الموعد الأخير

الخامس عشر من أيار، كان موعدنا الأخير، كان ختاماً لأربعة عشر عاماً من تأخري بالمواعيد التي أضربها معك، أربعة عشراً مرت لم ألحظ فيها كم كبرنا وكم هرمنا وكم كُسرنا فقط لأنك كنت فيها، دقائقٌ من التأخير كانت الفيصل بيني وبينك يا صديقي.
كنت قد واعدت صديقي محمد الرباح أمام تكية الراوي لكي نذهب بمشوار خارج المدينة، إذ كان قليلاً ما يغادر المدينة، وإن غادرها لا يغادرها بدوني، فأنا وعلى مقولته “أجعل الوقت يمضي بسرعة ودائماً ما أجد شيئاً يسليني” كان يرسل لي منذ الصباح رسائل نصية يذكرني فيها بالموعد، وفي الساعة الرابعة من عصر ذاك اليوم الأسود توجهت من حي الحميدية لحي العرضي مكان اللقاء، ولكن جارتي أوقفتني لتسأل كعادتها عن أهلي وأحوالهم وأخوتي، ولم تتوقف عن الحديث حتى قاطعتها بصفرة قوية أردفتها بعبارة “يا إلهي كم تأخرت” لأستدير وأمشي مسرعاً نحو وجهتي، كددت بالمشي لأني أعرف محمد سيسمعني موشحه المعروف منذ أربعة عشر عاماً والذي أحفظه عن ظهر قلب “وآخرتها معك. إن جئت مرة واحدة على الموعد سأذبح كبشاً فداءً لله. الكل كبر بالعمر إلا حضرتك لن تكبر. قلت لزوجتي إن جاءنا طفل مثلك سأرميه من النافذة أنت لوحدك كفيل بقتلي”.
دخلت المشفى التي أعرفها عن ظهر قلب وأنا تائه كطفل، نظرت بوجوه الطاقم الطبي الذي بدأ العمل كخلية نحل فوقه وهو ممد على السرير، حاولت الاقتراب لكني سرعان ما عدت للخلف بضع خطوات
عبرت شارع التكايا الفاصل بين حيي والحي الذي تواعدنا فيه وبدأت أرى محمد وقد لاح في الأفق، عندما رآني ركب دراجته النارية واتجه نحوي، بدأت أعد في مخيلتي كذبة مقنعة لتأخري، وأنا أنسج الكذبة سمعت صوتاً قوياً صم أذني، كثر الغبار حولي، وانهالت الحجارة عليَّ كالمطر، عرفت مباشرةً أن قذيفةً سقطت بالقرب مني، قد تكون فوقي، أو على بعد أمتار عني، ولكني حين فتحت عيني عرفت أن ما سقط هو صاروخ أرض-أرض وقد كان يبعد عني مئة متر تقريباً.
ركضت باتجاه مصدر الغبار فهناك الصاروخ قد حط رحاله، وبدأت أصرخ ” يا أهل الخير. هل هناك مصاب” لتبدأ الأصوات تكثر حولي، والكل منادٍ مثلي. الحمد لله الصاروخ مر بدون ضحايا، وعندما تنهدت صرخ أحدهم “هنالك رجل هنا، تعالوا أسعفوه” ركضت نحو الصوت.
كان ممداً والدم تحته كبركة، عرفته مباشرة فأنا لا أضيع وجهه، أعرفه أكثر من أخوته، هممت لأبدأ الإسعافات الأولية لكني لم أستطع، كنت أظن نفسي أقوى من ذاك، بدأت أصرخ كالطفل وانا أستجدي الناس. حمله بعض الشباب واتجهوا به نحو مشفى الشيخ ياسين الميداني، دخلت المشفى التي أعرفها عن ظهر قلب وأنا تائه كطفل، نظرت بوجوه الطاقم الطبي الذي بدأ العمل كخلية نحل فوقه وهو ممد على السرير، حاولت الاقتراب لكني سرعان ما عدت للخلف بضع خطوات، نظر باتجاهي الطبيب والذي كان صديقاً لي وقال:
-هل هو أخاك.
-كأخي.
-وماذا تنتظر؟؟؟؟ اقترب وساعدني.
جمعت شتات قوتي وركضت نحوه ضممته بقوة، وباشرت في قص بنطاله، بينما البقية يتفحصون صدره، وجدت بضع جروح لكنها طفيفة، أزحت نظري للأعلى لأجد الدكتور قد باشر بنفسه العمل على جرح كبير وسط صدره، ركضت باتجاه غرفة العمليات لأبلغهم أن عملية قادمة إليهم، لأفاجئ بمحمد وقد توسط غرفة العمليات، انتهى دوري هنا فالعمل من هنا لمن هو مختص وليس لي.
نصف ساعة مرت ومحمد لا يزال في غرفة العمليات، بدأت أسترجع ذاتي أرسلت رسالة نصية لأخوتي لكي يبلغوا أخوته ويأتي الجميع للمشفى، لتتوقف أصابعي عن الارسال. لوهلة سمعت صوتاً لا أحبذ سماعه إنه صوت آلة تخطيط القلب وهي تنعي من عليها، هذا الصوت الذي طالما سبب لي الغثيان، ليكون اليوم أشد وطأة عليَّ، ركضت باتجاه الغرفة وكان الجميع واقفين حوله وهو جسد بلا روح، دنوت منه فوجدت عينيه مغلقة، تنهدت بحرقة وقلت: “حسبي الله وهو نعم الوكيل”، لتنهال عليَّ التهاني من الجميع “مبارك عليك. عريسٌ في الجنة. شهيدٌ بإذن الله”.
مشيت أول الجنازة صامتاً، لم أبك للآن. مرت الساعات الأربعة السابقة عليَّ كدهر من الألم ولم أبكِ، فصديق عمري الآن في الجنة. أنا أعلم ذلك. في الجنة وحيداً، في الجنة دوني، غصصت بقوة وحصرت دمعتي، بكيت على أخوتي وأقاربي، على الحجر، والبشر، والفرات، وحتى الهواء في مدينتي، إلا أنت، فأنا لا زلت أمامك ذاك المراهق الذي قابلته في مقعد الدراسة، لتبدأ صداقتكما بالقليل من الكره الذي سرعان ما تحول للكثير من الود والحب، كيف أبكيك وأسمح لك أن تقول لي بأني ضعيف يستحق الشفقة، لن أبكيك لأني رجل والرجال لا يبكون يا صديقي، الرجال يموتون. ولم سأبكي عليك ها، ألا تذكر كيف عاملتني بحقارة حينما تركتني أعود مراراً لبيتي لأنك كنت لا تود أخذي معك على دراجتك الهوائية، وها أنت بعد أكثر من عشر سنوات لا زلت تعيد الكرة وتذهب لوحدك، حتى الجنة اخترت أن تذهب إليها لوحدك، لم تأخذني أو تأخذ زوجتك معك.
لم تركتني يا محمد، لم تركت زوجتك زميلة الدراسة التي ضحيت بكل شيء لتتزوجها، حتى اللحظة صوتها وهي تناديني وتستحلفني بالله ألا أدفنك في رأسي، فهي مثلي لم تشبع منك بعد، كانت تناديني بحرقة فأنا الوحيد الشاهد على حبكما. قالت لي لم أنت ساكت فمحمد لا يتركني وأنت تعرف. نعم أنا أعرف أنه لا يريد تركنا ولكنه القدر.
مرَّ بجانبي أخ محمد الصغير وربت على كتفي وقال: “البقية بحياتك” ليمرَّ بعده أخي ويردد ذات الجملة، هنا فهمت الحقيقة، محمد أخي أكثر من أي أحدٍ آخر، الجميع يعلم أنه نصفي الآخر إلا أنا، الجميع حولي يحاولون التخفيف عني لأنهم رأوا ما أنا عليه، بقايا مما تبقى من إنسان. لتبدأ الدنيا تضيق على صدري المشبع بمورفين الرجولة والشهادة والجنة والحوريات، ويبدأ مفعوله بالزوال كلما اقتربنا من المقبرة خطوة.
وصلنا المقبرة -والتي كانت عبارة عن حديقة تحولت بفعل مرور الموت لمقبرة- لم أتفاجأ حين رأيت قبر محمد وقد توسط قبر أخيه الشهيد شادي وأمه التي ماتت كمدأ عليه، صلوا عليه، وحينما وضعوه في القبر اقتربت وأبعدت الجميع عنه، قبلته من رأسه، ودعته، وابتعدت، ورأيتهم وهم يوارونه الثرى، ويودعونه واحداً تلو الآخر حتى النهار تخلى عنا وبقينا فقط أنا وهو.
اقتربت وأبعدت الجميع عنه، قبلته من رأسه، ودعته، وابتعدت، ورأيتهم وهم يوارونه الثرى، ويودعونه واحداً تلو الآخر حتى النهار تخلى عنا وبقينا فقط أنا وهو.
“الله يرحمك يا أخي” هذه كانت أول جملة لي بوسط يوم من صراخ الأفكار المتزاحمة في رأسي، ولم أكملها حتى اختنقت بعبرة كالجمر، جعلتني أبكي وأبكي بلا توقف، ليتحول البكاء لنحيب، لم تعد تهمني الرجولة ولا الغرور، ولا يهمني إن كُنت في الجنة الآن، أنا لا أبكي عليك لأنك متّْ بل بكائي لأنك تركتني هنا، وعلى أربع عشرة سنة كنت جزءاً منها، ساكنا في تفاصيلها.
بقيت على هذه الحالة لمنتصف الليل، توسدت حيناً قبره، وحيناً توسدت الذكريات، حتى مرّ أخوتي وهم يبحثون عني، أخذوني للبيت لأنام نوماً عميقاً مؤلماً، وأفيق بعد ذاك اليوم وأنا كل يومٍ أرمم داخلي من ذكرياتي وأذهب لقبره وأسقيه ولم أتأخر يوماً على قبره عله يسامحني عن كل لحظة جعلته ينتظرني فيها.