ذاكرة مكان

خواطر فوق عروش هادئة

هناك على طول الشاطئ تمتد أكواخ وبيوت وعمارات ومقاصف ومنتجعات سياحية، لتشكل مدينة طولية ساحلية مُحَدّثة! رغم أنها حاضرة في التاريخ مكانة ومكانا وأهمية وقدما. أحدثت إصلاحات الحزب الحاكم فيها نقلة نوعية لتصبح مكان استثمار سياحي لم تشهده من قبل؛ يقصدها مئات الآلاف وربما ملايين السياح، من كل أنحاء العالم ليستجموا فيها سنويا. تاريخها الفينيقي حاضر عرقيا في وجوه أبنائها، وتاريخهم التركي موجودٌ في طباعهم رغم اتجاههم اليساري عموما. في صباحاتها الصافية تمكن رؤية جبال قبرص تحيّ شواطئ مرسين الأمّ.. تناثرت فيها خلف الخط العمراني المحدَّثْ المطل على الشط مباشرة، بيوت أقل حداثة وأقدم؛ تخبرنا أنها كانت هي الشط القديم، والعروس الثانية، وأن هذا الشط لم يكن كما هو الآن، بل أن اليابسة تم توسيعها على حساب البحر لتوفير أماكن سياحية بطول عشرات الكيلومترات!.. بعض البيوت لها شكل فرنسي الطراز، وبعضها عثماني، ومنها ما تسمى بالتركية “فيران شهير” والتي تعني الخرابة أو المدينة القديمة.. وتبرز أعمدة الميناء الفينيقي القديم فيها كأعمدة هرقل، تتحدى الدنيا أن يصنعوا، رغم كل حضارتهم، مثلها. 

            إذا ما اتجهنا خارج المدينة – ولا يهم بأي اتجاه – لن نعاني لنعثر على مواقع أثرية، مدن كاملة مهملة ولا حتى مكتشفة، قد تكون تحت خطة للاستكشاف، نعم! لكنها أيضا قد تحمل ما لا تريد السياسة كشفه، وهو ما يفزعها دائما وتتحاشى الحديث عنه بعمق: “الهوية”! نرى أن هناك إظهارا ثقافيا مقصودا لكل ما يمت للأتاتوركية والتركية واليسار والعلمانية وحتى العثمانية، وإهمال لسواها رغم أن الأرض ترمي آثارها في وجه الناس داعية إياهم للحوار. إذا ما ابتعدنا قليلا خلف الخطوط كلها ووصلنا إلى جبال مرسين ستستقبلنا هناك عروش من الهدوء، تطل على خطوط أشجار الليمون وخطوط المدينة الطولية والشاطئ والبحر وقبرص. قبيل مغيب الشمس فترة العشاء، تتناهى إلى المسامع أصوات الفلاحين كالهمسات، وهم يتهيؤون للعودة إلى بيوتهم، بعد يوم أحيوا فيه الأرض من جديد، وأصوات العنادل تودع النور، وروائح الحمضيات وأسياج الزيزفون، وسكون الريح وربما القلوب والأنفاس. حالة من الهجوع تصيب الطبيعة والناس وتترك لنا فرصة هادئة لمراجعة أيامنا وإعادة حساباتنا وتقويم ما عملنا وربما التخطيط من جديد؛ وفي رواية أخرى للتفكر بواقعنا أو للتفكر بالخالق أو التاريخ أو الصيرورة، وشحن الروح بحكمة لا نعرف كيف تتوالد فينا! ربما هي وحي ممن عاشوا على هذه الأرض وظلوا يراقبون مدينتهم من بعيد حيث تهرب بروحك باحثا عن لحظة اعتزال للحياة، لتجد نفسك بجوارهم، في وجود عار من كل شيء إلا الحقيقة التي تبحث عنها بعريك بينك وبين نفسك.

هذه الجالية تعيش فترة وجودية محكمة الأسوار كالسجن رغم اتساع أفقها! وفي أنسجة أجسامهم رجفات قلق مجهرية من المصير والمستقبل؛ وسؤال واحد إلى أين!؟ تناقص وجود السوريين في الشارع يوما بعد يوم، والتزموا بيوتهم حتى عشية الانتخابات الرئاسية، أمرّ بالشوارع أكاد لا ألمح أحدا؛ فقط شعب حانق على الحزب الديني الذي استلم بلدا علمانيا؛ وجرّد اليسار من جُلّ امتيازاته.

            لمثل هذه النجاة يولد المكان، هناك حين يتزاوج مع الزمن ويحضر العقل فيدرك من الروح مكنوناتها وخواطرها، ويبوح بكلمات النفس، من سبق ومن تلا؛ بعض الأمكنة كالأدوية الإسعافية لا تزار إلا عند اللزوم، يكون الموضوع فيها أي شيء ومهما بلغت سخافته عظيما، لأنك تجمح بعقلك خلف أبعاد التفكير المادية واختناقاتها لتتوحد من مواضيعك فتصل إلى انفراجة مطلة على سهول لا تنتهي من المعرفة، هي النجاة الحقيقية والسكينة.

            يمر بالجوار شبان يتحدثون بتركية لا تخلو من اللكنة الحلبية، يسألون عن طلبات يمكن تقديمها! هؤلاء العمال محط جدل كبير حاليا؛ هذه الجالية تعيش فترة وجودية محكمة الأسوار كالسجن رغم اتساع أفقها! وفي أنسجة أجسامهم رجفات قلق مجهرية من المصير والمستقبل؛ وسؤال واحد إلى أين!؟ تناقص وجود السوريين في الشارع يوما بعد يوم، والتزموا بيوتهم حتى عشية الانتخابات الرئاسية، أمرّ بالشوارع أكاد لا ألمح أحدا؛ فقط شعب حانق على الحزب الديني الذي استلم بلدا علمانيا؛ وجرّد اليسار من جُلّ امتيازاته. أكثرهم حنقا – وهؤلاء لا تستطيع إلا أن تقول عنهم إنهم يساريون من لائحاتهم، عصبية وصوت عال، خطاب حاد وجارح، ولوم على كل شيء! لا يعجبهم أي شيء إلا النظام اليساري الذي كاد أن ينهي تركيا اقتصاديا في حقبة ما – عموما هم كبار في السن ومتقاعدون؛ وهذه الصفة شائعة هنا جدا، حتى أن إحدى الدراسات وصفت مرسين بمدينة المتقاعدين.. وهؤلاء أكثرهم تعرضا للسوريين بالإهانات في الشارع، ولوما على تردي الوضع الاقتصادي؛ تلك الجملة التي تضحكني عندما أقارن ما كنا نعيشه في أكثر أيام المجد والعزّ الاقتصادي في سوريا وبين هذا الرخاء الذي حققه الحزب الحاكم. الشباب السوري العامل، والنساء السوريات اللاتي لا يعلمن كيف يسرن في الشارع باحترام للنظام العام والدور والتعامل ولا يرطن بالتركية ولباسهن المتزمت، والفتيان المراهقين ذوي الهيئة التي قد تكون مقززة أحيانا وسلوكهم غير المتناسب مع الذائقة العامة في الشارع؛ هم أكثر ما يغيظ المتقاعدين! ويعتقدون أن كل السوريين على هذه الشاكلة! بل كثيرا ما يسألونني بتعجب حين أتناقش معهم هل حقا أنت سوري؟! حسب رأيهم، العامل السوري أخذ عمل التركي! وهم لا يدفعون الضرائب وهذا يؤثر على الاقتصاد، علما أن الأمر منوط بصاحب العمل التركي، الذي لا يسجلهم في التأمينات! وبالتالي لا يلتزم بفئات الرواتب الحكومية ويتهرب ضريبيا، ويدفع لهم أقل من العامل التركي ويبقي الفارق لجيبه؛ والمساعدات التي يأخذها السوريون هي للأتراك والدولة تتكفل بهم، علما أنها كلها تبرعات دولية ومن هيئات دولية كبيرة، وهؤلاء الفتية هم نسخة معدلة عن مزيج الفتية في الشارع السوري والتركي معا، وكأن الأتراك لا يرون أولاد الشارع التركي! ولا يلفتهم أن أولاد المدارس السوريين عموما أرقى وما أكثرهم!.. العمل فعلا مهم للإنسان وإلا فإن تركيزه وتفكيره سينجرف مع مزاجية يتحكم فيها القلق الناتج عن وقت الفراغ الطويل ولعبة “الأوكيه” الشهيرة التي يلعبونها مع احتساء الشاي في القهاوي من الصباح إلى المساء كل يوم. 

عشية الانتخابات تلك، لن تذهب من بالي، في مدينة معارضة للحكم كارهة للاجئين، عندما لم أجد أي سوري في الشارع! وكيف أن عروش الهدوء نزلت من الجبال لتحتل المدينة كلها وخيم الصمت والوجل على الجميع، لحظات فرز الأصوات أوقفت القلوب، السوريون خائفون من خسارة رئيس حضنهم، ورئيس سيطردهم إن استلم الحكم.. التعديلات الرئاسية التي أقرها البرلمان قبل سنوات أعطت الرئيس صلاحيات واسعة جدا وحولت نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي، وهو ما يرعب السوريين حقا، فاستلام الرئيس المعارض يعيد حد سيف الجلاد إلى رقابهم من جديد. لذا لم أستغرب أن صوت السوريين عَلا في الاحتفال بنجاح الرئيس الحالي قبل الأتراك الموالين له، واحتفل السوريين ورفعوا أعلام تركيا كما الأتراك.. وبالعودة إلى المتقاعدين فإن حنقهم تضاعف أضعافا مضاعفة، وهم يرون بعض الحثالات بنظرهم من اللاجئين يرفعون صور أردوغان؛ وما فتئوا يهينون كل سوري يصادفونه وقد نالني النصيب منهم مرتين، في دكان وفي حافلة عامة وكنت برفقة زميلتي.

بات الجميع هنا كمن انقلب فيهم المركب وغرق عرض البحر؛ يتخبطون كمن يغرقون، ومن يتوقف عن العوم والسباحة يغرق، لا مجال لالتقاط الأنفاس، لا مجال للراحة؛ والأنانية صارت حلا، والمشكلات الأخلاقية في التعامل صارت سمة، مشاكل من في الداخل صارت مكسبا لجني الرزق، والإنسانية شماعة للعمل!

            لم تكن تلك الحادثة العامة الأولى التي شهدها السوريون، والتي تمس بشكل مباشر وجودهم في تركيا كلاجئين إن جاز لنا تسميتهم بذلك! بل سبقتها حادثة الانقلاب العسكري على الحكم الحالي، يومها كنت في سوريا أتابع الأخبار، وقال لي أخي تعال وانظر للخارج، فخرجت وشاهدت احتفالات حواجز الجيش السوري وإطلاق أعيرة حمراء ليلية ومفرقعات بشكل مجنون! وبدأت الخيارات المستقبلية تلعب في رأسي، وتواصلت مع الرفقة في تركيا، كان الكل قلقا! والكثير نزل للشارع ليؤازر الأحزاب المدنية التي انتفضت في وجه العسكر ترفض حكمهم دون تمييز بين معارض وموال وحيادي وسوري. والكل احتفل بسقوط الانقلاب، ولعب السوريون دور الصحفيين الهواة! للحرية التركية.

العنصرية استفحلت، والضخ الإعلامي المعارض للحكم التركي استخدم وجود السوريين للضغط على الحكومة، من خلال تقليب رأي الشارع وتضخيم أفعال السوريين غير الحضارية، وربطوا وقوف الحكومة التركية بصف السوريين بكل مشاكل الدولة كالتدهور الاقتصادي والشرخ الاجتماعي، وازداد اختناق السوريين هنا، حتى أن الحكومة التركية نفسها صارت تستخدم اللاجئين السوريين في الضغط على الدول المحيطة والاتحاد الأوروبي، وتبتزهم بنا ليرسلوا إليها المساعدات؛ وأصدرت الكثير من القوانين التي تقيد حركتنا ومعيشتنا، كنوع من التهدئة للمعارضين وبنفس الوقت للاستفادة من وجودنا إقليميا.. وفي الشارع، يكفي أن يسمع البعض نحنحة باللغة العربية أو كلمة “ألو” حتى يبدأ التبرم والضجر والمبادرة لإسكات صاحبها، واصفين إياه بعديم التهذيب، وداعين عليه بالذهاب إلى الخدمة العسكرية، أو طرده بألفاظهم من تركيا.. بل مرة شاهدت رجلا في حديقة غازي عينتاب، يأمر كلبه المربوط بالنباح على كل طفل أو عابر سوري! ومرة شتم طفل على دراجته امرأة تسير على الرصيف بطريقة مربكة للمارة، واصفا إياها بالسورية “سوريلي” والتي صارت تعني الهمجي؛ علما أنها كانت امرأة تركية! وزاد التنمر في المدارس على الأطفال السوريين، لدرجة أن طفلا سوريا أقدم على شنق نفسه في إسطنبول نتيجة تنمر زملائه، ورغم ذلك أنكر الإعلام الحادثة! بل وقتل شرطيٌ طفلا آخر في فترة الحجر الصحي خلال أزمة كورونا لسبب تافه، علما أن أعداد السوريين المصابين في تركيا لا تتجاوز الألف مقابل مئات الآلاف من المصابين، ولا يد للسوريين في انتشار الفيروس، بل يعود لطبيعة الشعب غير المكترث! والإعلام الوقح لا يتناول المواضيع الإيجابية على الإطلاق بل يضخم أي إشاعة مهما كانت تافهة ليصنع منها فتنة! ويتغاضى عن النقاط التي تعتبر سلبية في تعامل الأتراك حكومة وشعبا تجاه السوريين!.

بات الجميع هنا كمن انقلب فيهم المركب وغرق عرض البحر؛ يتخبطون كمن يغرقون، ومن يتوقف عن العوم والسباحة يغرق، لا مجال لالتقاط الأنفاس، لا مجال للراحة؛ والأنانية صارت حلا، والمشكلات الأخلاقية في التعامل صارت سمة، مشاكل من في الداخل صارت مكسبا لجني الرزق، والإنسانية شماعة للعمل! والجميع حارب صاحب الاختصاص ليبقوا في كرسيٍ ليس كرسيهم، وبات المتزمتون دينيا يتحدثون بحقوق المرأة والمساواة ومجتمع الجندر وما زالوا ينقبون زوجاتهم ويضربوهن في المضاجع! وكما قال لي أحد اليساريين وهو يعمل في التدقيق المالي؛ إن أكبر السرقات التي عثرنا عليها في عملنا كانت مع أصحاب اللحى والشوارب المحفوفة؛ وفي عزّ رمضان! نعم باتت الحياة هنا مظاهر وخداع؛ ولن ينفع قناع الوقاية الذي نضعه على وجهنا خشية من الكورونا الخارجية مع الكورونا الداخلية؛ على كثر الأقنعة التي لا نراها..

على عرش أتجول في ذواكري؛ لا حاجة من هنا لأذهب إلى أي بقعة، إن غفوت فاتني يوم كامل، وإن صحوت عالجت عمرا، أو بلغت عمرا أو حكمة، أتكلم أو أكتب، أقرأ أو أسمع، وأتذكر وأكتئب لكني أرجع كمن أزاح حملا كان يجثم على نبضه وأنفاسه. هذه البلاد تشبهنا! في لحظة سكون ساحرة وثقت صورة للطبيعة ووضعتها على تطبيق هاتفي الجوال، فرد أحد الأصدقاء عليها قائلا: “هل أنت في إدلب الخضراء؟!!”. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة × 3 =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى