في البدء كانت الطبيعة

يقول هيدجر: “نسينا الوجود في بحثنا عن الموجود”.
وكأنه يلخص ما روته لي صديقتي عندما رأيتها لآخر مرة، “سنعود لمنزلنا في القرية بعد هجره لخمس سنوات، المدينة لم تعد تحملنا ولا نحن بقادرين على الاستمرار بالعيش فيها، جئنا إليها بحثاً عن حياة أفضل، ولكننا لم نجد فيها سوى الغربة والعزلة والبعد عن وجودنا”.
كلام صديقتي جعلني أستذكر حياتي قبل عشرين عاماً، عندما كان والدي يتبع دون وعي منه تعاليم الحياة البسيطة بين الصخور والجبال والشمس، ليجبرنا أن نتقبلهم ضمن حياتنا، وكأنهم أحد أفراد عائلتنا، لدرجة نشعر أنهم كانوا يتحدثون إلينا ويساهمون في تربيتنا.
عند المرض في صغرنا، كانت أمي تقوم بإحضار وعاء مليء بالماء، يحتوي على أوراق النعناع وإكليل الجبل، كانت تتركه يغلي، وتجبرنا على أن نبقي رأسنا فوق الإناء، وأجسامنا مغطاة بالقماش، كي نتنفس البخار، فيتعافى الأنف والدماغ، وتنفتح مسامنا.
لم أنس قط تلك الذكريات، مازالت ماثلة في مخيلتي وأقضي في تذكر تفاصيلها ليالٍ لا تحصى، عندما كان والدي يبذل جهوداً كبيرة لإيقاظنا أنا وأخي الذي يصغرني بسنتين، في الصباح الباكر كي نذهب معه إلى كروم العنب. نفتح عيوننا بإجهاد والدمع يختنق داخلهم، ثم تأتي أمي ليبدأ الطقس العاطفي والاستجداء، وعندما تفشل في ذلك يبدأ طقس الإغراء بالفطور الشهي وزيادة المصروف اليومي.
أمي التي كانت مساندة لوالدي بكل أعماله في الأرض، لا أذكر ولو لمرة واحدة أنه ذهب وحيداً إلى كروم العنب. عند المرض في صغرنا، كانت أمي تقوم بإحضار وعاء مليء بالماء، يحتوي على أوراق النعناع وإكليل الجبل، كانت تتركه يغلي، وتجبرنا على أن نبقي رأسنا فوق الإناء، وأجسامنا مغطاة بالقماش، كي نتنفس البخار، فيتعافى الأنف والدماغ، وتنفتح مسامنا.
بعد محاولات أمي العديدة لإيقاظنا نستسلم لها، وننظر في عيون بعضنا أنا وأخي، لنعبر عن فشل محاولاتنا بعدم الذهاب معهم، تأخذنا من أيدينا مرغمين، ونحن نجر أجسادنا الطرية تاركين وراءنا فراشنا الدافئ.
عندها يكون والدي قد أحضر وجهز كل الأدوات التي سيحتاجها في عمله ووضعهم في العربة التي سنقوم بجرها أنا وأخي.
مشهد يعاود الآن الظهور في ذاكرتي وأحسبه كأنه البارحة، الطريق الترابي الطويل ونحن نجر العربة، أبي وأمي يسيران أمامنا، الجبال والمروج وكروم العنب على جانبي الطريق، وإحساسناوقتها بأن السماء نفسها تبدو منذرة بالشؤم في لحظةما.
لم تكن كروم العنب التي يملكها والدي كبيرة، ولكنها كانت تعطينا ما يسد حاجتنا، كان يزرع البندورة والخيار والكوسا، بالإضافة لأشجار اللوز الكبيرة التي كانت مسيجةً لكرم العنب.
ما تصنعه الطبيعة في ذواتنا واحساسنا بإنسانيتنا، لا يمكن للعلم والتكنولوجيا الحديثة أن تصنعه بل أنها تصنع نقيضه
وقتذاك لم نعرف أنه ثمة مجهول يتربص بالأرض والبلاد، ذاك المجهول الذي جاء وأقصاها عنا،لنصبح محاصرين داخل تفاصيل حياتنا اليومية حتى لتبدو أحداث الماضي نجوماً قديمة خبا ضوؤها فلم تعد تشغل محلاً في أذهاننا.
ثمة الكثير لنفكر فيه كل يوم والكثير لنتعلمه، أساليب جديدة، معلومات جديدة، تكنولوجيا جديدة، مفردات جديدة، أبعدتنا عن كل ما يمت للطبيعة بصلة، وجعلت منا آليين في تفكيرنا وعملنا.
لكن صديقتي أدركت أن وجودها في المدينة لن يزيدها سوى سوءاً وغربة، خاصة بعد فترة الحجر الصحي بسبب انتشار فيروس كورونا، حالة القلق والخوف التي رافقت الحجر وحالة العزلة وضيق البيت الذي تسكنه، كل ذلك جعل قرارها حاسماً بالعودة إلى بيتها في القرية، تحدثني عن بيتها في القرية ومساحة الأرض الصغيرة التي يملكونها: “هناك نستطيع أن نزرع كل شيء نريده ولا نضطر إلى الشراء من السوق، هنا في المدينة لا نشبع الأكل، وصلنا إلى مرحلة قد نجوع فيها، لا أريد أن يجوع أطفالي، أريدهم أن يعيشوا حياة بلا منغصات، وألا يتحسروا على شيء، أريدهم أن يلعبوا في أماكن واسعة دون أن أعيش حالة القلق التي أعيشها هنا”. تقول لي: “سأعود للطبيعة، المدينة أفقدتني روحي”.
ما تصنعه الطبيعة في ذواتنا واحساسنا بإنسانيتنا، لا يمكن للعلم والتكنولوجيا الحديثة أن تصنعه بل أنها تصنع نقيضه. يقول إريك فروم:”عندما يفرض المجتمع على الإنسان مطالب تنافي طبيعته فإنه يحبطه ويقيـده، ويجعله غريباً عن موقفه الإنسانيوينكر عليه تحقيق الشروط الأساسية لوجوده.وعندما حل نظام المصانع محل الحرفية الفردية فإن مثل هذا التغير يحتمل أن يؤدي إلى اضطراب فـي الطبائع الاجتماعية للناس،ولا يصبح التكوين القديم للطباع مناسباً للمجتمع الجديد، مما يزيد من شعور الإنسان بالاغتراب واليأس. وأثناء هذه الفترات الانتقالية يصبح ضحية لجميع أنواع المزاعم والادعاءات التي تهيئ له ملاذاً من الشعور بالوحدة”.
حال صديقتي ينطبق على كثير من العائلات التي بدأت تدرك معنى وأهمية الأرض والطبيعة بعد أن هجروها ورحلوا إلى المدينة تاركين تاريخهم وراء ظهورهم.
في المدينة كل شيء متوفر ولكن يحتاج إلى المال، العامل يعمل ليلاً ونهاراً كي يؤمن حاجاته اليومية من الأكل والشرب، تقول صديقتي: “هنا كل شيء بحاجة إلى المال، النفس محسوب علينا، زوجي يعمل في محل حلويات لا يستطع أن يتذوق منه شيئاً، الأماكن التي يلعب فيها الأطفال بحاجة إلى المال، إذا أردنا أن نتنفس هواءً نقياً نحتاج للكثير من المال. أما في بيتنا بالقرية نستطيع أن نأكل من عملنا، كل المساحات الواسعة هي صالات للعب أطفالي دون أن أدفع قرشاً واحداً، نستنشق الهواء النقي دون أن يحسبه علينا أحد، هناك لا أحد يتحكم بحياتنا نحن أسياد أنفسنا”.
نعم تلقفتنا المدينة وأغوتنا بحريتها المزيفة والمصطنعة كما أغرقتنا بهمومها وغربتها، وتم نسيان الطبيعة من حيث هي شيء موجود، ليأتي اليوم، الوقت الضروري الذي تجبرنا فيه الطبيعة على أن نصغي لها ونعود إلى أحضانها.
أجد أن لا حل أمامنا سوى العودة إلى الطبيعة والاعتماد على الأرض بما تنتجه من محاصيل ومواسم، كي نحيا ما بقي من حياة، وإلا ستبقى حياتنا وطعامنا مرتهنين للتجار وللشركات ولأصحاب رؤوس الأموال.
الوضع المعيشي والاقتصادي المتردي الذي وصلنا إليه والذي يزداد سوءاً كل يوم، جعلنا لا نفكر بشيء سوى في تأمين لقمة عيشنا، أبعدنا عن الحياة الطبيعية، أو المساهمة ولو بجزء بسيط في بنائها. فعندما أرى اليوم كيف ينمو الأطفال في أجواء مشحونة بالقلق والخوف من الغد، وفي أماكن مغلقة لا تجد أمامها ولو فسحة صغيرة يستطيعون أن يفرغوا طاقاتهم فيها، وأعينهم مسمّرة على أجهزة الموبايل، أجد أن لا حل أمامنا سوى العودة إلى الطبيعة والاعتماد على الأرض بما تنتجه من محاصيل ومواسم، كي نحيا ما بقي من حياة، وإلا ستبقى حياتنا وطعامنا مرتهنين للتجار وللشركات ولأصحاب رؤوس الأموال.
وكما يقول جورج أوريل: “إن قدرة المرء على رؤية ما هو أمام أنفه تماماً في حاجة إلى نضال مستمر، فالحل لقلقنا وتوترنا موجود أمام أنوفنا”.
اليوم أدرك أن كروم العنب التي شاركت طفولتي، كانت من أكثر الأشياء التي ساهمت في تشكيل شخصيتي وإثارة نزعة الشقاوة في داخلي، هناك أشياء لا يسعنا أبداً أن نلقيها في طي النسيان، ذكريات لا تمحى تبقى للأبد كحجر الصوان، تستفز وعينا وتبقينا منتبهين، فهل سنوافيها إلى منتصف الطريق يوماً ما.