ذاكرة لجوء

عودة لحضن الوطن

لم أعد أحتمل، جئت لألملم روحي فتناثرت أكثر وضاعت في هواء اللا انتماء. وتقلصتُ على نفسي أكثر لأحافظ على الجزء المتبقي مني، فكانت الوحدة واقعي، وغدوتُ كحبة مطرٍ ضاعت في رمال الصحراء.

لم يكن ذلك تصوري عن الغربة والسفر، كنت أعتقد أن مجرد خروجي من وطني أو ما أعتقده كذلك، سيعيد لي هدوئي وسكينتي، مجرد ابتعادي عن قلق القذائف والاعتقال والموت المجاني والقهر الموزع في الشوارع في كل مكان من هذه البلاد، سيعيد لي روحي المفعمة بحب الحياة وسيفسح الطريق مجدداً لنموها العفوي في بلادٍ جديدة تحترم معنى أنك إنسان له حقوقه وحريته في العيش بسلام والنوم بهدوء والتعبير عن نفسه دون خوفٍ من الاتهام والملاحقة، في بلادٍ يمكنك السير في شوارعها دون خوفٍ من قذيفةٍ طائشة أو رصاصة طائشة. حيث يمكنك حينها التفكير بنفسك وبما ترغبه وتريد تحقيقه في الحياة.

كان ذلك كل ما أحلم وأفكر به حين قررت مغادرة البلاد واللجوء إلى إحدى الدول الأوروبية، شجعني الكثيرون على خطوتي ونبهني الكثيرون منها، لكن أكثر من علقت كلماته برأسي كان والدي حين قال لي: “لا تخلط بين الوطن أو البلد الذي تنتمي إليه وبين الوطن بمفهمومهم هم، أنت تعيش في بلدك وهو انتماءك بكل ما فيه من بشر وأصدقاء وعائلة وأماكن وذكريات، ولغة وسلوكيات الناس وطرق مزاحهم وطرق تعايشهم مع السلطة وطرق تحديهم لها، هذا هو بلدك ولا يقوى أحد على مصادرته منك. وإن خرجت فستخسره وتصبح كغصن شجرةٍ مقطوع.”

حينها بدأت أقطع أوصال ذاكرتي مع الأماكن التي أحبها وتربطني بها علاقة طويلة، وكأنني بدأت بإقناع نفسي بأنها لا تشكل الكثير في حياتي سوى انها تتكرر أمامي يومياً، وأني حين سأبتعد عنها ستزول تلك العلاقة الحميمية رويداً رويداً خاصة مع بداية تعرفي على أماكن جديدة في الخارج وارتباطي بها،

لم أبالي كثيراً بتلك الكلمات حينها، واعتقدت بأنني سأتجاوزها مع بداية اندماجي في الخارج ودخولي الحياة الجديدة، لكنني اليوم أحياها وأعيش كل حرفٍ منها، نعم إن بلدي يختلف عما يدعونه بلدي ويمكنني أن أحياه بعيداً عن خطاباتهم وسياساتهم وإن تأثرت بهم وبتغولهم في حياتنا، لكن ما زال هناك متسع من الحرية وجدت أنه يمكننا أن نحيا فيه وأن نشكِّل روابطنا بداخله ونقاومهم ونستمر في يومنا كما نريد إلى أكبر حد ضمن الحدود الممكنة.

كنت قد قررت اللجوء في أواخر العام 2015، حينها بدأت أقطع أوصال ذاكرتي مع الأماكن التي أحبها وتربطني بها علاقة طويلة، وكأنني بدأت بإقناع نفسي بأنها لا تشكل الكثير في حياتي سوى انها تتكرر أمامي يومياً، وأني حين سأبتعد عنها ستزول تلك العلاقة الحميمية رويداً رويداً خاصة مع بداية تعرفي على أماكن جديدة في الخارج وارتباطي بها، وهكذا بدأت أقتنع وأكرر في أحاديثي أن علاقتي مع هذه الأماكن والأشخاص لا تعدو كونها تعلقاً رومنسياً محضاً يعيقني عن التقدم في الحياة.

غادرت دمشق وصولاً إلى لبنان هناك حيث شاهدت الناس تهم إلى أعمالها ويومياتها وكأن لا أحد يكترث لما يجول بداخلي، فشعرت بأن عليّ أن أنشغل أنا أيضاً بما يلهيني عما يثقل على صدري، فالنظر إلى الناس وهي تسارع إلى أعمالها وأشغالها يوحي لك بأنك وحيد وأنك لا تشكل شيئاً بالنسبة لهم، وما شعورك بأن عليهم أن يتوقفوا عن العمل ويلتفتوا إليك سوى شعورٌ طفوليٌ عليَّ التخلص منه سريعاً.

لم تكن لبنان سوى محطة عبور إلى المطار ومن ثم تركيا مروراً بالرحلة الشاقة عبر البحر ومخاطره إلى أوروبا، هناك حيث بدأت أشعر بأن علي أن أكون كل شيء بالنسبة لي أي أنه علي أن أكون الأخ والأب والأم والأصدقاء وأن أتحاور مع هؤلاء بداخلي، فهنا لا يوجد أحد أعرفه أو على الأقل يعرف لغتي ويمكنني التحدث إليه. أخرج لمشاهدة الناس وحياتهم فأشعر وكأنني أشاهد فيلماً سينمائياً إذ لا يمكنك التدخل بالسيناريو أو الإخراج، وما عليك سوى المشاهدة فقط. أنت مختلف عنهم هم يحيون هنا ويسيرون بين أماكنهم وذكرياتهم وأصدقاءهم، أما أنت وكأن آلة الزمن رمت بك في زمن غريب لتتجول قليلاً بين شخوصه، لدرجة تشعر معها وكأنك إن لمستهم لن ينتبهوا إليك.

لم يدم الأمر طويلاً حتى دخلت في حالة من الاكتئاب الحاد، فلا تواصل بيني وبين من حولي، وبالكاد تسعفني لغتي الإنكليزية الضعيفة في إيضاح ما أريد أن آكل أو عن نيتي في الخروج والمشي، حتى أني كنت أمشي كي أشعر بالتعب علَّه يغلب على شعوري بالوحدة والرغبة بالانفجار بكاءً. كانت صور مدينتي لا تفارق مخيلتي وصور أصدقائي كذلك حتى أني كنت أشتاق لأقلهم علاقة بي، كنت أمشي وأشعر أني لو وجدت أحدهم لارتميت في أحضانه وانفجرت بالبكاء، بل وكأنني أبحث عنهم بين وجوه المارة الكثيرين.

فقدت الشعور بالعلاقة مع محيطي حتى من الغابات والأشجار والمناظر الخلابة التي تزخر بها أوروبا، فلا معنى لوجودك في الجنة وحيداً، نعم وحيداً فكل من أراهم لا علاقة لي بهم، كان شعوري يشبه شعور مراهق خرج للتو من علاقة حب فهام على وجهه في الشوارع، ولن يخفف شيئاً مهما بلغ جماله وزخمه من الحمل الجاثم على صدره.

ولم يعد لي سوى جسدي وحاجاته البيولوجية للاستمرار على قيد الحياة، لكن لا على قيد الوجود. وفوق ذلك كله فأنا هنا بلا عمل أعبر به عن شخصيتي وأقدم للمجتمع ما يشعرني ببصمتي ومكانتي، ما يشعرني بأني إنسان منتج له دوره في عجلة الحياة، فأنا مجرد كائن يأكل ما يتم تقديمه إليه من طعام وينام حيثما تم تقديمه إليه من مساحة خاصة.

يا إلهي ما أضعف الإنسان دون محيطه، ذلك المحيط الذي يشكل امتدادك وهويتك، يمنحك الشعور بأبعادك وموقعك ضمنه، يمنحك القدرة على معرفة خصالك الشخصية، كم أنت مرح وكم أنت حنون أو قاسٍ أو اجتماعي، كم أنت متكلم أو مثقف ولك تجربتك في الحياة وذاكرتك وطبعك الخاص. كل ذلك فقدته هنا، ولم يعد لي سوى جسدي وحاجاته البيولوجية للاستمرار على قيد الحياة، لكن لا على قيد الوجود. وفوق ذلك كله فأنا هنا بلا عمل أعبر به عن شخصيتي وأقدم للمجتمع ما يشعرني ببصمتي ومكانتي، ما يشعرني بأني إنسان منتج له دوره في عجلة الحياة، فأنا مجرد كائن يأكل ما يتم تقديمه إليه من طعام وينام حيثما تم تقديمه إليه من مساحة خاصة.

كانت دروس اللغة تزيد من ثقلها عليَّ، وتزيد من شعوري بالعجز فاللغة بحرٌ كبير وطريق طويل، لا يعني تعلمي لبضعة كلمات منها كل يوم شيئاً، فإتقاني لكيفية التكلم مع شخص في الشارع للاستدلال على منطقةٍ ما ليس سوى إتقاني للمزيد من التسكع في مشاهدة فيلم الحياة هنا، والحصول على مشاهد جديدة.

أعترف بأن ما ورد لدي من كلام قد ينم عن ضعف واستسلام وضعف القدرة على الصمود طويلاً، وهناك من تجاوز كل ذلك وبدأ في شق طريقه نحو حياةٍ جديدة هنا، أو هناك من جاء مع شخص آخر يشاركه حياته فيخفف عنه ثقل البداية وحيداً. لكني كنت أتساءل بداخلي عما يضطرني للصمود أصلاً ولماذا عليي أن أضع نفسي في هذه التجربة الصعبة والطويلة لبناء حياتي من جديد وأنا التي تجاوزت الثلاثين عاماً وكنت أمتلك حياةً وعملاً وهوية وعلاقات يصعب عليك بناء مثيلٍ لها من جديد، خاصةً وأن العلاقات لا تأتي هكذا بمجرد قبول الآخر بل تحتاج سنيناً كي تنضج وتغدو جزءاً منك. جزءاً بداخلك تحاوره وتناقشه حتى وأنت وحيد، فكل ما كنت أراه هنا وأعايشه كنت أخزنه في ذاكرتي بطريقة الذي يريد أن يتحدث عنه لأصدقائه القدامى، الذين لن يمحيهم شيئاً من الحياة الجديدة، لذلك كنت قد بدأت أدرك في سريرتي أنه مهما بلغتُ من الحياة هنا فإن انتمائي ما زال هناك وعقلي ومخيلتي وحواراتي ما زالت هناك في وطني البعيد.

بدأت تخالجني فكرة العودة وإنهاء كل شيء هنا، نعم قلت أنه قد يكون ضعفاً وأعترف بذلك لكني غير مستعدة لهذه التجربة ويبدو أني لم أعد راغبة بها، فلا معنى لحياتك وأنت وحيد، فالمعنى هو في موقعك في مكانك، مكانك الجغرافي أو في العمل أو فيما تريد، وغير ذلك لا يعني سوى أنك وكما قال لي والدي قبل خروجي لا يعني سوى أنك غصن شجرة مقطوع.

نعم قررت العودة إلى ما يسمونه هم حضن الوطن، لكنه بات يعني لي اليوم حضن الانتماء وحضن الإصرار على الوجود في وجههم، حضن الأصدقاء والأماكن التي حييت بها، حضن الشوارع التي عانقت بها أصدقائي مودعاً، حضن البيوت التي تستقبلني برحابة صدرها وتسألني عن حالي فأبدأ بتعريف ذاتي وإدراك أبعادها، تلك الأبعاد التي تقطع مع حضن وطنهم، ونشكل ضمنها وطننا.

نعم عدت إلى هنا، وها أنا اليوم أتكلم وأعبر عن نفسي، وأتحدث لأصدقائي عما شاهدت وعايشت، بعد أن صمتت طويلاً وكبتت نفسي طويلاً، وكأني عدت إلى الحياة مجدداً، أتنفس الصعداء وأعيد ترتيب ذاتي حيث أنتمي وحيث أنعم بأن أكون أنا مثلما أريد أن أكون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

1 × اثنان =

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى