ذاكرة مكان

حيوان ضعيف الذاكرة

صيف 1987

تأتي معلمة الجغرافية في حجها الأسبوعي إلى مخيم اليرموك مصطحبة ابنها ذا السنوات الأربع. تقصد أولا المقبرة الجديدة حيث استقرت أمها عن قريب. تقع المقبرة جنوب غرب المخيم قريبة من حي الحجر الأسود، وتضم قبور الآلاف من أبناء اليرموك واللاجئين الفلسطينيين. ثم تتوجه صوب المقبرة القديمة، القريبة من حارة المغاربة، حيث يرقد أخوها بصحبة مئات من الشهداء الذين قضوا على مر تاريخ الثورة الفلسطينية.

بعد عام، تنتقل العائلة وتسكن المخيم، وتظل المعلمة دائبة على هذا المنسك كل خميس. ويكبر ابنها، ويظل الخميس موعد الزيارة، مع أمه في غالب الأحيان، ووحده حين تكون المعلمة متعبة من تدريس خريطة الوطن العربي. وكانت الشعائر بسيطة: قراءة الفاتحة، سقاية زريعة القبر ثلاث مرات، وإزالة الأوراق اليابسة. ستظهر في المقبرة الجديدة منصة كبيرة للخطابات والتأبين، تعلوها لوحة رخامية كتبت عليها مواد الميثاق الوطني الفلسطيني. كان الولد حينها أقصر من أن يتبين الكلمات، وحين طالت قامته إثر شبة نموه المتأخر اكتشف أن بصره حسير. فاكتفى بقراءة نسخة مطبوعة، وتعلم أشياء عن الشخصية الفلسطينية، والحق الشرعي، وعن الفرق بين التناقض الأساسي والتناقضات الثانوية، وعن كون الكفاح المسلح إستراتيجية وليس تكتيكا… ثم اكتشف متأخرا ــ كعادة كل شيء معه ــ أن هذه الأمور طواها الزمن، وأن كائنا اسمه “المجلس الوطني الفلسطيني” أعمل فيها حذفا وتعديلا.

يسأل نفسه بلغة سقيمة ومفردات منتمية: “كيف يمكن أن نصون ذاكرتنا الفردية والجمعية في ظل محاولات محو معالم كامل للتاريخ الفلسطيني من خلال محو آثار الشهداء؟ وما هي العقلية الإجرامية التي تعاملت مع تاريخ شعب مظلوم بهذه الطريقة؟” ليتبين لك أنه يقصد العدو الصهيوني الذي أنهى وجود اللاجئ الفلسطيني اليرموكي بالقرب من حدود وطنه، ودمر المنازل بشكل كامل، وأحرق المقابر.

كانون الأول 2019 

يزور مراسل قناة “العالم” الإيرانية مخيم اليرموك، تحمله أشواقه الإيديولوجية إلى مقبرة الشهداء ــ يقصد الجديدة ــ التي يصفها بأنها حارسة الذاكرة الفلسطينية. يبحث عن قبر الشهيد فتحي الشقاقي ــ وإلا علام يتكبد هذا العناء؟ــ فلا يجد غير شاهدة محطمة تحمل بقايا اسمه. تتأكد له بذلك صحة الأخبار المؤلمة التي كان ينقلها عن شاهدي عيان إلى فضائيته المقاومة. يسأل نفسه بلغة سقيمة ومفردات منتمية: “كيف يمكن أن نصون ذاكرتنا الفردية والجمعية في ظل محاولات محو معالم كامل للتاريخ الفلسطيني من خلال محو آثار الشهداء؟ وما هي العقلية الإجرامية التي تعاملت مع تاريخ شعب مظلوم بهذه الطريقة؟” ليتبين لك أنه يقصد العدو الصهيوني الذي أنهى وجود اللاجئ الفلسطيني اليرموكي بالقرب من حدود وطنه، ودمر المنازل بشكل كامل، وأحرق المقابر. ثم تحمله التداعيات العفوية إلى العام الذي اغتيل فيه الشقاقي، وإلى الجنازة/المظاهرة المهيبة التي شهدها اليرموك عامئذ، فلا تحط به هذه التداعيات إلا على الحدث البارز يومها في الجنازة: حضور قادة حزب الله، والوفد الإيراني الذي ضم مئتي مسؤول. ثم بشطحة صوفية سببها فرط الوجد يخبره لسان حال حارس المقبرة “إن عظام الشهداء تهدهد لتراب مخيم اليرموك كما تهدهد الأم لطفلها”. فلا تملك مآقيك غير أن تذرف ما تبقى فيها من دموع.

حزيران 2019 

تواترت الأنباء، وكثرت الروايات، وتلاقت المصادر وتقاطعت، وكانت الخلاصة أن مجموعة من الضباط الروس دخلوا إلى مخيم اليرموك مطلع الشهر برفقة مجموعة من ضباط في قوات النظام، بالإضافة إلى عناصر من فرعي “الأمن العسكري” و”المخابرات الجوية”. ونُصِبَت حواجز عسكرية في محيط المقبرة القديمة، ومداخل الأحياء القريبة منها، لمنع المدنيين في المخيم من الاقتراب من المقبرة. وبدأت عمليات حفر بهدف الوصول إلى جثث ومقتنيات شخصية للجنود الإسرائيليين الذين فُقدوا في معركة “السلطان يعقوب” في لبنان 1982. ومنعت حواجز النظام، على مدار أيام عيد الفطر، دخول وفود من الفصائل الفلسطينية ومن “منظمة التحرير الفلسطينية” إلى المقبرة القديمة، بحجة وجود عمليات ترميم بداخلها. وسُمح لهم فقط بالتجول ضمن المقبرة الجديدة بوجود قوات النظام، وبشرط وجود موافقة أمنية لكل شخص يرغب بالدخول. ومن بين من مُنعوا دخول المقبرة أمين سر “منظمة التحرير الفلسطينية” سمير الرفاعي.

 في أيار من العام نفسه، تم الإعلان عن مشروع تنموي إغاثي لتنظيم المقبرة وتنظيفها برعاية مؤسسات مدنية وإغاثية مثل مؤسسة جفرا، وبتمويل من منظمة التحرير الفلسطينية، وبدعم فصائل فلسطينية مقتصر على توفير الأدوات للمشروع. ثم يستدرك المصدر “بالمناسبة هو المشروع الوحيد الذي تم السماح له من قِبل القوات الروسية”.

هذه مجرد أنباء وروايات ومصادر، لكن الأكيد أن القوات الروسية في آذار من العام نفسه كانت قد فرضت طوقاً على مخيم اليرموك للبحث عن الجنود الإسرائيليين المفقودين، وتم الإعلان فيما بعد عن تسليم رفات الجندي الإسرائيلي “زاخريا باومل” للاحتلال بعد العثور عليه في مخيم اليرموك. هذا ما أكده معهد الطب الشرعي في تل أبيب، لتنعم روح هذا الجندي أخيرا بالسلام في أرض اللبن والعسل. هذا المعهد تحدث عن استلامه سبعة وعشرين رفاتا لينتشل منها بقايا “باومل”. وماذا عن ستةٍ وعشرين رفاتا الأخرى؟ من يدري؟ ربما يكون من بينها رفات أبو جهاد أو سعد صايل أو عز الدين القلق أو عبد الكريم الكرمي.

أيار 2020

أخيرا يزور مسؤول فلسطيني رسمي “المقبرة”. تنقل صحيفة الحياة الجديدة وهي “صحيفة يومية سياسية شاملة تصدر من رام الله” الخبر بوصفه انتصارا جديدا ينضاف لكومة الانتصارات التي حققها “رئيسها”. ما بين قوسين مربعين هو تعليق مني للإيضاح، ولا تُسأل عنه الصحيفة:

“زار مدير عام الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية السفير أنور عبد الهادي [هما منصبان إذن، أي راتبان] وبتوجيهات من رئيس دولة فلسطين محمود عباس [معلوم أن عبد الهادي لا يستطيع القيام بخطوة جريئة كهذه دون مرسوم من الباب العالي] اليوم الأحد، أول أيام عيد الفطر السعيد [لا يزال هذا هو الاسم الرسمي لهذه المناسبة في رام الله] مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك [ولا أدري أيهما]، كما زار الأهالي المتواجدين [كذا، وليس: الموجودين] داخل المخيم للاطمئنان على أوضاعهم والاستماع إلى مشاكلهم [من ههنا تستشري السريالية].
وأكد عبد الهادي أن الرئيس عباس، رغم جميع المؤامرات التي تحاك ضد القضية الفلسطينية [لا يذكر الخبر واحدة منها]، لا ينسى شعبه في الشتات، وخاصة في مخيم اليرموك [أي: ما كان] ودائماً يوجه باستمرار لمتابعة أوضاعكم [أسلوب بلاغي يسمى الالتفات ينتقل فيه الكلام من الغائب إلى المخاطب] وتأمين ما تحتاجونه.
ووجه الأهالي تحياتهم للرئيس عباس [هذا أقل الواجب الديني والسياسي]، والتهاني والتبريكات لسيادته بمناسبة العيد، وأكدوا أن الرئيس عباس هو رئيسنا، ومنظمة التحرير الفلسطينية ممثلنا الشرعي والوحيد، وثقتهم [أي أكدوا] بقيادته شعبَنا إلى الحرية والاستقلال.”

تُقتل في أرض غير أرضك، ثم تدفن في أرض غيرهما، ثم ينساك الأقربون، ثم يُهدم قبرك ويُزال عنه اسمك الشريف، ثم يُنبش رفاتك، ثم يتمسحون بك علّهم يذهبون بشيء من دنسهم، وأنت هناك، تسخر وتألم، بجسدك الذي تحلل، وصار نُسغا في نبتة، أو قطرة من زجاجة عطر.

تموز 2020

خلال سنوات الحصار طال المقبرتين دمار درسَتْ في إثره المعالم. قذائف هاون، وبراميل، وصواريخ ذات أسماء عجائبية، وسودُ غربانٍ رأتْ فيهما مخالفة للشرع، وشتاء مثلج عام 2015 أدى لانهيار قبور لا زائرين لها، ثم لصوص ومقاولون يتّجرون بالإرث الذي يضم “قطرة الشرف الوحيدة في بئر الدعارة العربي”. ولأن الموت ذاكرته ضعيفة، تراه لا يزورك مرة واحدة فحسب: تُقتل في أرض غير أرضك، ثم تدفن في أرض غيرهما، ثم ينساك الأقربون، ثم يُهدم قبرك ويُزال عنه اسمك الشريف، ثم يُنبش رفاتك، ثم يتمسحون بك علّهم يذهبون بشيء من دنسهم، وأنت هناك، تسخر وتألم، بجسدك الذي تحلل، وصار نُسغا في نبتة، أو قطرة من زجاجة عطر.

الصورة من تصميم: المأمون محمد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 × ثلاثة =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى