ذاكرة شخصيه بورتريه

ثورة صغيرة .. سجّان صغير !

–  “ناموا يا حمير “

لم أكنْ مهتمّاً إطلاقاً بمعرفةِ الوقتِ، فقد أُفرِغت السّاعاتُ من معناها وقيمتها منذ وطأتْ قدمي أوّل درجةٍ تؤدّي إلى القبو المنخفضِ جدّاً عن مستوى سطحِ الحياة، حيثُ العتمةُ سمةُ الزمانِ والمكان. وبقي الصّوتُ الأكثُر بشاعةً في العالمِ – صوتُ السجّانِ المناوبِ- يلعبُ دورَ البندولِ الّذي يدقُّ عدّةَ مرّاتٍ بأوامر مختلفةٍ خلالَ اليوم.

أخرجتُ من جيبيَ الخيطَ الّذي أستعملهُ كروزنامة أعرفُ من خلالها عددَ الأيّام الّتي مضت على اعتقالي، في نهاية كلّ يومٍ كنتُ أصنعُ عقدةً جديدةً في الخيطِ، ولا أدري بالضّبط ما الحكمةُ الّتي تجعلُ نزلاءَ أقبيةِ المخابرات يحسبونَ مدّة اعتقالهم بالأيّامِ وليس بالشّهورِ أو الأسابيع. 

مئةٌ وسبعةٌ وستّونِ يوماً مضتْ – بحسبِ تقويمِ الخيط – على وجودي في فرعِ التّحقيق العسكري، قضيتُ عشرةَ أيّام منها في زنزانةٍ منفردة وبقيّة الأيّام في المهجع رقم واحد على نفسِ البلاطة آكل وأشرب وأنام وأفلّي القمل … وأُعذّب. 

– ” ناموا يا أولاد الكلبة “

حسنٌ، إنّها السّاعةُ العاشرةُ ليلاً بحسب البندول اللّعين. 

بخفةٍ ودونَ أيّ جلبةٍ أخذنا وضعيةَ السّجين نائماً. باعدت بين ساقيّ ليستلقي السّجين الجالسُ أمامي على صدري وبدوري أسندتُ ظهري إلى صدرِ أبو محمد بكّار صاحبِ التّهمةِ المضحكةِ (جاءَ في مذكّرةِ اعتقالهِ بالحرف: وردت لهُ مكالمةٌ هاتفيّة فيها عروسٌ وعريس وشعير يُعتقد أنّها أسلحة).

دقّاُت قلبِ أبي محمد كأنّها طبولُ حربٍ تُقرع في أذني وأظنّ أن دقّات قلبي كانت كذلك في أذنِ السّجين المستلقي على صدري، وعصافيرُ بطوننا استحالتْ غرباناً تنعق. 

لم أكن مهتمّاً إطلاقاً بمعرفة الوقت، لكنّ زمناً لا بأسَ به مرَّ دونَ أن أنام ليلتها ولم أسمع شخير أحدٍ من نزلاءِ المهجع فالجميعُ كان مستيقظاً مثلي ولنفس السّبب: الشّاكريّة!

لم تكنْ أنوفنا – رغم تشرّبها برائحة القيحِ والصنّة – لتخطئ تلك الرّائحة الزّكيّة الّتي أفلتتْ من غرفةِ السّجان أو غرفةِ رئيس الدّفعة وأخذتْ تتجوّل في ممرّات القبو وتدخلُ إلى المهاجع والمنفردات فتسلب النّوم من أعين المعتقلين وتدخلنا في أرقٍ ما بعدهُ أرق، ثم تأخذُنا معها إلى عالمٍ من خيالاتٍ تختلطُ فيها رائحة اللّبن المطبوخِ مع ذكرياتِ البيوت الدافئة ووجوهِ الأهل والأحبة. 

رحنا نعبُّ أنفاساً عميقةً سريعة كأنّنا في سباقٍ يحاول كلّ واحد منّا أن يأخذ الحصّةَ الأكبر من الرّائحة كما نفعل عادةً مع حبّات الزيتون وأرغفةِ الخبز وفتات الطّعامِ المخصّصِ لنا على مدار اليوم، كنّا تنسابقُ ونتقاتلُ حتّى على قشور البيض. 

دقّاُت قلبِ أبي محمد كأنّها طبولُ حربٍ تُقرع في أذني وأظنّ أن دقّات قلبي كانت كذلك في أذنِ السّجين المستلقي على صدري، وعصافيرُ بطوننا استحالتْ غرباناً تنعق. 

بنفسِ الخفّة لكن مع بعض الجّلبة رفعنا ظهورنا عن صدورِ بعضنا بعضاً وأخذنا نحملقُ في أعين بعضنا بعضاً؛ بكاءٌ صامتٌ، بللٌ ملأَ أرضيّة المهجع حتّى ظننتُ لوهلةٍ أنّنا سنغرقُ بدموعِنا ولعابنا. 

– “شاكريّة !”

– ” لك أي والله شاكريّة “

– ” يا أمّي على الّشاكريّة “

وهكذا كانَ الهمسُ في المهجعِ يزدادُ شيئاً فشيئاً وتتعالى الأصواتُ ما يعني أنّ ليلتنا لن تمرّ دون حفلة تعذيبٍ معتبرة. 

– ” شاكريّة يا الله شااااكريّة”  صرخ أبو محمد بكّار بأعلى صوتهِ، من ثمّ تعالى الصّراخ في أنحاء المهجع وامتدَّ إلى جميع المهاجع.

– “شاكريّة ، شاكريّة، شاكريّة ” يا إلهي كم صرخت وصرخت…

لا أحاولُ أبداً أن أقترف إسقاطاً فاشلاً أُلبِسُ فيه قداسةَ الصّرخة الّتي ثقبتْ سمع العالمِ وكانت سببَ اعتقالي لتلك الصّرخة المحدودة ضمنَ جدرانِ الزّنازين الرّطبةِ مستغلّاً اتفاق نهايات الصّرختين صوتيّاً؛ معاذ الحرية أن أسميها بغير اسمها.

لقد بعثتْ ثورةُ القبو الصّغيرة المحكومِ عليها بالعذابِ الشّديد فيَّ ما كنتُ أظنُّهم قتلوهُ إلى الأبد، كم كنتُ فِرحاً وفخوراً بصوتي الّذي لم يفوّت فرصةً لصرخةٍ تقلقُ راحة السّجان وتكسرُ أوامره، فالصّرخةُ ثورة في نظر السّجان بغضّ النظر عن مضمونها. 

صوتُ قدمهِ وهو يركلُ بابَ الزّنزانة كانَ أعلى من صوتِ قذيفة، ظلٌّ ضخمٌ يقفُ خلفهُ ظلّان لا يقلّان ضخامةً عنه وفي يد كلّ واحد منهم كرباجٌ رباعيّ غليظ. 

صمت.. 

نظرَ سريعاً إلى رئيسِ المهجع “الشّاويش” الّذي كان شريكاً معنا في الجريمةِ هذه المرّة ثم فتحَ ساقيه كأنّه ينفذُ حركةَ الاستراحةِ في درسِ النّظام المنضم. 

– ” وجوهكم إلى الحائط يا أولاد الشرموطة ” دقّ البندولُ معلناً ساعةَ الألم. 

فتحتُ الباب لأجدَ البيت مختلفاً جدّاً عمّا كان عليه، اختفت السّاعة على الحائط والمصابيحُ والصورُ، اختفى كلّ الأثاث. لقد تحوّل البيت إلى زنزانةٍ ذات جدرانٍ متّسخة عليها خربشاتٌ وتواريخ وأسماءٌ غريبة. 

تهوي الكرابيجُ على ظهورنا محدثةً أصواتاً تعجز أدقّ التّقنيات السّينمائيّة عن محاكاتها ثمّ لا ترتفعُ إلّا وقد أخذتْ نصيبها من لحمنا. كنّا نرى نتفَ اللّحم تتطاير حولَ الكرابيجِ كما يتطايرُ الصّوف بفعلِ عصا المنجّد. 

تشاركنا وجدرانِ المهجع تلك العذابات، فإن حادتْ ضربةٌ عن ظهرِ أحدنا سمعنا صراخَ الجدار من شدّة الألم ورأينا خيط دمٍ مكان الضّربة. 

ضربٌ وصراخٌ ونتفُ لحمٍ، ثمّ ضربٌ وصراخٌ ونتفُ لحمٍ، ثمّ ضربٌ وصراخٌ ونتفُ لحم … ثمّ ظلام. 

لم أكنْ مهتمّاً إطلاقاً بمعرفةِ الوقت، كنتُ أصعد درجَ بنايتنا المظلمِ بوهنٍ شديدٍ وألمٍ لا يطاق يكادُ يقصمُ ظهري، ورائحةُ الشّاكريّة رافقتني منذُ بداية الدّرج حتّى باب بيتنا.

فتحتُ الباب لأجدَ البيت مختلفاً جدّاً عمّا كان عليه، اختفت السّاعة على الحائط والمصابيحُ والصورُ، اختفى كلّ الأثاث. لقد تحوّل البيت إلى زنزانةٍ ذات جدرانٍ متّسخة عليها خربشاتٌ وتواريخ وأسماءٌ غريبة. 

على الأرضِ وعاءٌ كبيرٌ من الشّاكريّة السّاخنة ولا أحد يقترب منه. ثلاثةٌ من أولادي مع أمهم أداروا وجوههم إلى الحائطِ ونتفُ اللّحم تتطايرُ من ظهورهم.

غير مكترثٍ للمنظر المريع – المألوفِ عندي – رحتُ أفتّش كالمجنونِ عن ولدي الرّابع وأسألهم عنه وما من مجيب 

– ” ما بالكم أين أخوكم؟ أين صغيري؟ أجيبوني، أريد صغيري

ثم بدا لي على الحائط ظلٌّ صغيرٌ يحملُ في يدهِ كرباجاً رباعيّاً وصار يتطاولُ رويداً رويداً.

أحدهُم وضعَ رأسي على ركبتهِ وهو يرشّ الماء على وجهي ويصفعني حتّى فتحت عينيّ، ونظرتُ إلى جانبي، رأيتُ أبو محمد بكّار مستلقياً وقد فارق الحياة وكان البندول يدقّ من بعيد: 

– ” كلب آخر فطس، تعالوا خذوه “.

لم أكنْ مهتمّاً إطلاقاً بمعرفة الوقت، ولا بموت جاري صاحب التّهمةِ المضحكة الغبيّة، كنتُ أبكي فقط…أبكي يا سجّاني الصغير.

الصورة رسم لنجاح البقاعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

15 − ثلاثة =

زر الذهاب إلى الأعلى