانهم الأليف، ثياب عيدهم، حلم نومهم ويقظتهم، الأمل الذي تنفتح له عيونهم، في بلد الخير والثروات والأرض المعطاء.
سيكون مذهلا جدا إن جاءك طفل استكمل لقاحاته، أو كان لا يعاني من تأخر في النمو أو سوء تغذية.
سيكون عاديا جدا أن يجيئك ولد في العاشرة من عمره ولا يزال في الصف الأول الابتدائي.
وكيف يقضي الأطفال وقتهم؟ رتيبا، دبقا، صاخبا، متثائبا، فقيرا. وقد يذهب أحدهم إلى المسجد لحفظ سور القرآن الكريم. ربما استقامت له بعض مخارج الحروف، وربما اكتسب شيئا من سليقة تعينه على إعراب نوائب الدهر.
تصطحب امرأةٌ جارتَها العجوز إلى عيادتك. واضح وضوح واقعنا الأغبر أن العجوز ضريرة. لديها داء سكري لم تعالجه منذ شهور. انقطعتْ لحدث عشوائي ما زيارةُ المنظمات الطبية لهذا المخيم، فانقطع الدواء. الحياة هنا هي بهذه الحتمية الميكانيكية. كل المخيم يعلم أن العجوز كفَّ بصرُها إلا العجوز نفسها التي تضحك هازئة ومستغربة من اتهامهم لها بهذه الجناية. أثق بها فأشك في نفسي. أرفع أمام عينها إصبعين. كم إصبع؟ تلاتة دكتور. تجيبني بكل ثقة. أرفع أربعا. واحد دكتور. تجيب بالثقة نفسها. ربما هو اعتلال شبكية. ثم أنظر جيدا في عينيها: العدسة التي تسمى لشفافيتها الجسم البلوري، اكتظت فيها الغيوم فمنحت حدقة العين لونا أبيض. كانت لها حدقتان بيضاوان كالموت.
هذا في المخيمات “النظامية” إن جاز التعبير، التي صُنعتْ تحت معطف حكومة جلالة الإنسانية، ونُظِر إليها بعين عطفها.
الخيمة كرفان لا عجلات له، ولا باب، ولا قاطرة.
ففي بلد كانت فيه قبل الثورة/الحرب أحياء ومناطق سكنية ــ بكاملها ــ عشوائية، من الطبيعي ــ بل المستحسن ــ أن تكون فيه أثناء الثورة/الحرب مخيمات ــ بكاملها ــ عشوائية. هذا نمط حياة، تقاليد، خصوصية ثقافية. في الشمال السوري أزْيدُ من ألف ومئة وخمسين مخيما، من بينها مئتان وأربعون مخيما ونيف توصف بالعشوائية، كان يرتجلها النازحون من كل منطقة تستهدفها الغارات ريثما يُعبّر المجتمع الدولي عن قلقه. كذا، نبت شيطاني، لا زارع له ولا راع، ثم يهيج فتراه مصفرا.
الخيمة كرفان لا عجلات له، ولا باب، ولا قاطرة. وبخلاف الإرث الشعري الذي يفترض أن الخيمة هي المقابل الإنساني لصَدَفة السلحفاة أو قوقعة السرطان الناسك: بيتٌ تحمله معك أنّى ارتحلت. فهي هنا رمز للثبات، شكل فجائعي من أشكال استقرار يدوم إلى أجل غير مسمى، مهما شحّت السماء بالماء، والأرض بالكلأ.
الصورة من تصميم: المأمون محمد