محمد الذي بكته عيون أمي
في سنوات مؤلمة جداً تنتزع من قلبك الصبر أحياناً، وأخرى تكاد أن تقتلك هي ليست مرتبطة بذكرى واحدة تحلُّ بك وتنتهي، وإنما تأتي فرادى لتقتطع أوصال القلب مجدداً في لحظات تكاد عديمة من الأمل. ولعل الأشخاص الذين عايشوا ذاكرتنا كثر جداً، واحتلوا مكانة ليست قليلة في نفوسنا فلذلك كادت الدموع لا تفارق وجناتنا على الإطلاق منذ غيابهم عن أنظارنا، في كل خطوة تنتظر أحداً يخطو معك لكنه في الحقيقة مجرد انتظار وخيال لا أكثر.
لم تكن الشهور القصيرة التي حاولت فيها أن أكون صاحباً له قليلةً بالنسبة لي فهي مليئة بالأحداث والتطورات، خلال مظاهرات عدة كنت أشاهد محمد من بعيد في حراكه ونشاطه المطالب بإسقاط النظام والحماس الذي يتمتع به مع العلم أنني الأخ الأصغر له، لكنني أبقى مراقباً له من بعيد دون الاقتراب منه خوفاً من معرفته بوجودي.
في إحدى ليال الشتاء المظلمة من نهاية شهر نوفمبر ـ تشرين الأول 2012 أيقظني محمد قبيل دقائق من انطلاقه إلى المعركة ضد قوات النظام السوري في قرية فافين ومعسكر المشاة بريف حلب الشمالي، في مفردات تمر على الذاكرة كخيال يؤرقني.
أصوات خافتة من بعيد، “الشعب يريد إسقاط النظام”، “حرية.. حرية.. حرية”، كان محمد يحدد موقع المظاهرة بحسب جهة الصوت، يذهب مسرعًا واضعاً قناعه المميز برأسه دون لفت نظر العائلة، يشارك في التظاهرة حتى انتهاءها مصراً على نضاله السلمي، ثم يعود للمنزل يتحدث لنا عن المغامرات التي واجهها أثناء التظاهرات وكيفية الوقوف في وجه قوات الأمن التابعة للنظام السوري التي كانت تواجه المتظاهرين، بالقنابل المسيلة للدموع والعصى الكهربائية “الهراوة”.
لا أتعجب في تلك الأثناء على الإطلاق من حديثه لأنني على دراية بمدى عزيمته وإصراره وصبره، الذي تميز به عنا جميعنا، ولأن المجريات التي كانت تحدث كنت أرى بعضاً منها أثناء تظاهراتي القليلة.
محمد طالب في السنة الثانية في جامعة حلب كلية الآداب قسم التاريخ، كان يطمح أن يحقق نجاحاته بحرية دون تردد وبعزيمة قوية لا تكاد تضعف على الرغم من الظروف التي مرَّ بها، ما دفعه للانضمام إلى الحراك السلمي ولاحقاُ العسكري، بعدما جرت تغييرات في حراك الثورة السورية.
كنت قد قضيت أشهرا عديدة أثناء إجازاته المتقطعة بعد خروج أسرتي إلى إحدى المزارع المحيطة بالبلدة بحثاً عن الأمن للإقامة بها، بسبب تعرض أحياء المدينة للقصف المباشر من الطيران الحربي. على الرغم من بساطة المواقف التي مررت بها أثناء تواجدي معه إلا أنها مدعاة للفخر للقيم التي تحلى بها على الدوام والأمانة والصدق.
نقلت أسرتي كافة المؤن الموجودة في المنزل إلى مكان عيشهم الجديد بعدما كثف الطيران الحربي القصف الجوي على المدينة، خشية السرقة وعدم القدرة على العودة، ما دفعنا إلى تناول الطعام سريع التحضير، ولأنني كنت أتردد كثيراً إلى المنزل داخل المدينة استطعت مرافقته بشكل جدي أكثر. في الحقيقية لا أنسى تلك الجلسة مع أخي التي باتت بمثابة أثر حفر مبكراً بذاكرتي على الرغم من صغر سني، الذي لا يتجاوز الستة عشر عاماً آنذاك.
الكثير من الأحيان نستيقظ صباحاً على صحن الفول والحمص والبندورة والبصل وأكاد أجزم أن للفول مكانة رفيعة في قلب أخي ودائما ما أتوقف للحظات أثناء تناولي وجبة الفول الصباحية، في ذكراه لأنه كان أحد أكثر الأشخاص محباً لهذه الوجبة، ولا يستطيع أن يفوت يوم الجمعة دون تناول الفول.
ذلك الصباح كان غريباً جداً أثناء توديعه أمي التي ملأت الدموع وجنتيها أثناء تقبيله ليديها المنهكة، أتذكر ذلك المشهد بتفاصيله، أخرجت دراجتي النارية وأوصلته إلى نقطة التجمع التي اتفقت عليها الكتائب العسكرية المقاتلة، كانفي لواء التوحيد الذي لم يمضِ أشهر قليلة على تشكيله، حاولت حينها توديعه بشكل غير عادي ولم يسبق أنني شعرت بالوحدة إلا حينها.
بعدما عدت إلى المنزل جلست وحيداً لساعات قليلة أتحدث لنفسي عن المشاعر والمخاوف التي راودتني أثناء فترة انطلاقه ورفاقه إلى المعركة، لأحضر نفسي لاحقاً لإحضار الخبز من المخبز القريب من حينا في مدينة مارع.
إلا أن هناك ساعات قليلة كانت تفصلنا عن اللقاء مجدداً مع أخي لكنها من نوع آخر، وفي مكان مختلف عن البيت وسفرة الطعام وجلسات السمر، في الحادي والعشرين من شهر نوفمبر / تشرين الثاني 2012، أثناء تواجدي أمام المخبز في الساعة الثامنة صباحاً بعد إيصاله بثلاث ساعات ونصف إلى مركز التجمع، تلقيت نبأ إصابته ببطنه وإسعافه إلى المشفى الميداني المتواجد داخل المدينة ذاتها، وهنا بت في هلع وخوف، لم أستطع الوقوف على قدمي، ما دفعني إلى التوجه فوراً إلى أسرتي وإخبارها عن إصابته.
ذهبت مسرعاً إلى المشفى الميداني للقاء به رأيته في ابتسامة عريضة على الرغم من الألم والنزيف الذي لا يتوقف من بطنه، بعد قليل بدأ الأطباء بالتحضير لإجراء عملية جراحية في المشفى، والتي تمت بشكل جيد، مما جعل صحته في تحسن مختلف وهذا ما ظهر عليه في اليوم الثاني، الذي قضيته معه في المشفى.
في هذا اليوم جاء محمد يودع غرفته التي أصر على العودة إليها لكنه محمولاً على الاكتاف، بدموع غزيرة لا تتوقف وعويل وصراخ غير مسبوق من عائلته وأقربائه، لأن محمد لا يدخل صامتاً هذا ليس من عادته، فارقتني يا أخي وأرهقت من حولك.
النكات والضحكات لا تفارق الأجواء داخل غرفته للإسراع بعملية الشفاء أو التخفيف من الآلام، وترطيب الأجواء كما يقال، قمت مع أخي الأكبر بالسير معه في الممر الخارجي لغرف المشفى، ليتمكن من الشفاء عاجلاً، إلا أن الحزن يملئ قلوبنا وهذا ما لا تظهره وجوهنا، وذلك لأنه يردد باستمرار أنه يريد العودة إلى المنزل والجلوس في غرفته التي فارقها لأيام قليلة. في اليوم التالي ساء وضعه الصحي وبدأ التدهور لأسباب مجهولة علمنا سببها مؤخراً، ما دفعنا إلى إسعافه إلى المشافي التركية، وبالفعل انطلقت سيارة الإسعاف إلى تركيا.
في مساء يوم السبت 24 نوفمبر / تشرين الأول، أجرينا اتصالات مع أخي المرافق له والذي قال إن حالته الصحية بدأت بالتطور إلى الأفضل، إلا أن الساعة الحادية عشر صباحاً من يوم الأحد الموافق 25 نوفمبر / تشرين الثاني تلقينا خبر استشهاده، ذلك عندما كنت أقف قريباً من المنزل وجاء صهري وأخبر أبي عندها أيقنت أن أمراً حدث، ما دفعني للركض نحو والدي الذي تقلى صدمة كبيرة.
في هذا اليوم جاء محمد يودع غرفته التي أصر على العودة إليها لكنه محمولاً على الاكتاف، بدموع غزيرة لا تتوقف وعويل وصراخ غير مسبوق من عائلته وأقربائه، لأن محمد لا يدخل صامتاً هذا ليس من عادته، فارقتني يا أخي وأرهقت من حولك.
قد لا يبدو محمد الوحيد الذي تحلى بأفضل الأخلاق شهيداً الأمر الوحيد المؤلم وإنما الأكثر إيلاماً هو عندما ترى والدتك تذرف الدموع لسنوات طويلة لا تستطيع رفع رأسها خشية الإرهاق الذي أنهكها، ووالدك الذي كسر وانحنى ظهره، وكذلك أمي هي ليست الأولى التي فقدت ابنها وإنما هناك الكثير من أمثال أمي، الذكريات باتت كثيرة الآن ولا يمكن العودة إليها، لكنها لا تزول مهما طال الأمد، هكذا هم الأحباب تؤرقنا ذكراهم دائماً ولا نستطيع نسيانهم مهما فعلت بنا ظروف الحياة.
هذا محمد الذي بكته عيون أمي التي فقدت فلذة كبدها… رحمك الله أخي وأسكنك جنان الخلد…